رأسه أحمر وعيناه مقلوبتان ويظهر عارياً
بقلم : عبد العزيز المسلم
جميل أن نقتحم أسوار “الخرّوفة” في الإمارات فهي تعبير صادق عن خلجات النفس والروح، فقد ظلت “الخراريف” وهي الجمع للخروفة تروى فقط ولا تفسّر، وكانت جميع عوالمها محجوبة معزولة عن التداول والمناقشة، والكثير من الحوادث والكوارث الشخصية والعامة التي حدثت في الماضي كانت تعزى أحيانا إلى مسألة الخوض في مثل هذه الأمور.
والخروفة في هيئتها العامة تدخل ضمن أقسام الأدب الشعبي تحت باب الحكايات الخرافية، أما في صفتها الخاصة ومضمونها فإنها تأتي ضمن باب المعتقدات الشعبية وصيانة التقاليد، فلكل انحراف خلقي أو انحلال اجتماعي كان هناك كائن خرافي مخيف مهمته ردع من تجرأ على تجاوز تلك الحدود، والآفات الاجتماعية الكثيرة كـ "الحسد، والبغي، والسرقة، والخيانة، والجشع، والظلم، والغدر، والحقد... الخ" كانت ترسل لها تطعيمات مؤلمة في الصغر تستقر في أقصى الذاكرة وتساعد كثيرا على التحصن من الاقتراب منها.
ومجتمع مثل مجتمع الإمارات كان يعيش في عزلة شخصية بحتة، وانفتاح اقتصادي كبير، فبالرغم من بساطة الحياة القديمة وبساطة الناس وطيبتهم النادرة، إلا أنهم كانوا كثيري الحيطة والحذر، من الاتصال بالآخر القريب أو البعيد هذا ساعد على بروز حالة من الانعزال عن التأثر بالأفكار الجديدة التي لا تمر إلا من خلال قنوات معلومة، فالتأثر جائز ولكن الإجماع على الجديد كان ضروريا، والانفراد كان سمة شاذة.
لذا فقد تعددت الرموز والإشارات لدى الإماراتيين واختلفت مدلولاتها في حياتهم وفي أدبهم الشعبي، وبرزت بشكل ملحوظ في تفكيرهم الظاهر والباطن، مما أثر في اعتقاداتهم وشخصيتهم.
ما يجعلنا أمام مفارقة عجيبة، فالأدب الشعبي الإماراتي رغم ما يتميز به من بساطة في الشكل إلا أن غموض المضمون يجعل منه أحيانا غموضا صعبا، الأمر الذي يجعل الدارس لهذا الأدب في مطب كبير قد لا يكتشفه إلا بعد فهم الشخصية الإماراتية بشكل دقيق ومتعمق.
الشخصية التي نحن بصدد الحديث عنها اليوم، شخصية فريدة، ليس لأنها من “الجن” فقط، بل لأنها ارتبطت بمنطقة واحدة ولم تبارحها أبدا، واقترنت باسمها، وهو جني صغير تواجد بشكل مكثف غرب مدينة الشارقة القديمة في منطقة تسمى الغرب وحي يسمى المريجة، لذا فقد سمي “جني المريجة”.
ورغم ارتباطه بحي واحد في منطقة واحدة، وارتباطه بسكان ذلك الحي، إلا أنه لم يكن معهم على علاقة ود أبدا، بل علاقة خوف ورعب، وداوم على إلحاق الضرر بهم.
التسمية: يسمى جني المريجة نسبة إلى منطقة المريجة الواقعة في حي الغرب في الشارقة القديمة، وهو جني خاص ارتبط اسمه باسم المنطقة لأنه دأب على الظهور فيها فقط.
الوصف: يوصف بأنه متجسد بهيئة إنسان، رأسه أحمر كثيف، وعيناه مقلوبتان مثل عيون القطط، شعره كثيف مسترسل عكس اتجاه التسريح ولونه أحمر، حجمه صغير و كأنه طفل، يظهر عاريا بشكل دائم.
الروايات: تقول إحدى الراويات، أعتقد بأن أخي أكثر إنسان عانى من (جني المريجة) فآثار ذلك الجني اللعين لاتزال واضحة على أخي.
كنا نسمع بأن جنياً صغيراً يعيش بشكل دائم في أنحاء المريجة، وأن له أفعالاً مشينة وأخرى مرعبة مع الناس، وأنه جني نهاري يداوم على الخروج في فترات الظهيرة والقائلة، حتى يكون واضحا للعيان.
لكن ما كان شائعا أيضا، أن جني المريجة لم يكن يتعرض لأهل المريجة بل لغيرهم ممن يعرف بأنهم أغراب عنها، لذا فإن أهل المريجة كانوا يأمنون هذا الجانب.
ومرت الأيام والشهور والسنين، وبالفعل لم يتعرض جني المريجة لأحد من أهالي المريجة، لكن في يوم من الأيام، لن تنساه أسرتنا أبدا، كان أخي خارجا من بيتنا ذاهبا إلى بيت أقاربنا في الناحية الأخرى من الحي، وبينما هو ينتقل من سكة (زقاق) إلى سكة فإذا به يفاجأ في السكة الأخيرة بجني المريجة، على هيئة مرعبة تماما، فقد رآه ولدا صغيرا قبيح المنظر، عارياً من الملابس، شعر رأسه أحمر كثيف ومسترسل عكس اتجاه التسريح، وعيونه مقلوبة، كأنها عيون قطط. وليس هذا الوصف فقط الذي أرعبه لكن المرعب كان وجود النصف العلوي لجني المريجة بارزا والنصف الآخر مختف في الأرض، يوحي بأنه كان للتو خارجا من باطن الأرض.
