لذلك. . فالمهارة هنا لها الدور الأساسي في عملية تجنيد الجواسيس الجدد.. بمعنى أن العميل يجب أن يكون واثقاً من تقديره للموقف. . وأن يكون حذراً للغاية حتى يتمكن من التقهقر في الوقت المناسب إذا ما حالفه الفشل..

ولكي يضمن جورج سيمون إحكام حلقته حول بهجت حمدان . . رتب له لقاءً حاراً في "مصيدة العسل" مع سكرتيرته المتفجرة الأنوثة. . وهذا الأسلوب تميزت به الموساد عن سائر أجهزة المخابرات للسيطرة على المطلوب تجنيدهم .. وتفننت في استخدامه بتوسع . .حيث يتم تصوير هؤلاء في أوضاع شاذة .. وتسجيل حوارات سياسية تدينهم . . فتنهار أعصابهم حين مواجهتهم ولا يستطيعون الخلاص أو الفكاك.

وما إن ووجه بهجت بالأفلام العارية التي تحوي مشاهد مؤسفة .. وأحاديث مليئة بالسباب للعرب وقادتهم. . حتى بهت الصياد وتفصد عرقاً . . نعم .. بهت لأنه فوجئ بما لم يتوقعه أن يحدث له من قبل.

لقد صرخ بهجت حمدان في وجهه .

الصفقة الناجحة

كان اللعب قد أصبح مكشوفاً بين الصياد والفريسة. . وكانت الخطة تقتضي أولا أن يسافر بهجت إلى فرانكفورت حيث الانطلاقة من هناك . . بعد ذلك يتم عمل "ساتر" يختفي وراءه.

وفي فرانكفورت استقر الجاسوس الجديد بأحد فنادقها. . وأرسل إلى زوجته إنجريد فأسرعت إليه سعيدة بقدومه. . وأنبأها بأنه التقى في باريس برجل أعمال كبير وعده بإيجاد عمل له في بورصة الأوراق المالية. . ومكثا معاً عدة أيام في نزهات خلوية صافية . . إلى أن زاره "صموئيل بوتا" الخبير في أعمال البورصة والتجارة الدولية.

بدأ بوتا في تعليم بهجت كل ما يتصل بأعمال البورصة ودراسة السوق المصرفية، وعرفّه بالعديد من رجال الأعمال وهيأ له المناخ الملائم لكي يستوعب هذا النوع من العمل الذي يتطلب قدراً عالياً من الذكاء والمهارة . . وناضل ضابط المخابرات الإسرائيلية من أجل خلق رجل أعمال مصري ناجح .. للدفع به في الوقت المناسب الى مصر . . فيتعرف على علية القوم ورجال الأعمال بها. . مما يتيح له التغلغل بين الأوساط الراقية وذوي المناصب الحساسة.

إن المخابرات الإسرائيلية لا تصرف الآلاف من نقودها هباءً. . بل تدرك بحق أن المنافع التي ستعود عليها بعد ذلك ستكون رائعة.

واستمراراً لخطة صنع جاسوس محترف . . انتقل بهجت إلى مدينة "بريمن" حيث قدمه بوتا للعديد من أصحاب شركات البترول والتجارة. . وعمل لديهم لبعض الوقت فاكتسب خبرات هائلة. . وصداقات متشعبة بصفته مواطن آلماني متزوج من ألمانية.

وفي عام 1967، تأكد للإسرائيليين أن "الجاسوس النائم" بهجت حمدان أصبح ذا دراسة وعلم كبيرين بأمور التجارة الدولية. . وأعمال البورصة.. تعضده جنسيته الألمانية في اقتحام مجالات التجارة والتصدير في أسواق الشرق الأوسط دون أية شكوك أو صعوبات تعترض طريقه.

وابتدأ عمله التجسسي بأن أرسل لشركة "مصر للبترول" يعرض عليها استيراد شحنات من البترول المصري بصفته مندوباً لإحدى الشركات الألمانية. . وسافر إلى القاهرة ليدرس العرض مع الشركة ..
كانت نكسة يونيو قد تركت آثارها على شتى النشاطات في مصر .. وحطمت المناخ العام شعبياً وعسكرياً وسياسياً . . وفي القاهرة أخبره والده بأنه مني بخسارة فادحة في تجارته . . فأغدق بهجت على أسرته بالهدايا الثمينة في كل مرة يجيء فيها الى القاهرة للتفاوض مع الشركة.

