وقد أحدث مقتل سيلفيا رافائيل صدمة عنيفة لدى الموساد وأوساط المخابرات الإسرائيلية التي كانت تعتبرها نادرة في حقلها وهذه الجاسوسة من مواليد جنوب أفريقيا من أب يهودي وأم غير يهودية، هاجرت إلى فلسطين المحتلة في شبابها وفى السبعينات انتحلت شخصية مصورة صحفية تحت اسم " باتريشيا روكسبرغ " وكانت مهمتها رصد الأحداث في الشرق الأوسط. ومن خلال شخصيتها الجذابة وعملها المثابر استطاعت أن تنشئ اتصالات مع شخصيات سياسية مسؤولة، وكانت مهمتها إعطاء إسرائيل معلومات تساعد في تصعيد المشاعر ضد الفلسطينيين، وفى النصف الثاني من السبعينات ظهرت سيلفيا في النرويج حيث التقت بمجموعة من عملاء  الموساد وكانت مهمتها ملاحقة أبو حسن سلامة . ولكن التباساً حصل بين شخصين أدى إلى أن يقتل الموساد نادلاً مغربياً يدعى محمد بوشيكي ظاناً أنه قائد " القوة 17 " . وأثر هذا الحادث قبضت السلطات النرويجية على رافائيل وخمسة آخرين بتهمة القتل . وقال القاضي حينئذ أن الجريمة كانت جزءاً من عملية للمخابرات الإسرائيلية . ولم يمض سوى 19 شهراً حتى أخلى سبيل رافائيل لتظهر بعد ذلك فر باريس حيث جهزت شقة بمثابة مخبأ أمين لعملاء الموساد ثم اختفت بعدها عن الأنظار .

وفى عام 1979 تم اغتيال أبو حسن سلامة بتفجير سيارته لاسلكياً في بيروت . وتحدثت التحقيقات حينئذ عن اختفاء سيدة إنجليزية هادئة، كانت في الشقة المجاورة لمكان التفجير . وكانت سيلفيا تمتلك شققاً في تل أبيب وباريس وقلما كانت تقيم في إسرائيل، وكانت ترغب في اعتبارها يهودية، ولكن بعض الأوساط الإسرائيلية كانت ترفض ذلك باستمرار لأنها من أم غير يهودية .

وأثر عملية لارنكا حددت القيادة الإسرائيلية توقيت الغارة على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، في حين اتخذت إجراءات أمنية فلسطينية لمواجهة اعتداء محتمل . وكعادتها قامت أبواق الدعاية الصهيونية بشن حملة كبرى ضد منظمة التحرير و الإرهاب لتشكل غطاء للعدوان الذي خططت له قبل شهور من الغارة . كما كانت المخابرات الإسرائيلية في الوقت نفسه تلاحق طائرة أبو عمار . وهكذا تقررت الغارة صبيحة اليوم الأول من تشرين الأول 1985 .

طائرة عرفات

في فجر ذلك اليوم كانت الطائرة التي أقلت ياسر عرفات وأبو أياد من بغداد إلى المغرب ثم إلى تونس . قد غيرت طريقها نتيجة لمعلومات حول نية الطائرات الحربية الإسرائيلية اعتراض سبيلها في الجو، وتحويل مسارها إلى مطار إسرائيلي أو إسقاطها . لكن هذه المحاولة الإسرائيلية فشلت لتصل بأمان إلى تونس، وذهب عرفات إلى مقر قيادته في حمام الشط ، وما كاد يلتقط أنفاسه حتى كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف المقر في تمام الساعة العاشرة والربع صباحاً، بينما كان عرفات غير بعيد عن مقر إقامته يقوم بتمارين رياضية كعادته كل يوم فهو حريص على الركض والسباحة وركوب الخيل وقد كان في تلك الساعة يرتدى لباساً رياضياً وشاهد الغارة التي استهدفت مقر القائد العام والأركان و" القوة 17"
وكانت الطائرات الحربية الإسرائيلية قد أقلعت فجرا من فلسطين المحتلة ورصدت وحدات الرادار المصري هذه الطائرات ولكنها عجزت عن تحديد الجهة التي تقصدها .