تقول الراوية إنها صدمة كبرى لم يستطع تحملها أخي أبدا، كما لم يكن ليتحملها أي إنسان آخر، فما كان منه إلا أن وقع على الأرض مغشيا عليه، وظل في مكانه تحرقه الشمس وتلهبه الحرارة والرطوبة لساعات طويلة حتى مر بعض الناس من تلك السكة فحملوه إلى بيتنا، وقد فوجئنا بمنظره كثيرا، لأنه كان أشبه بمنظر الأموات، حيث كان شاحباً أصفر اللون وجسمه بارداً.
الأدهى من ذلك أن جميع المحاولات لم تجد في إفاقته، لقد كان غائبا عن الوعي تماما، وتوإلى الحكماء وأهل الدين على بيتنا محاولين شفاءه، لكن دون جدوى، لم يكن هناك بصيص من أمل.
بالفعل يئسنا من شفاء أخي، ونحن لا نعلم أهو حي أم ميت، فالإشارة الوحيدة التي تدل على حياته، بعض أنفاس تخرج منه، وتنهيدات طويلة من حين إلى آخر، وكأن لسان حاله يقول، متى الخلاص يا رب بالموت. أما سوى ذلك فلم يكن يفعل شيئا، فهو لا يفيق ولا يأكل ولا يشرب.. ولا يتحرك.
بعد أيام طوال عشناها في هذه الحال الكئيبة، طرق بيتنا طارق، وكانت عنده البشرى، وهي أن جدة (قوم الدسيس) تقول إن لديها العلاج.
بالفعل جاء الرجال وحمل أخي حمل الأموات إلى بيت قوم الدسيس، وهناك طرح في إحدى حجر البيت، ثم جاءت العجوز (جدتهم) وقالت فليخرج الجميع من هنا، وليخرج من البيت كل نجس، وظلت معه لبضع دقائق ثم سمعنا صرخة عالية، بعدها بدقائق أيضا خرجت جدة قوم الدسيس، وقالت “خذوا ولدكم”، فذهب والدي “رحمه الله” إلى تلك الحجرة، فوجد أخي جالسا في الغرفة وقد فتح عينيه وهو يتمتم ببعض الكلمات، ويذكر الله ويحمده ويستغفره هب والدي واحتضن أخي ثم رفعه من وضع الجلوس خرج به من بيت قوم الدسيس، وسط تكبير الناس وفرحهم.
واليوم وبعد مرور أكثر من أربعين سنة، ما زال أخي يحمد الله ويشكره، بل لاتزال تأخذه قشعريرة إذا ما تذكر ذلك اليوم الرهيب الذي لن ينساه مدى الحياة.
قد تكون هذه هي القصة الكاملة التي وجدناها عن جني المريجة، بينما ما جمعناه من روايات لم يتعد الوصف لا اكثر.
أحد الرواة بعد أن سردنا عليه قصة شقيق الراوية قال: نعم سمعت عن هذه الحادثة، وعلمت أن من أنقذتهم هي جدة قوم الدسيس، لكن - يسألني - ألم يخبروك ماذا عملت تلك العجوز لإعادة الرجل إلى وعيه، لقد استعملت السحر مقابل السحر وهذا حرام - يقول الراوي - فقوم الدسيس ليسوا إلا عائلة سحره، رضعوا من الجن، والسعي إليهم للاستشفاء باطل.
عفريت: آخر يقول إن جني المريجة حقيقة واقعة، وأعتقد بأنه مازال موجودا إلى يومنا هذا، فقد حدثت وفيات عدة في المريجة كان هو سببها، كما أنه كان يسعى إلى إخافة الناس فهذا دأبه، فهو من عفريت، وكما تعلم بأن العفاريت هي الوحيدة التي يمكنها أن تخرج في النهار، كما أنها تتلذذ بالسخرية من الناس واللعب بمشاعرهم وأحاسيسهم، وهكذا كان جني المريجة.
أحد الرواة يقول: أعتقد بأن جني المريجة كان “جنيّاً لعّاباً” أي يحب اللعب بالناس ليهزأ بهم ويلهو بمشاعرهم، هكذا كان دائما، فهو يخرج من باطن الأرض بنصفه الأعلى ويبقي نصفه الآخر تحت الأرض، لأنه يعلم أن هذا المنظر ليس له مثيل عند الناس، بل كان أحيانا يخرج للناس من باطن الأرض ويعود مرة أخرى إليها فيصعقون من ذلك المنظر.
من خلال الوصف والمرويات عن جني المريجة، نلاحظ أنه كائن خرافي - أو جني - حسبما يروى، لم يكن من انصاف البشر او من الجن الاشباح، بل كان عفريتاً، يظهر للناس بكامل هيئته، ليرهبهم او ليتسلى. لكنه كان جنياً خالصاً لا يتشكل ولا يتحول ولا يتلون ابداً، وهو ما يميز حكاياته، فقد كان متفرداً من هذه الناحية ليس كسواه.