الفصل الثاني

المنظمة رشحت إبراهيم والموساد جندته

صدف أن الباخرة الإيطالية " أكيلي لاورو " تحفل بتاريخ مأساوي . ففي 1972 شب حريق على سطحها ثبت أنه تم بفعل فاعل، بينما كانت موجودة في حوض جاف في جنوا شمال إيطاليا، وأدى الحريق إلى إصابة عدد كبير من العمال ورجال المطافئ ، وفى 1975 اصطدمت بسفينة شحن لبنانية صغيرة تدعى " يوسف بابا " عند مضيق الدردانيل ولم يصب أحد من ركاب السفينة ال750 حينئذ ، إلا أن أربعة من طاقم السفينة اللبنانية اعتبروا في عداد المفقودين، وفى 1975 تم احتجازها أثر شكوى تقدمت بها الشركة البحرية وتمت ملاحقتها قضائياً رغم أنها أفضل سفينة لدى أكبر الشركات البحرية الإيطالية . وفى 1976 صادرت الشرطة 29 طاولة ميسر كانت على متنها، ومثل مالكها أمام القضاء بتهمة انتهاك المنظمة للعب الميسر و" قواعد " الميسر . وفى 1981 شب حريق آخر على سطحها وهى في عرض البحر أمام جزر الكناري أدى إلى مقتل اثنين من الركاب وبعد عام من هذا التاريخ استطاع الدائنون في جزر الكناري الحجز عليها أكثر من عام ، وبعد ثلاثة أعوام أي في 8 تشرين الأول1985، تم اختطافها .

اثر ذلك أعلن وزير الدفاع الإيطالي جيوفانى سبادولينى حالة التأهب بين جميع الوحدات العسكرية القادرة على العمل لحماية المواطنين الإيطاليين ، واختطفت الطائرة على بعد 50 كيلو متر شمال بور سعيد، خارج المياه الإقليمية المصرية، إلى أن انتهت دراما السفينة التي كان على متنها حوالي 400 شخص من جنسيات مختلفة ، بعد أن احتجزتها السلطات المصرية أربعة أيام، بعد ذلك أقلت طائرة مصرية مدنية المسلحين الأربعة ومعهم أبو العباس ومرافقه الخاص أبو على كاظم، من قاعدة عسكرية مصرية غرب القاهرة إلى تونس ، وفى الجو حصلت المفاجأة حيث تم اعتراض الطائرة المدنية المصرية من قبل 14 طائرة حربية أمريكية انطلقت من حاملة الطائرات في الأسطول الأمريكي السادس ، وأجبرت طائرة أبو العباس ومقاتليه على الهبوط في صقلية . وأثر ذلك سمحت السلطات الإيطالية لأبو العباس بالسفر إلى بلغراد ، ومن هناك توجه إلى جهة مجهولة ، لتبدأ صفحة من مطاردة المخابرات الإسرائيلية له في كل مكان في العالم .

تصفية ضباط " الموساد "

ولم تكن المخابرات الفلسطينية بمعزل عن هذه الأحداث فقد زودتها معلومات تشير إلى وصول ضابطين من المخابرات الإسرائيلية " الموساد "في 6  تشرين الأول إلى أسبانيا، وقد دخلاها على أنهما بحاران، فصدرت التعليمات إلى فريق متخصص الساحة الأسبانية باستدراجهما . وفعلاً . بعد توقف سفينتهما في عاصمة إقليم كتالانيا، وهما صهيون أبو يعكوف، وملأبوهما، حتى انتقلا إلى برشلونة من أجل تنفيذ مهمة الموساد وعلى الفور تحرك الفريق الفلسطيني الذي قام بتضليل الرجلين واستدراجهما إلى شقة في شارع فالنسيا حيث تم التحقيق معهما عدة ساعات ثم قتلا في الشقة . وفى 16 تشرين الأول 1985 عثر البوليس الأسباني على جثتيهما ، فاضطر المدير الإقليمي للموساد في أسبانيا والبرتغال للانتقال إلى مدريد بعد اكتشاف الجثتين للتحقيق في الموضوع ، في حين كان شمعون بيريز يتابع الحادث والتحقيقات المتعلقة به شخصياً . وأعلنت " القوة 17 " مسئوليتها " عن الحادث، علماً بأن عدة أجهزة فلسطينية اشتركت مع المخابرات الفلسطينية في تنفيذ العملية التي تمت بسرعة . وهذه الأجهزة هي " جهاز الغربي " الذي كان يرأسه الشهيد أبو جهاد وجبهة التحرير الفلسطينية التي يتزعمها " أبو العباس " وجهاز " القوة 17 " الذي يرأسه العقيد أبو الطيب .

