أصبح علاج السلوك البشري سمة من سمات العصر، فظاهرة الكتب التي تملأ رفوف المكتبات والتي يسعى مؤلفوها إلى إقناع الناس بطرق تجعلهم سعداء في حياتهم، تنتشر في معظم المجتمعات.
علاج الروح بوساطة الجسد، شعوذة علم أم تجارة؟.
من وراء هذه الأساليب ونشرها؟
بين الدجل والكذب والاحتيال من جهة، والتمثيل والخداع والنفاق من جهة اخرى، يقع ضحاياً “المعالجين الروحانيين” الذين يأخذونهم على محمل الجد ويضعونهم في عالم من الأوهام.
ويكفي ان يدخل الانسان إلى إحدى المكتبات، وبخاصة في الدول الغربية، ليلمس حجم التأثير الذي يفرضه اولئك المعالجون في شتى أنحاء العالم على الناس.
بعض الكتب يتحدث عن تطوير قدرات الذات، والبعض الآخر يتحدث عن مقومات السعادة أو عن أسرار الحب الدائم، كما ان هناك مجموعة من الكتب تهتم بعلم الأعصاب وبالذكاء العاطفي، أو بالعلاجات الشافية من الامراض المستعصية وإعادة التوازن إلى العقل والجسد.
وثمة مئات العناوين التي تعتني بالنفس البشرية والتي تصب كلها في خانة الصحة والسعادة الأسرية والزوجية والمهنية. توقف عن التدخين، سيطر على التوتر، الحظ إلى جانبك، كيف تجد توأم روحك؟ ابق هادئاً وغير ذلك من العبارات التي تجذب كل من يشعر بأنه في حاجة إلى الدعم والمساندة ليخرج من دائرة المعاناة.
لكن لماذا يبحث الناس باستمرار عن تغيير أنماط حياتهم؟ ولماذا يلجأون إلى “المعالجين الروحانيين” سواء عن طريق كتبهم أو عن طريق استشارتهم مباشرة؟.
يقول أحد علماء الاجتماع إن الحياة كانت في الماضي اكثر سهولة وكانت القواعد الحياتية تنتقل من جيل إلى جيل بسلاسة. أما اليوم فالإنسان يبحث عن معنى آخر لحياته وعن الالتحام اكثر بقيم ذاتية، لكن المشكلة تكمن في انه ليس هناك معالم محددة للتصرفات. لذا يلجأ الانسان إلى التزود بالمعلومات ليكون واثقاً اكثر من اختياراته، وكي يتعرف اكثر على قواعد اللعبة حتى لو كان لا يطبقها.
ويرى علماء النفس ان سعي الانسان وراء السعادة أدى إلى نجاح كتب “المعالجين الروحانيين”، وقد تحولت قراءة هذه الكتب في بعض البلدان إلى نوع من الإدمان.
ويتساءل أحد أصحاب المكتبات في فرنسا عما اذا كان هناك موضوع لم يطرح بعد، فهو يرى ان الكتب التي يقبل عليها الناس اليوم بكثرة قد تناولت كل الموضوعات الحياتية. ويرى المحللون ان نجاح العلاج الروحاني ما زال في بدايته ذلك ان “التطوير الذاتي” اصبح ضرورة ملحة، بل أضحى مثل فيروس ينتقل بالعدوى مختاراً لنفسه أقصر وأسهل طريق للانتشار، ألا وهي طريق الهواء التي يتردد فيها تأثيره عبر الكلام من شخص إلى آخر.
عالم أم مشعوذ؟: تقول أوديل جاكوب مدير عام لإحدى دور النشر في فرنسا، انها تتحدث عن “الاشفائيين” أو “المعالجين الروحانيين” دون وجل، ففي الهند معنى هذا المصطلح “سيد روحاني أو ديني”، وهو في المجتمعات الغربية عالم يعتمد على مراجع كبيرة ويتحدث بلغة علمية، روحانية، دينية أو تربوية لدرجة ان الناس يشعرون انهم في حاجة ليتخذوها دليلاً لهم في حياتهم.
وتضيف أوديل قائلة: ان الاشفائيين يمكن ان يحملوا رسالة خاطئة تتضمن شعوذة وتنجيماً، فلا بد من تمييز الرسائل الصحيحة من تلك المزيفة.
ازدياد الظاهرة: في الواقع، ينمو سوق “علاج الروح والجسد” في المكان الذي تزدهر فيه الطوائف الروحانية سواء كان المسؤولون عنها اشفائيين أم مشعوذين. وهذا ما يجعل المرء المتطلع إلى تطوير الذات يقع في التناقض، فهو من ناحية يريد تطوير ذاته معتمداً على الخبراء في هذا المجال، ومن ناحية اخرى لا يريد ان يقع في محظور الشعوذة والاحتيال.