واظهرت أجهزة الرصد المصرية إن هدفا بحريا غير إسرائيلي كان يساعد في القيام بتشويش إداري أثناء تحليق الطائرات الإسرائيلية في الجو، وأعطيت أوامر فورية للطيران المصري وأجهزة الدفاع بالتعامل مع الطائرات الإسرائيلية إذا ما اخترقت المجال الجوى المصري، كما تم رفع حالة التأهب القصوى إلا أن أثر الطائرات الإسرائيلية فقد على أجهزة الرادار. الأمر الذي أدى إلى تحريك طائرة استطلاع مصرية على الفور لملاحقة الطائرات الإسرائيلية التي أخذت خط سير مطابقاً لطرق الطيران الدولية فوق البحر المتوسط .

وقد استخدمت إسرائيل في الغارة 16 طائرة من نوع " أف 16 " تزودت في الوقود بالجو . وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تمتلك طائرات الصهريج، وهى من نوع " بيونغ – 707 " أو " دى . سى 9 " أو " دى سى 10 " فقد تم تزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود في الجو ثلاث مرات، مرتين في الذهاب ومرة في العودة . وانطلقت طائرات الصهريج من إيطاليا بدون علم الحكومة الإيطالية . وكانت قد وصلت إلى مطار روما ثلاث طائرات صهريج أمريكية من نوع" بيونغ – 707 " في السابع والعشرين من أيلول تابعة للسرب الثالث عشر في وحدة التزويد بالوقود بالجو لدى الحرس الأمريكي ومقرها ولاية أوهايو،
وذلك للمشاركة في مناورات لحلف شمال الأطلسي. ورصدت إيطاليا طائرة من هذا النوع في الممر الجوى الذي استخدمته الطائرات الإسرائيلية في الغارة. كما أن مصادر مطار روما ذكرت أن طائرتين من الثلاث قد تركتا مربضيهما في أقصى اليسار من المطار في ساعة مبكرة من فجر يوم 1 تشرين الأول وعادت إحداهما إلى ممر الهبوط في الساعة العاشرة والربع صباحاً فيما طلبت الثانية الإذن بالهبوط الساعة السادسة والنصف مساء .

وبعد الغارة مباشرة وضعت الحكومة الإيطالية حراسة مشددة وغير عادية على الممر الذي تربض فيه الطائرات الأمريكية الثلاث، وأدان رئيس الوزراء الإيطالي بتينو كراكسى إسرائيل بلهجة قاسية جداً وقال إن إيطاليا مصممة على استعمال حقها لمعرفة ما إذا كانت طائرات واشنطن قد استخدمت الأراضي الإيطالية لتزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود .

ولم تخف الولايات المتحدة الأمريكية دعمها للغارة الإسرائيلية وباركت ما حصل بعد ربع ساعة فقط من الغارة وعلى لسان لارى سبيكس الناطق الرسمي للبيت الأبيض، في حين واصلت وسائل الإعلام الإسرائيلية ادعائها بمقتل عرفات، حتى ظهر مساء ذلك اليوم في حديث مباشر من تونس مع التلفزيون الإيطالي القناة الأولى . وبعد ساعة من الغارة الإسرائيلية أعلنت إذاعة تونس النبأ على النحو التالي : "

q       طائرات مجهولة الهوية قامت بقصف منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط " .

وكان مطار قرطاج الدولي قد رصد الطائرات الإسرائيلية قبل الغارة بدقائق وأبلغت المعلومات إلى وزارة الدفاع ، التي رصدت راداراتها الطائرات المغيرة قبل دقائق من وصولها ، في حين أبلغت إيطاليا تونس قبل دقائق من الغارة بأن طائرات مقاتلة تتجه نحو تونس !!

وجاءت الغارة الإسرائيلية في ظل أجواء من التوتر في العلاقات التونسية – الليبية وكانت هذه العلاقات شهدت تدهوراً خطيراً خلال الشهور التي سبقت الغارة ، وكان الجيش التونسي وقد وضع في حالة تأهب قصوى لمواجهة عملية عسكرية ليبية ضد تونس ! الرأي العام التونسي كان مهيأ لغارة ليبية إسرائيلية، بسبب الحرب الإعلامية المتبادلة بين البلدين وفعلاً، قام الجيش التونسي بنقل طائراته الحربية من نوع ف – 5 إلى قواعد عسكرية في الجنوب التونسي ، قرب الحدود التونسية الليبية، قبل الغارة، وذكرت بعض المصادر أن بورقيبة أصدر أوامره بعدم خروج الطائرات الحربية التونسية للتصدي للطائرات الإسرائيلية، وعلق محمد مزالي على هذه الحادثة بعد الغارة في حديث بثه التلفزيون التونسي، قائلاً : " لو خرجت الطائرات التونسية لاصطادتها الطائرات الإسرائيلية مثل العصافير " .