ومن خلال المعلومات والمعطيات التي كانت بحوزة جهاز المخابرات الفلسطينية ، بات واضحاً أن إسرائيل قامت بقصف مقر منظمة التحرير لتحقيق عدة أهداف، أولها ضرب جهود التسوية بعد توقيع الأردن " اتفاق عمان " الذي كان بمثابة مبادرة سياسية أردنية – فلسطينية مشتركة، شكلت إحراجا كبيراً للقيادة الإسرائيلية التي ترفض السلام عملياً رغم حديثها المستمر عنه ، وتعرقل أية خطوات جدية عربية أو دولية ، وبالتالي فقد حققت الغارة أهدافها من حيث إدخال المنطقة في مرحلة من العنف، لكنها لم تستطع أن تضرب التوجهات العربية نحو السلام .

وقد عرفنا كيف مهدت إسرائيل للغارة وخططت لها وانتظرت التوقيت المناسب . ثم أوعزت إلى وسائل الدعاية الصهيونية في العالم ، بإثارة ضخمة عالمية حول عملية " أكيلي لاورو " واتهام مجموعة أبو العباس بقتل عجوز أمريكي مقعد على ظهر الباخرة . رغم أن التحقيقات أثبتت أن أحد المسافرين الصهاينة ألقى به عن ظهر السفينة ، لإثارة الرأي العام العالمي ضد الفلسطينيين . وقد أثارت إسرائيل هذه الزوبعة لتحقيق عدة أهداف ، أهمها صرف الأنظار العالمية عن جريمتها بقصف مقر المنظمة في تونس ، ثم خلق موقف أمريكي معاد للقضية الفلسطينية ، عبر وسائل الإعلام الصهيونية ، وبواسطة اللوبي الصهيوني في أمريكا إضافة إلى عنصر هام جداً ، وهو تزويد المخابرات المركزية بمعلومات مغلوطة حول منظمة التحرير لضرب أية محاولة تقارب بين أمريكا والمنظمة . بالإضافة إلى هدف آخر أرادت إسرائيل تحقيقه ، وهو الظهور أمام الرأي العام الإسرائيلي بأنها الدولة الوحيدة التي تقف ضد الإرهاب بفعالية .

ومن خلال معلومات المخابرات الفلسطينية كانت صورة المرحلة المقبلة تبدو قائمة فالمنظمة تتجه نحو المزيد من العنف ، والمعلومات تشير إلى أن المخابرات الإسرائيلية ستستغل هذه الضجة الإعلامية التي أثارتها الأصابع الصهيونية حول " أكيلي لاورو " لتنفيذ عدة اغتيالات ضد القيادة الفلسطينية .

الجاسوسة سوزان

وفى اجتماع مصغر عقد في غرفة مكافحة التجسس الفلسطينية نوقشت برقية وردت من باريس تقول أن الجاسوسة الإسرائيلية سوزان آتية من باريس في مهمة تجسسية لم تعرف تفاصيلها . وكانت دماء شهداء حمام الشط لم تجف بعد ، ورأى بعض الضباط أن اعتقال الجاسوسة والتحقيق معها وإعدامها أفضل معالجة للأمر.

إلا أن أبو محمد على بسيونى رأى غير ذلك ، من خلال استشفافه للمرحلة المقبلة . فالمخابرات الإسرائيلية حسب رأيه بحاجة إلى روافد جديدة للمعلومات ، ولعل المهمة الرئيسية الموكلة إلى سوزان الآتية من باريس ، هي ترشيح عملاء " الموساد " لأن المرحلة مشحونة بالعنف المتبادل ورغم تطور وسائل جمع المعلومات إلا أن العنصر البشرى يبقى الأهم .

وكان اقتراح أبو محمد يتمثل في ترشيح أحد الشباب ليلعب دور العميل المزدوج . ولم يلق الاقتراح معارضة، إلا أن الشخصية المطلوبة ومواصفاتها أثارت جدلاً كبيراً، إذ أن الكفاءة ليست هي الصفة الوحيدة المطلوبة للرجل الذي سيلعب الدور، فالعملية تتطلب مواصفات ومميزات عديدة يصعب توفرها باستمرار في شخصية واحدة . وظهرت فكرة مجنونة ومغامرة ومحفوفة بالمخاطر.

Ø     عندما قال أبو محمد " إنني أرشح إبراهيم سلمان " ، وصعق الضابط حسين لهذه الفكرة وقال موجهاً حديثه إلى أبو محمد :

Ø     " أنت تعرف طبيعة عمل إبراهيم سلمان " .