في الغرب، تتعاظم هذه المشكلة يوما بعد يوم، فالناس يلجأون بالألوف إلى الإصدارات التي تشكل دليلاً يساعدهم في ايجاد درب السعادة لكنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون التمييز بين الدجالين والمعالجين الفعليين.
وفي الوقت الذي تراجعت فيه بعض الطوائف الروحانية كالعلماوية ومون وأكروبول الجديد، ظهرت في الساحة طوائف اخرى لديها معالجون روحانيون وحكماء ومحللون نفسانيون واشخاص يساعدون على تطوير الشخصية.
ويرى أحد الخبراء في فرنسا ان الناس يدخلون إلى تلك الطوائف بملء ارادتهم والأتباع ليسوا ضحايا لأنهم يكونون بكامل وعيهم.
لكن هذا لا ينفي تأثير المعالجين الروحانيين الذين يملكون قوة كبيرة تساعد من يلجأ اليهم في التحرر من بعض “القيود” واكتشاف قدرات جديدة في انفسهم.
ويتحدث المعالجون الرحانيون عن التجربة الصوفية والاسترخاء وعن مشاعر اخرى تحدث عنها فرويد في الماضي، كما يتحدثون عن جوانب علاجية نفسية ما ورائية.
ومن جلسة إلى اخرى، يرتبط الأتباع بالمشعوذين ويمتدحون أساليبهم المعتمدة على البرمجة اللغوية العصبية، وعلى التحليل التصالحي والطاقة البيولوجية والتأمل والتخيل.
ويمكن للخاضع لتلك الجلسات مثلاً ان يصبح في تخيله “بيل جيتس” مليونير الحواسيب أو اي شخصية اخرى يحلم بها!.
ويفسر الخبراء ارتباط الأتباع بالمشعوذين على انه حاجة لحماية انفسهم من الشر المحيط بهم. ويستمتع المشعوذون بدورهم بذلك الضعف الذي يظهره أتباعهم، ومن رون هوبارد إلى رائيل، مروراً بمها ريشي ماحشى يوغي وموسى دافيد، يتبجح مؤسسو الطوائف الروحانية بقدراتهم الخارقة على مواجهة الشر والانتصار عليه، إلى درجة ان بعضهم يدعي انه أسهم في شفاء مرضى من السرطان معتمداً على الافكار الايجابية، كما يتحدث البعض الآخر عن قدرته على طرد المخلوقات الفضائية من الارض ومنعها من اجتياحها.
هذا يعادل الموجات السلبية، وذاك ملم بالطقوس وتقنيات الشعوذة التي تعالج آلام الجسد والروح، والاتباع مستعدون للثقة بهذا وذاك وتسليمهم اجسادهم وأسرارهم.
ويدعي المشعوذون انهم يسعون إلى القضاء على البؤس والفساد والمعاناة التي تثقل كاهل الانسانية. ومن هذا المنطلق دخل كثير منهم المستشفيات والجمعيات الخيرية وداخل الجماعات المناهضة للإجهاض والإباحية.
ويستطيع المشعوذون جذب الناس عن طريق رسائلهم الاجتماعية والسياسية.
نزعة عدمية: يجسد المشعوذون شكلاً من اشكال المقاومة لكبح تطور المجتمع من خلال عودتهم دائما إلى القيم التقليدية، لذا نجدهم امام أزمات السلطة يؤكدون مطالبتهم بحكومة تستهوي الجمهور ولا يستطيع اي من أتباعهم معارضتها.
وفي غياب النماذج الحياتية والأمثلة الاخلاقية التي كانت في الماضي تشكل قاعدة تربوية، يفرض المشعوذون أنفسهم كنماذج حكيمة تتسم بالفضيلة والاخلاق.
ومع تدهور الروابط الاجتماعية، تظهر قوة المشعوذين في إعادة التلاحم والأخوة. وتزداد خطورة التجمعات الطائفية، عندما يتخفى أفرادها خلف مظاهر دينية، فيستطيعون بذلك دس سمومهم في المجتمعات، وبخاصة بين الشباب، فعندما تستغل الروحانيات الدينية في اعمال الشعوذة قد تؤدي إلى الموت.
هذا وقد صعق الخبراء الذين قاموا بدراسة مختلف الطوائف الروحانية بنزعتهم العدمية، فقوة الموت تتحكم بمعظم الطوائف، وهذا ما حدث داخل طائفتي معبد الشمس وداكو، حيث قام الاتباع بعمليات انتحار جماعية.
ومن الملاحظ ان الطوائف تتوجه إلى مجتمع بأكمله وتتحدث عن موت جماعي وعن نهاية العالم، ويشعل المشعوذون فيها نار التطهير من الفساد دائماً.
