في زمن السقوط العربي والقومي واندحاره، ليس مستغربا ان يطلق ادونيس رصاص الاعدام، على جسد بيروت، فهو مثل غيره ممن احتضنتهم العاصمة اللبنانية وافسحت لهم هامشا كبيرا من الحرية والمتنفس، ثم ما لبثوا ان انقلبوا عليها في النهاية وغدروا بها لأن خطيئتها الوحيدة انها كانت كريمة ومتسامحة معهم الى اقصى الحدود في وقت كانت فيه بعض البلدان ترفع شعار لا صوت يعلو فوق صوت معركة التعذيب والتنكيل وخنق حرية التعبير.. وحتى التنفس.
قلنا في زمن السقوط العربي والقومي ليس مستهجنا ان يقدم ادونيس وامثاله على تشويه صورة بيروت ومحاولة الغاء تاريخها القومي والمقاوم والثقافي والحضاري على مدى مئات من السنين في التاريخين القديم والحديث، معا كقوله النافل «انها مأوى لا وطن.. مدينة بلا مدنية، مكان تجارة لا حضارة. وملتقى السياسات، لكن بلا سياسة».
كان من المعقول او المقبول ان نسلم بهذا الهجاء الظرفي والمزاجي من قبل اي انسان نكرة وناكر للجميل، ولكن مصيبة بيروت انها «خرّجت» ادونيس وقدمته الى العالمين العربي والغربي على انه فارس مغوار من فرسان القريض العربي ولولاها لم يكن في الوارد الحديث عن ترشيحه لجائزة نوبل للسلام، ولولاها ايضا لبقي ادونيس مجهولا ومغيبا وقابعا يتعلم الف باء الثقافة في مدرسة تحت السنديانة مثلما هو المثل القائل في الشرق القديم.
تعالوا نفترض ان غاية ادونيس من هجومه على بيروت ونعته اياها بأبشع النعوت والاوصاف لا تتوقف عند كسر مزراب العين فقط، والتجلبب بعباءة قاعدة خالف تعرف، فالمرجح ان الرجل يرمي من وراء «تخريب» دور بيروت وريادتها على المستويات كافة الى الحصول على بطاقة سفر في قطار العولمة وتصحيح مسار صراع الحضارات على مزاجه وقياسه وهواه، أوليس هو القائل منذ ستة اشهر مضت لفضائية ابوظبي عبر برنامج «مبدعون» انه مع مبدأ حوار الشعوب بعضها مع بعض حتى مع اسرائيل.
من هنا نفهم مقاصد ادونيس واهدافه المبيتة عبر انقلابه الاخير على بيروت التي قال عنها ذات يوم «ثمة مدن تسكنك، عندما تغيب عنها او لا تعود قادرا على السكن فيها. بيروت بالنسبة اليّ اولى هذه المدن ولعلها على المستوى الحميم الاخير تكون المدينة الوحيدة».
بقي ان نقول ما هكذا تورد الابل يا ادونيس، وليست هذه المواقف والاساليب الملتوية التي لا يقرها منطق او مبدأ مقبولة او مرحبا بها من لدن من كان في احد الايام تلميذا لماحا لانطون سعادة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي وصاحب المدرسة الاولى في المناقبية والشفافية والترفع.
ثم فاتنا ان نردد على مسامع ادونيس ان بيروت كانوا يلقبونها في القدم مدينة أم الشرائع. كما غاب عن البال ان نذكر ادونيس ايضا ان الكلام الاعرج والاحول الذي تلفظ به وساقه ضد بيروت لو قاله في اي مكان آخر، وضد اي مدينة اخرى، لكان النزيل الجديد في قائمة نزلاء «فنادق» زوار الفجر، وحده نزار قباني شاعر العرب الاول في القرن الماضي كان السمؤال او الاستثنائي مع بيروت. اكرمته فأكرمها ورصع تاجها بأفخر مجوهرات شعره ورحل يتغنى بها في الشرق والغرب ويقدمها على ما عداها من عواصم الدنياوكذلك فعل الشاعر الفلسطيني محمود درويش. وبالمناسبة مرة قال لي نزار في حي النايتس بريدج اللندني: «لقد مت مرتين الاولى عندما غادرت بيروت والثانية عندما احتوتني العاصمة البريطانية الضبابية. وها انذا انتظر الرحلة الاخيرة».
رحم الله من كان رائد الوفاء لبيروت، في وقت ندر فيه الوفاء بل اضمحل.