Ø     فأجاب أبو محمد : " لهذا السبب رشحته " .

Ø     واستطرد حسين : " ولكن هذه مخاطرة "

Ø     فأجاب أبو محمد : " إنني أراهن عليه " .

وكان رهانا خطيرا بالفعل فسلمان يعمل مرافقا للقيادات الفلسطينية، وقد أراد أبو محمد أن يقدم طعما يسيل له لعاب الموساد، والاهم انه يريد معلومات تتعلق بالقيادات في المرحلة المقبلة . فهذا المرشح للدور شاب وطني موثوق به ، ومطلع على أمن القيادات، وحساس، وزكى وسريع البديهة ، هل يقبل هو القيام بهذا الدور ؟ فوجئ الشاب وهو يستمع إلى أبو محمد عندما طلب منه تنفيذ المهمة . ومضت دقائق طويلة وهو صامت لا يتحدث وكأنه فقد القدرة على النطق لكن أبو محمد كان يحس بالشاب . وبالأفكار التي تدور في رأسه ، وتذكر موقفاً شبيهاّ عندما رفض واحد من ضباط المخابرات الفلسطينية العاملين تحت إمرته بتوجيه أحد العملاء المزدوجين لأن العملية بطبيعة الحال تقتضي تزويد العميل بمعلومات معينة ومدروسة وفيها نسبة محددة من الصحة ، فرفض الضابط المهمة بقوله أنه لا يستطيع أن يزود العدو بمعلومات حتى لو كان الأمر يتعلق بلعبة تجسسية . واحترم أبو محمد موقف ضابطه ونقله إلى عمل آخر في الجهاز .

وخرج سلمان عن صمته وقال بصوت مخنوق :

Ø     " الأفضل إذا كان بالإمكان أن تعفيني من المهمة "

Ø     فقال أبو محمد : " لم أجد أفضل منك الآن لهذه العملية . ونحن بحاجة إليك ، وفلسطين كلها بحاجة إليك يا إبراهيم "

Ø     وبصوت بدا معه وكأنه يحدث نفسه أجاب : " وهل تعتقد أن من السهل على شخص مثلى أن يتعاون مع العدو حتى في إطار مهمة مكلف بها ؟ ! "

Ø     فقال أبو محمد : " لو وجدت غيرك الآن لأعفيتك. ولكن ثق تماماً أنني لم أجد أحد بمواصفاتك " .

Ø     فقاطعه سلمان قائلاً : " أعصابي لن تحتمل مثل هذا العمل " .

Ø     فأجابه أبو محمد : أعدك " في المرحلة التي تقرر فيها التوقف عن العلم أن أوقف العملية مهما كان الثمن " .

Ø     فابتسم وهو يسأل : " هلهل هذا وعد ؟ ! "

Ø     فاجابه أبو محمد : " أنت تعرفني جيدا " .

انفرجت أسارير سلمان بعض الشيء إلا أن شعورا غامضا قلقا كان يشع من عينيه، في حين كان أبو محمد يقول في نفسه الحمد لله . وبدأت جلسة العمل الأولى مع سلمان حدد فيها أبو محمد خطوات العمل في المرحلة الأولى وافهمه كيف سيتصرف في كل المواقف المحتلة ، وحدد له وسائل به شخصيا . وفى اليوم التالي وردت معلومات جديدة تقول إن سوزان ستغادر باريس في 29 تشرين الأول 1985 .

لقاء العميلين

وفى المقعد المجاور للنافذة في الطائرة الفرنسية جلست فتاة شقراء، شعرها الأصفر ينساب على كتفيها وهى تحاول تجاهل نظرات الرجال كلما تحركت في مقعدها . وفتحت صحيفة فرنسية و أخذت تقرا فيها في حين جلس إلى جوارها رجل عجوز مع زوجته . ومثل كل العجائز أخذا يثرثران بشكل أزعج الفتاة التي كانت بحاجة إلى الهدوء للتفكير في المهمة الصعبة التي جاءت من اجلها، ولكنها لم تلاحظ عينين كانتا تراقبانها من مقعد خلفي فلم تكن تدر أنها منذ فترة وهى محل مراقبة دقيقة من المخابرات الفلسطينية والتقارير كانت ترد بانتظام حول نشاطها وتحركاتها .

في المساء هبطت الطائرة من في مطار تونس، فتوجهت سوزان إلى قسم الجوازات والجمارك وقدمت جواز سفرها البريطاني المزور، حيث تمت الإجراءات بشكل عادى وسريع مثل أية إجراءات خاصة بالسيدات الأجانب . وأخذت أمتعتها ولم يكن لديها ما تصرح به للجمارك من أدوات كهربائية أو ممنوعات ، ثم خرجت تبحث عن سيارة أجرة ، فأشارت إلى السائق الذي حمل الأمتعة المكونة من حقيبة زرقاء كبيرة ، وحقيبة يد جلدية صغيرة بنية اللون .