ان هذا الهوس بالتدمير من اجل البعث يشكل اكثر اعمال الطوائف خطورة على المجتمعات، وبخاصة لدى فئات الشباب الذين يقبلون بقوة على دخول هذه الطائفة أو تلك.
تطوير الذات: لم تثبت علمياً حتى الآن حقيقة الوسائل المتبعة لتطوير الذات، لكن البعض من اصحاب الشأن يتحدثون عن تقنيات معروفة لها تأثير مباشر على بعض الاضطرابات النفسية شرط ان تمارس هذه التقنيات على أيدي خبراء مهرة.
ويذكر ان فكرة تطوير الذات انطلقت من ولاية كاليفورنيا الامريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تركز على ان الانسان يستطيع ان ينجح في حياته الاجتماعية اذا كانت عائلته لا تحقره. بعد ذلك يصبح على كل فرد البحث عن الطريق الذي يلائمه في الحياة مستعيناً بمشعوذ يوضح له هذه
الطريق بوسائله الخاصة وفق تقنية ما، وهكذا احتدمت على الساحة مصطلحات كثيرة مثل، الطاقة الحيوية والتحليل التصالحي والتأمل والسوفرولوجيا وغير ذلك من المصطلحات التي تدل على تقنيات تكشف طاقات الفرد وتساعده على تحقيق طموحاته!
وعندما يسأل من يحضر جلسات تتكرر فيها عبارات مثل، “حرر طاقاتك الايجابية” أو “استخدم كل قدراتك الذهنية”، و”تخلص من افكارك السوداء”، نلاحظ انه غير قادر على “برمجة” ذاته للاجابة عما تعنيه مثل هذه العبارات.
نفوس ضعيفة: إن موجة تطوير الذات تجتاح اليوم كل المجتمعات لكنها لا تحمل في طريقها إلا اصحاب النفوس الضعيفة والمعرضين للاكتئاب، واولئك الذين يمرون بمصاعف حياتية.
ولقد تحولت النفس البشرية بين ايدي المشعوذين إلى حاسوب تعاني برامجه من الضغط الذي يضطرهم إلى إعادة برمجته بشكل يتلاءم مع تطلعاتهم وتخيلاتهم.
ويلاحظ الخبراء ان الشركات الكبرى في الغرب باتت ترسل موظفيها لتلقي دورات في التطوير الذاتي حيث يمضي الموظف جزءاً كبيراً من وقته في التأمل وإعادة “برمجة” ذاته وفق المعطيات التي حصل عليها من تلك الدورات.
اما حصيلة تلك التدريبات فتكون وهما كبيراً في انه اصبح قادراً على التواصل مع الآخرين والاستفادة من حياته قدر الإمكان كي يتجنب الفشل في السنوات اللاحقة من عمره.
ويتساءل أحد الخبراء عما اذا كانت تقنيات التطوير الذاتي قادرة على مساعدة الفرد مثلا في الإقلاع عن التدخين. ويعتمد الخبير على احصاءات أجراها على بعض المدخنين الذين اتبعوا طريقة ألن كار، علّهم يتخلصون من الإدمان على السجائر.
وكان البريطاني ألن كار قد أصدر في العام 1984 كتاباً تحت عنوان “الطريقة السهلة للتخلص من السيجارة” وقد بيع منه في العام الماضي 137 ألف نسخة. وفي الأشهر الثلاثة الاولى من العام الحالي 45 ألف نسخة. وهو يعد المدخنين بمساعدتهم في التخلص من الإدمان بطريقة عرفت باسمه، مؤكداً انه جربها شخصياً وحصل على نتائج ايجابية.
ويستطيع قارئ الكتاب ان يكتشف من خلال الاسلوب الذي اعتمده الكاتب انه مشعوذ حقيقي كان قد استيقط في أحد الايام وهو يردد “أريد ان أعالج الناس من جرحهم النازف وهو السيجارة!
وقد تحول آلن كار إلى ثري كبير ب “ضربة معلم”، وقد بيع من كتابه في غضون عشرين عاماً اربعة ملايين نسخة في كل بقاع الارض، هذا إلى جانب المال الذي يعود عليه من الندوات والتدريبات.
وهكذا تحول المحاسب البريطاني الذي كان يعمل موظفاً بسيطاً في إحدى الشركات في لندن إلى معالج مشعوذ يجمع أموالاً طائلة!
وتركز طريقة آلن كار على إزالة التكيف مع السيجارة، من خلال تخلصه من فكرة ان التدخين ضروري لمحاربة التوتر والتركيز في العمل والمحافظة على الرشاقة، وأنه يجعل الفرد لا يعاني من نقص النيكوتين.