وبرغم فشله في عقد صفقة واحدة مع مصر للبترول بسبب طمعه في نسبة عمولة عالية .. اتجه – بتوجيه من بوتا – إلى تجارة السلاح . . فدرس هذا المجال باستفاضة . .وأخذ يبحث كيفية تقديم عروض للدول العربية لبيعها صفقات أسلحة . . خاصة .. وظروف المنطقة المشتعلة بالصراع تتطلب ذلك.

أعجبته الفكرة تماماً. . وابتدأ بالأردن، لكنه فشل في أولى محاولاته لأن الأردن لا يبتاع السلاح عن طريق وسطاء. فعاد إلى القاهرة يحدوه الأمل في النجاح هذه المرة. . وتقدم إلى المسؤولين بعدة عروض لتوريد بعض المهمات والمعدات اللازمة لقطاعات هامة في الدولة. . وفوجئ بموافقة مبدئية على أحد العروض. . ولكن طلب منه تأكيد جدية العرض باستيفاء بقية الأوراق. . ومنها سابقة الأعمال.

كان بوتا – وهو الضابط الخبير – قد احترز جيداً في عمل "الساتر" للجاسوس المتحمس. . وقام بتكوين شركة مساهمة تحمل اسم "نورد باو" للأعمال الإنشائية والتوريدات . . مديرها بهجت حمدان ورئيس مجلس إدارتها "ألبرت فيزر" ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي يحمل جواز سفر ألماني. . وكان هذا الساتر مأمن لبهجت ونقطة ارتكاز لتثبيت أقدامه. . بعيداً عن شكوك رجال المخابرات المصرية الذين يتشككون في كل شيء. .

وبناء عليه . . سافر بهجت حمدان إلى ألمانيا لإطلاع بوتا على سير الأمور. . وكان على ثقة من نجاح الصفقة التي سيربح من ورائها عشرات الآلاف. . فهنأه بوتا على الصفقة الجديدة وأمده بسابقة أعمال وتوريدات مزورة حملها إلى الحكومة المصرية. . واصطحب معه ألبرت فيزر لمناقشة الأسعار المقدمة.
وفي القاهرة طلب المسؤولون منهما عينات ومبلغ 20 ألف دولار كتأمين . . وتمت الصفقة في نجاح أذهل الإسرائيليين. . ذلك لأن عمليهم المدرب نال ثقة المسؤولين المصريين على اعتبار أنه مصري يسعى لخدمة وطنه.

بائع الوطن

لم تضيع الموساد وقتاً. . فظروف عميلها بهجت حمدان في القاهرة تتيح له العمل بأمان ونشاط . . وكان عليها استثماره جيداً ليس بإمدادها بمعلومات فقط. . بل بتكوين شبكة واسعة من أتباعه الذي يلمس ظروفهم عن قرب وينتقيهم بنفسه.

نظر بهجت حواليه وبدأ ينصب شباكه حول أولى ضحاياه. . وهو المهندس محمد متولي مندور زوج شقيقته. . الذي يعمل بشركة المقاولون العرب بمنطقة القناة، ونظراً لظروفه المادية السيئة فقد كان من السهل اصطياده بدعوى توفير فرصة عمل له في الخارج بواسطة شريكه "فيزر" في حال نجاح مشروعاتهما المرتقبة في مصر.

لأجل ذلك. . تفانى مندور في خدمة الخائن وشريكه. . ولكي يضمن كسب ودهما أكثر وأكثر استجاب لرغبتهما وأطلعهما على أسرار بعض العمليات الإنشائية السرية التي تتم على الجبهة بواسطة شركة المقاولون العرب.

طمعت الموساد في الحصول على رسومات هندسية لتصميمات الدشم والقواعد والمطارات العسكرية التي تقوم بها الشركة. ولتنفيذ ذلك – تعمد بهجت الابتعاد قليلاً عن مندور ومماطلته في أمر تشغيله في الخارج.

. وأخيراً، صارحه بأن شريكه يريد الاطمئنان على مدى كفاءته وخبرته. وطلب منه بعض الرسومات الهندسية العسكرية للإطلاع عليها لتأكيد مدى تميزه وخبرته في العمل والوقوف على مستواه العملي. . فلم يعترض مندور وسلمه بالفعل الكثير من هذه الرسومات التي تعتبر سراً عسكرياً هاماً لا يجب البوح به. . بل تمادى في شرح الأعمال الإنشائية التي يقومون بها على خط القنال وبمناطق أخرى بالصعيد والوجه البحري. وكان بهجت يسأله بخبرة الجاسوس الخبير ويسجل أقوال صهره أولاً بأول وينقلها إلى "فيزر" الذي لا يكف عن طلب المزيد والمزيد من المعلومات والرسومات.