وقد حاول الضباط التونسيون في قاعدة " سيدي أحمد " الجوية قرب بنزرت، التي تبعد حوالي 50 كيلو مترا عن مقر المنظمة، الخروج بطائراتهم بغض النظر عن نوعية الطائرات يدفعهم الحماس للدفاع عن الوطن. وبعد نصف ساعة من انتهاء الغارة جاءت طائرات جزائرية مقاتلين اشتركت مع الطائرات التونسية في التحليق فوق حمام الشط وتونس العاصمة، خوفاً من قيام الطائرات الإسرائيلية بعملية التفاف خصوصاً أنه بعد الغارة مباشرة وصل عدد كبير من المسؤولين الفلسطينيين والتونسيين إلى مكان الغارة ومنهم عرفات وأبو أياد وأبو جهاد وأبو العباس . ومن الجانب التونسي جاء محمد مزالي والهادي البكوش ووسيلة بورقيبة وزين العابدين بن على .

وكانت ردة الفعل التونسية الشعبية قويت فعمت المظاهرات العاصمة التونسية وتوجهت إلى السفارة الأمريكية مطالبة بقطع العلاقات التونسية – الأمريكية، وفى الوقت نفسه استقيل مستشفى شارل نيكول في العاصمة الجرحى والشهداء الذين بلغ عددهم حوالي 200 جريح و 70 شهيداً، فشهد المستشفى اكبر عملية تبرع بالدم، وكان كل تونسي يريد التعبير بأي شكل عن انتمائه وتضامنه وتعلقه بالقضية الفلسطينية وأقبل أصحاب الجرافات من المواطنين ليتبرعوا بالعمل تطوعاً لإزالة الأنقاض .

وعلى أثر هذه الغارة وتصريح سبيكس، توترت العلاقات التونسية الأمريكية، فاستدعى الرئيس السابق الحبيب بورقيبة السفير الأمريكي في تونس، بيتر سيبستيان ، وأبلغه استنكار الموقف الأمريكي، ولا سيما أن الغارة كانت خرقاً للتعهدات الأمريكية بعدم السماح باعتداءات أجنبية على تونس . ولم يكن لدى السفير ما يقوله سوى : " سأبلغ واشنطن " ! وقد تعمد بورقيبة سماع السفير كلاماً قاسياً، غير أن هذه السحابة لم تمر بهدوء ، ولم يتم تجاوزها إلا في شباط 1986 عندما قام جورج بوش، نائب الرئيس الأمريكي حينها وجورج شولتز وكاسبار واينبرجر بزيارة قصيرة لتونس، فسوى الخلاف بتقديم مساعدات عاجلة، لتحديث أسلحة الجيش التونسي .

الرد على العدوان

ولم تكن الغارة على مقر منظمة التحرير حدثاً عاديا يمكن أن تزول آثاره بسهولة . ومنذ الساعات الأولى التي تلت الغارة وردود الفعل المختلفة تتواصل وتتفاعل رسمياً وشعبياً، فلسطينياً وعربياً ودولياً، ففي 5 تشرين الأول 1985، بعد الغارة بخمسة أيام، كان في رأس بركة جنوب سيناء، جندي مصري يدعى سليمان خاطر . يفجر حزنه على ضحايا الغارة ونقمته على الإسرائيليين بإطلاق الرصاص على مجموعة من الإسرائيليين الذين أهانوا العلم المصري، فقتل سبعة منهم وحوكم في 28 تشرين الأول بالأشغال الشاقة المؤبدة في محكمة السويس العسكرية وبعد ذلك تم إعدامه داخل السجن. كذلك حركت النقمة شرطياً تونسياً يعمل في فرقة " النظام العام " وهى كانت تقوم بحراسة مقر منظمة التحرير في حمام الشط، وكانت المجموعة تتكون من 12 رجلاً، مسلحين ببنادق رشاشة، وأحد أعضاء المجموعة لم يستسلم للصواريخ والقنابل التي تقذفها الطائرات الإسرائيلية، رغم معرفته أن رصاصته لن تصل إلى الطائرات المغيرة، فعادت إحدى الطائرات وأطلقت سيلاً غزيراً من مدفعها الرشاش فاستشهد مع مجموعته. وكان الحادث الثاني بعد عملية سليمان خاطر، ذلك الذي أطلق خلاله الشرطي التونسي الرصاص على مجموعة من اليهود في جزيرة جربة التونسية. وفى 5 تشرين الأول ذاته كان المفاجأة عندما أدان مجلس الأمن العدوان الإسرائيلي على مقر المنظمة وصوت 14 عضواً في صالح قرار الإدانة وامتنعت الولايات المتحدة للتصويت ولم تستخدم " الفيتو " وطالب قرار مجلس الأمن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بصفة عاجلة اتخاذ إجراءات لاقناع إسرائيل بعدم اللجوء إلى مثل هذه الأعمال التي تنتهك سيادة أي دولة، ووحدة أراضيها وأكد القرار أن لتونس الحق في الحصول على تعويضات مناسبة نتيجة للخسائر في الأرواح والأضرار المادية .