إذاً، لا يحتاج تطبيق طريقة آلن كار إلى اللصقات ولا إلى الوخز بالأبر ولا حتى إلى استشارة الطبيب، فهي تساعد على “الفطام” عن السيجارة بيسر وسهولة، ومن دون بذل أي مجهود!
لكن نظرة سريعة على الإحصاءات في جميع المجتمعات وعلى الانترنت تجعلنا نلاحظ ان الاطباء يقولون الحق عندما يتحدثون عن إخفاقهم في جعل الناس يقلعون عن التدخين.
والمصيبة الواقعة في بعض المجتمعات ان بعض المشعوذين تبنوا طريقة آلان كار، وحصلوا على حقوق نشرها، فباتوا يعقدون جلسات وندوات مستقطبين بعض الضعاف، علماً ان الالتحاق بندوة من الندوات يكلف في فرنسا على سبيل المثال حوالي 270 يورو، علماً بأن ثمن كتاب آلان يبلغ ستة يورو!
ويحاول القيمون على الندوات عدم تلقي الاسئلة الملحة التي تبقى على رؤوس ألسنة المشاركين، مع ان “الجلسة الواحدة تستمر أربع ساعات متواصلة”.
ويتحدث المشعوذون عن وسائل آلان كار للتغلب على الاضطرابات الوظيفية التي يمكن ان يخلفها التوقف عن التدخين وعن كيفية مواجهتها، وعندما يطرح سؤال واضح عن هذه الاضطرابات تراهم يدورون حول السؤال مطلقين جملاً متشابهة مثل “لديك الحق في طرح مثل هذا السؤال، لكن علينا احترام توقيت المحاضرة، سوف أجيب عليك في ما بعد”!
ولا يعود المحاضر إلى المستمع ثانية ولا يتطرق إلى الموضوع الذي وعد بالتحدث عنه، لذا يدرك البعض ان وراء المحاضرة شيئاً ما، كذبة او رذيلة، ولا يغرقون ابداً تحت تأثير الهدهدة الصوتية التي تعمل كالتنويم المغناطيسي، وهي ظاهرة بوضوح في كتاب آلن كار من خلال اسلوبه المتكرر الذي يتميز بالجاذبية.
وعند هذا الحد، قد يغادر البعض الحلقة بعدما يدركون الحيلة، بينما يبقى البعض الآخر حتى النهاية، ويخرجون راضين عما كانوا يصغون اليه وهم مقتنعون تماما بأنهم تحرروا من إدمانهم على التدخين، ثم يهنئون بعضهم بعضاً لأن مبلغاً مثل 270 يورو لا يساوي شيئاً اذا ما قورن بعلاجهم من الإدمان!.
لكن الكثيرين من اولئك يعودون إلى التدخين بسرعة مع انهم يتبعون نصائح ألن كار بدقة، لكن عشرين كيلوجراماً فائضاً على الوزن أو ميل إلى الاكتئاب، يمكن ان يجعل السيجارة فرصتهم الوحيدة!.
تقرير: يرى المحللون ان إقبال الناس على العلاجات اللطيفة ذات النتائج السريعة يظهر بوضوح في المكتبات، وقد يكتفي الكثيرون بقراءة هذا الكتاب او ذاك، وقد يكون لقراءة الكتاب فائدة، على حد قول البعض، إن وصل إلى يدي قارئه في الوقت المناسب.
وقد تشكل قراءة هذه الكتب طريقاً نحو المستشفيات أو العيادات الخاصة التي تمارس تقنيات علاج السلوك، الامر الذي يزعج الكثير من الاطباء النفسانيين الذين يحرمون تدريجياً من زبائنهم.
وقد تحول هذا الإزعاج في فرنسا إلى ضجة كبرى حين نشر المعهد الوطني للصحة والبحوث العلمية تقريراً قارن بين فاعلية العلاج السلوكي الواعي وتأثير الطب النفسي في تطور مختلف الاضطرابات الذهنية.
وقد كان التقرير لصالح العلاج السلوكي على حساب الطب النفسي، مما حدا بالاطباء النفسانيين إلى الاعتراض متهمين الباحثين في المعهد بعدم الخبرة والدراية وبمحاولة طمس أفكار فرويد. ومن المحتمل ان يؤثر التقرير في وضعية الاطباء النفسانيين الذين يصل عددهم في فرنسا إلى مائتي طبيب. لكن الشيء المهم ليس في هذه المشكلة، فالطب النفسي يحتل في الدول الغربية مكانة عالية، كما انه يدرس في الجامعات على ايدي اساتذة متخصصين يحاولون الدفاع عن مهنتهم.
ترى، هل سيقضي العلاج الحديث المتعلق بالسلوك البشري على علم النفس؟ قد لا يصل الامر إلى هذا الحد اذا ظل هناك من يحارب ويدافع عن التحليل النفساني.