وفي يوم الجمعة 22 مايو 1969 عاد بهجت من ألمانيا يحمل قائمة طويلة من أسئلة الموساد ومطلوب إجاباتها من خلال المهندس مندور.

من أجل ذلك. . أخبره بهجت بأنه في سبيل الحصول على موافقة نهائية من الشركة للعمل بها براتب قدره مائتي جنيه مع إن راتبه حينذاك كان لا يتعدى "25" جنيهاً شهرياً.

وبالتالي أراد مندور ألا يضيع هذه الفرصة التي ستبدل حالته المتعثرة إلى نعيم وازدهار. . فتمادى في إمداده بعشرات اللوحات الهندسية والتصميمات العسكرية السرية جداً، ومعلومات غاية في الدقة سجلها الجاسوس واحتفظ بها لدى شقيقته الأخرى. ليسافر بها إلى ألمانيا.

ولكي يوسع من شبكة الجاسوسية بدأ بهجت يحوم حول جمعة خليفة المحامي صديق العائلة. وبإغراءات تعيينه مستشاراً قانونياً للشركة في مصر وتسفير ابنه لإكمال تعليمه في ألمانيا – دخل أخيراً وكر الجواسيس. وسافر إلى بون لرؤية ابنه الذي يدرس الهندسة بالفعل. وجلس مع فيزر لعدة جلسات يتناقشان في العقبات القانونية التي تقف أمام الشركة في مصر. واكتشف ضابط الموساد أن جمعة تربطه علاقات قوية برجال يشغلون مناصب رفيعة. فكلفه بالبحث عن بعض العسكريين "الكبار" الذين يتركون القوات المسلحة لاستخدامهم كمستشارين فنيين.

كان الغرض من ذلك تكوين شبكة تجسس قوية من خلال هؤلاء العسكريين. . واستدراجهم في الحديث للإفصاح عن الأسرار العسكرية دون أن يعلموا أن كل كلمة ينطقون بها تصل رأساً إلى الموساد.

هؤلاء القادة العسكريون كانوا حلم الأحلام بالنسبة لبهجت. إنهم سيمنحونه شلالاً متدفقاً من المعلومات الغزيرة التي لا تنتهي . حيث سيمنحهم رواتب ضئيلة قياساً بآلاف الجنيهات التي ستملأ جيوبه.

في هذه الأثناء كانت إنجريد زوجته الألمانية تعيش حياة رغدة في ألمانيا. . وتسكن شقة فاخرة في شارع راينهارت وتقود بنفسها سيارتها ماركة فورد، وتزخر شقتها بأروع التحف وأجمل السهرات مع صويحباتها. . يملؤها الفخر بزوجها رجل الأعمال الناجح الذي أغدق عليها حباً ومالاً وهدايا ثمينة من كل بقاع الأرض.

زادت الأموال بين يدي بهجت حمدان فازداد إنفاقه وازداد طمعه. . وسيطرت عليه شهوة المال الحرام فسعى إليه يطالبه ببيع أمنه وطنه وأرض وطنه وأهل وطنه. . دون أن تتحرك لديه نبضة من ندم أو خلجة من شعور.

بهجت حمدان اصطاد قائده

كانت إسرائيل في تلك المرحلة وبعد انتصارها في يونيو 1967 تبث دعايتها على أنها ذات جيش لا يقهر . . وكانت طائراتها الحربية تصعد عملياتها الهجومية لتمتد إلى طول الجبهة من قناة السويس شمالاً إلى خليج السويس جنوباً. في ذات الوقت الذي استخدمت فيه قوات الكوماندوز المحمولة جواً في عمليات جريئة واسعة النطاق في عمل الأراضي المصرية ، فأظهرت أوجه الخلل والعجز في النظام الدفاعي المصري وأصيب عبد الناصر بعدها بأزمة قلبية من فرط الغضب والانفعال.

ففي الساعات الأولى من ليل 1/11/1968، استخدم العدو طائرات الهليوكوبتر بعيدة المدى من طراز "سيكورسكي"، و "سوبر فريلون"، في اختراق الدفاعات الجوية، والوصول إلى منطقة نائية في تجمع حمادي، ودمر أحد الأبراج الرئيسية لكهرباء الضغط العالي بأسلاكه، فانقطع التيار الكهربائي عن القاهرة والوجه البحري شمالاً. وكان الغرض من العملية هو إحداث الشلل في مصادر الطاقة في مصر.