ولم تتخذ الإجراءات التي تحدث عنها مجلس الأمن ولم تقتنع إسرائيل بعدم اللجوء إلى مثل هذه الأعمال، فاغتالت أبو جهاد في تونس في 16 نيسان  1988. واختطفت الطائرة المدنية الليبية التي أقلت عبد الله الأحمر، نائب الأمين العام لحزب البعث الحاكم في سوريا وولدت الغارة الإسرائيلية حالة يأس من قدرة العالم على إقناع إسرائيل بالكف عن ممارسة الإرهاب، واتخذ قراره بالرد بمنتهى العنف، فشهدت الأراضي العربية المحتلة عمليات جريئة ضد أهداف إسرائيلية، ولا سيما بناية المخابرات الإسرائيلية في القدس ، التي انهارت بفعل انفجار. كما أدت الغارة إلى التعجيل فلا تنفيذ عملية كبرى كان يخطط لها أبو العباس استهدفت ميناء اشدود في الساحل الفلسطيني، وقد كان من المقرر لهذه العملية أن تحصل بعد التاريخ الذي نفذت فيه وهو 8 تشرين الأول بأسبوعين على الأقل. وكان من ضمن الخطة أن تحمل الباخرة عدداً من الصواريخ ، إلا أن الغارة عجلت بالتنفيذ . ولم يكن المقصود احتجاز رهائن على الباخرة الإيطالية " أكيلي لاورو " بل كانت مجرد وسيلة وصول إلى ميناء اشدود لتنفيذ عملية فدائية كبرى داخل الأراضي المحتلة ، ولم يكن من ضمن توجهات منظمة التحرير العودة إلى العمليات الخارجية ، كما أكد ذلك ياسر عرفات في 7 تشرين الثاني 1985 في مصر، فيما عرف " إعلان القاهرة " الذي أوقف بموجبه العمليات الخارجية، ليقتصر الكفاح المسلح على الأراضي المحتلة إلا انه كان من حق المنظمة اتباع كافة الوسائل للوصول إلى الأراضي المحتلة للقيام بالعمليات المسلحة في إطار النظام الفلسطيني المشروع ، وكل ما حصل في عملية " أكيلي لاورو " إن الأسلحة اكتشفت على ظهر السفينة . وكان قرار المجموعة بتحويل وجهتها حفاظا على دماء الأبرياء ، ولو حصل ووصلت الباخرة إلى اشدود لاستغلت إسرائيل الفرصة وهاجمت السفينة وحدثت مجزرة .

ووجدت وسائل الإعلام الصهيونية في العملية فرصة لتحويل أنظار العالم عن الجريمة الإسرائيلية في انتهاك الأراضي التونسية ، وقصف مقر المنظمة . واتهمت إسرائيل وسائل الدعاية الصهيونية في أمريكا أبو العباس بقتل عجوز أمريكي مقعد ، على الرغم من أنه لا علاقة للمجموعة بمقتله، وكان منطقياً أنه باستطاعة المجموعة المسلحة قتل العشرات على ظهر الباخرة لو أرادت ذلك في عرض البحر، ولم يكن هناك سبب واحد يمنعهم من ذلك ، لكن نية الاختطاف أو القتل لم تكن متوفرة . إلا أن إسرائيل عمدت بكافة الوسائل وبالتأثير عبر اللوبي الصهيوني في أمريكا، إلى إثارة الولايات المتحدة ضد منظمة التحرير وملاحظة أبو العباس، صفحة جديدة من مطاردة المخابرات لهذا الرجل .

//--