لم يكن الاستياء من الحكم المصري كافياً لوضع نهاية له، والحقيقة أن الحملة المصرية على بلاد الشام وانتصارها على الأتراك العثمانيين في معركة قونية {كانون الأول 1832م}، وتوقيع اتفاقية كوتاهية للصلح {نيسان 1833م}، كانت عنصراً رئيساً في تفجير الصراع الدولي في المنطقة ضمن إطار المسألة الشرقية، بعد أن خيّل للعالم أن الضربة القاضية لتفكيك الدولة العثمانية أصبحت وشيكة الوقوع.

لذلك قررت إنكلترة تجريد مصر من أسطولها البحري، حتى تعجز عن إمداد قواتها في الشام عن طريق البحر، وأمرت الكومودور شارل نابييه (Napier) بأسر الأسطول المصري أو تدميره، وكانت بعض السفن الحربية المصرية في مرفأ بيروت. وكانت فرنسا تؤيد مصر في حربها، فأرسلت إحدى سفنها لتبلّغ إبراهيم باشا بما تضمره إنكلترة، وعلى الفور عادت السفن المصرية إلى الإسكندرية . وعندما جاء نابييه إلى بيروت لم يجدها،وظل في عرض البحر ينتظر الفرصة لتنفيذ مهمته. وبالمقال أخذ سليمان باشا، {حاكم سوريا وقائد القوات المصرية}، في تحصين بيروت وغيرها من الثغور السورية توقعاً لمواجهة الأسطول الإنكليزي.

وفي أوائل آب 1840م، حاصر الأسطول الإنكليزي سواحل مصر والشام. ورجع الكومودور نابييه إلى بيروت واستولى في طريقه على كل ما صادفه من المراكب المصرية حربية كانت أم تجارية، وأنذر الجيش المصري بإخلاء بيروت وعكا في أقرب وقت. وكان إبراهيم باشا قد أستعد للدفاع عن بلاد الشام، فجاء  إلى بيروت وعسكر في ضواحيها.

وأمام التحالف التركي/الأوروبي، جاء أسطول دولي، بقيادة الأميرال الإنكليزي روبرت ستوتفورد، والأميرال النمساوي بانديارا، ويتألف من ثلاث وعشرين سفينة حربية إنكليزية وخمس تركية وثلاث نمساوية، تحمل بين عشرة وخمسة عشر ألف جندي تركي وألفي جندي أوروبي. ونزلت قوات الحلفاء في ميناء جونية شمال بيروت. أما القوات المصرية المرابطة في بيروت، فكانت تتألف من عشرة آلاف جندي. وأرسل الأميرال الإنكليزي إنذاراً إلى سليمان باشا يأمره بإخلاء بيروت فوراً، فطلب سليمان باشا مدة أربع وعشرين ساعة لمراجعة إبراهيم باشا في الأمر، فلم يقبل طلبه.

وفي الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة 10 أيلول 1840م، رست بارجة إنكليزية تجاه المحجر الصحي {الكرنتينا}، وقذفت {الباكسترانس} ببعض قنابلها. ثم جاءت بارجة نمساوية لمساعدة البارجة الإنكليزية بقصف المحجر الصحي، بالرغم من وجود العلم الأسود عليه للدلالة على أنه مستشفى عسكري. وفي هذه الأثناء اتجهت أربع سفن إنكليزية نحو جنوب شرق رأس بيروت، في محاولة الخداع بأنها ستقوم بعملية إنزال على الشاطئ، ثم أتجه في الساعة التاسعة نحو جونية. لكن هذه الحيلة لم تنطل على القوات المصرية المرابطة في رأس بيروت، فلم تطلق بندقية أو مدفعاً. وكانت خطة سليمان باشا أن يدع القوات التركية والإنكليزية تنزل إلى البر، لمحاصرتها والقضاء عليها. وتابعت مدفعية الأسطول قذف بيروت والمحجر الصحي بالقنابل، مما أدَّى إلى قتل النساء والأطفال والشيوخ والفلاحين أكثر مما قتل من الجنود.

وفي الساعة السادسة من صباح يوم السبت 11 أيلول 1840م، عادت المدفعية الإنكليزية تقصف بيروت، وأرسل الأميرالان الإنكليزي والنمساوي رسالة إلى قائد القوات المصرية يطلبان فيها تسليم بيروت وسحب الجنود المصريين منها، وإلا فإن المدينة ستقصف بعنف. وكان رد سليمان باشا رفض تسليم المدينة، وأنه إذا فشل في الدفاع {{فلن نستوليا على بيروت إلا بعد أن تصبح هذه المدينة رماداً}}. 

ونتيجة قصف الأسطول الإنكليزي يومي 10 و11 حزيران 1840م، تهدَّم سور بيروت تهدماً يكاد يكون كاملاً كما دمرت جانباً وافراً من أحسن أبنيتها القائمة على أطرافها، وتهدم البرج الكشاف، وأحرق الأسطول المصري. ورغم ذلك ترددت قوات التحالف التركي ـ الأوروبي في احتلال بيروت، التي بقيت تحت سيطرة الجيش المصري شهراً، ظهر خلاله عامل جديد كان له تأثير سيء في مركز القوات المصرية.

فبعد أن كان الموارنة بجانب الحكم المصري في البداية، وقفوا إلى جانب الحلفاء للمساعدة في طرد المصريين، وذلك بعد أن غرس الإنكليز بذور الثورة في النفوس، وبعد نزول قوات الحلفاء في أماكن مختلفة على الشاطئ السوري، ولا سيما على مقربة من نهر الكلب وجونية، حيث تمّ توزيع ثلاثين ألف بندقية على الفلاحين في الجبل، واستولى الحلفاء على جبيل ثم البترون، واحتلوا حيفا وصور وصيدا، ثم سقطت بيروت في تشرين الأول 1840م، بعد أن انتصروا على القوات المصرية في معركة بحرصاف. وجلا المصريون عن طرابلس واللاذقية وأدنه من غير قتال، ثم استسلمت عكا في 4 تشرين الثاني 1840م، وكذلك يافا ونابلس.

نهاية الحكم المصري ونفي الأمير بشير الثاني عن طريق بيروت بحراً

أسفر التحالف التركي ـ الأوروبي بزعامة إنكلترة، عن نهاية الحكم المصري لبيروت والشام. واحتشدت القوات المصرية قرب دمشق لتنسحب جنوباً في كانون الأول 1840م نحو مصر، فوصلتها بعد أن لاقت الأهوال والمصاعب والخسائر خلال الانسحاب.
أما الأمير بشير الشهابي الثاني فقد عرض على الحلفاء انضمامه إليهم عندما رأى أن الوضع لصالحهم، لكنهم لم يطمئنوا إليه لوقوفه إلى جانب إبراهيم باشا، فأرسل إلى بيروت ومنها حملته سفينة إنكليزية إلى منفاه في جزيرة مالطة في تشرين الثاني 1840م، ثم إلى أسطنبول حيث تُوفي سنة 1850م.

وبدخول الحلفاء بيروت، أبقي على السيِّد عبد الفتاح آغا حمادة متسلماً رئاسة مجلسها العالي. وبرحيل محمود نامي بك مع القوات المصرية، تولى بيروت زكريا باشا ثم سليم باشا فعزت باشا.

عودة للفصل الرابع

عودة للباب الخامس

عودة للصفحة الرئيسية