كان الجاسوس بهجت حمدان يشعر بنشوة غامرة كلما دكت طائرات العدو قواعد الجيش المصري. . الذي لم تقف قيادته عاجزة بشكل كلي عن التعامل مع العدو. بل واجهته لحد كبير بنفس أسلوبه.. وهاجمته في منطقة شرقي الدفرسوار وكبريت وأغارت عليه في مقر داره ودمرت قطعه البحرية في إيلات.

كل ذلك وكانت آلة الدعاية اليهودية تعمل بكفاءة شديدة وتبث الإحباط في نفوس العرب، من أجل إرهابهم إذا ما أقدموا على عمل حربي موسع ضد إسرائيل.

وبينما كانت القوات المسلحة تعيد تنظيم صفوفها. . كانت المخابرات العامة المصرية تراقب تحركات بهجت يوسف حمدان .. الذي قدم إلى مصر وغادرها اثنتي عشرة مرة إلى ألمانيا. ولاحظ رجال المخابرات كثرة لقاءاته بصهره المهندس مندور وجمعة المحامي. . وبعض رجال القوات المسلحة السابقين.
وبعد مراقبات وتحريات مكثفة . . تبين لرجال المخابرات أن هناك شبكة تجسس يرأسها بهجت. . وعلى الفور جرى اعتقالهم جميعاً يوم 2 يونيو 1969، وفي مبنى المخابرات العامة ، ووجه بهجت بأدلة تجسسه فانهار في خلال عدة ساعات، وأفصح عن دوره الحقيقي ودور كل فرد من أفراد شبكة التجسس.

ومن مبنى المخابرات أرسل إلى فيزر طالباً منه الحضور إلى القاهرة على وجه السرعة. . حيث وافقت الحكومة المصرية على العروض المقدمة إليها وأنه بانتظاره للتوقيع على العقود وبدء النشاط، وعندما جاء فيزر كانت المخابرات المصرية بانتظاره على سلم الطائرة..

وأثناء التحقيق مع أفراد الشبكة بواسطة العميد إسماعيل مكي ظهرت مفاجأة لبهجت. . إذ اكتشف أن ضابط المخابرات الإسرائيلي "بوتا" يهودي مصري عاش بالإسكندرية وغادر مصر بعد عدوان 1956 مباشرة. . وأنه زاول العمل في مصر كسمسار للقطن في بورصة الإسكندرية لعدة سنوات قبل مغادرتها.

اكتشف أيضاً أن المخابرات الإسرائيلية كانت تثق بنفسها أكثر من اللازم ويتملكها غرور قاتل. فبرغم احترافه لمهنة الجاسوسية بعد تدريبه الطويل في أوروبا.. وعدم تركه لدليل واحد يساعد على كشفه . . إلا أن المخابرات المصرية استطاعت اصطياده وأفراد شبكته بسهولة شديدة وفي وقت قياسي. وهذا بعد دليلاً أكيداً على يقظة رجالها الذين برعوا في إلقاء القبض على عشرات الجواسيس في تلك المرحلة العصيبة.

وبعد حوالي العام من اعتقال الجواسيس الأربعة. . أصدرت المحكمة العسكرية حكمها بالأشغال الشاقة المؤبدة على الخائن بهجت حمدان "زواجه من إنجريد وحصوله على الجنسية الألمانية أنقذه من الإعدام" وبالسجن لمدة خمس سنوات لكل من ضابط الموساد والمهندس مندور وجمعة المحامي.

كانت لهذه الحادثة آثارها المرعبة في الموساد، لمعنى اعتقال أحد ضباطها من قبل المصريين، تكشف حقائق أساليب العمل المخابراتي الإسرائيلي في التجسس على البلاد العربية، بما يعني تغيير أنماط العمل المختلفة في النشاط الاستخباراتي.

كان هناك أيضاً الأثر النفسي الذي أصاب ضباط الموساد والعملاء العاملين خارج إسرائيل، إذ تخوف كل من المتعاملين معهم من الخونة العرب، ومن محاولات اصطيادهم بالخديعة والدهاء كما حدث للضابط الخبير فيزر، الذي وقع في شرك المخابرات المصرية.

لقد تندرت وسائل الإعلام العالمية بخيبة رجال الموساد، الذين قادتهم الثقة الزائدة إلى كشفهم. وكان بهجت حمدان بحق هو أول جاسوس في العالم يصطاد قائده. . بعملية خداعية ذكية مكنت المخابرات المصرية من الحصول على معلومات ثمينة . . جاءت على لسان الضابط الأسير.

عودة لصفحة الجاسوسية