تحركت سيارة الأجرة البيضاء من نوع " بيجو 205 " ، وقال السائق بلغة فرنسية مكسرة، لأنها اللغة الأجنبية الوحيدة التي يعرفها : أهلاً بك في بلدنا . الحمد لله على السلامة ، أجابت الفتاة وهى تبتسم ، وقال بفرنسية سليمة : " شكراً فندق هيلتون " .

اثر وصولها إلى الفندق الذي يعتبر واحد من أفخم الفنادق في العاصمة التونسية بالرغم من أن تاريخ بنائه يعود إلى السبعينات ، ولكنه بقى محافظاً على مستواه كفندق خمس نجوم ، بدا أن اختيار سوزان هذا الفندق ليس اعتباطياً وانما يعود إلى سبب أمنى يتعلق بمهمتها ، فعل هذا الفندق يتردد يوميا عشرات الفلسطينيين من المسؤولين والكوادر والمرافقين وينزل به بعض مسؤولى منظمة التحرير الفلسطينية وهذا الفندق أصبح يشهد يومياً في الصباح وفى المساء ندوات سياسية وغير منظمة تشارك فيها كوادر منظمة التحرير الفلسطينية ، قبل أن تتخذ قراراً بالحد من نزول كوادر المنظمة في الفنادق وتأمين شقق خاصة لاعتبارات أمنية .

وفى صباح اليوم التالي وفى حوالي الساعة التاسعة كانت سوزان تجلس في بهو الفندق وأمامها على الطاولة الصغيرة مفتاح غرفتها رقم 512 . تناولت سيجارة من علبة السجائر الفرنسية من نوع " رويال " التي كانت ملقاة على الطاولة وبجانبها ولاعة ثمينة . وبعد ربع ساعة جاء سلمان وجلس على مقعد قريب منها ، فيما يقرأ صحيفة يومية باللغة العربية ، وينظر في ساعته بقلق وكأنه ينتظر قدوم شخص ما .

أخرج علبة سجائره وتقدم منها طالباً الولاعة، فابتسمت وأشارت إلى الولاعة بيدها ، وتظاهرت بالانشغال عنه في حين كانت تراقب حركاته بطرف عينها منذ جلوسه ، ونظر إليها نظرة ذات مغزى ، وقال :

Ø     " أنت سائح أليس كذلك ؟ " .

Ø     فرفعت رأسها وقالت بحذر " نعم " .

وبدأ الشاب في حوار مفتعل مع سوزان حول الطقس في أوروبا والبلدان العربية والسياحة ، على طريقة الشباب الذين يطاردون السائحات الأجنبيات، أعجبها الحديث . وأخذت تتفاعل معه على أنها إنجليزية تعيش في فرنسا ووالدها مليونير لديه شركات في لندن وباريس .

Ø     وفجأة سألته : " ما هي جنسيتك ؟ "

Ø     قال بخبث : " لا داعي .. قد يزعجك ! " .

Ø     وفتحت عينيها باستغراب وقال : " لماذا ؟ ! "

Ø     قال : " لأنني فلسطيني "

Ø     فأبدت بعدم اكتراث وهى تقول : " هل تعتقد أن هذا مزعج ؟ " .

Ø     قال : " أنتم الأوروبيين تعتقدون أننا إرهابيون " .

Ø     فابتسمت بارتياح وقالت : " أنت مخطئ ، لقد تغيرت مواقفنا وتبدلت الصورة القديمة، ولكن الفلسطينيين لم يستوعبوا التغيير الذي طرأ على مواقف الشعوب الأوروبية، من القضية الفلسطينية " .

Ø     قال : " يسعدني أن أسمع هذا الكلام ". ثم التفتت إليه وقالت : " ماذا تعمل ؟ "قال : لسوء الحظ ، في منظمة التحرير الفلسطينية " .

Ø     أحست الفتاة أن الشاب لديه الكثير مما يقوله ، فسألت : " لماذا تقول هكذا ؟

Ø      " قال : " إذا التقينا مرة أخرى ستعرفين السبب " .

Ø     قال : " انه موضوع يخصك وحدك على أية حال " .

Ø     قال : " أنا مضطر لأن أغادر الآن . لدى عمل ، لقد انتظرت صديقي لنشرب القهوة ولم يأت " . ثم أضاف بانفعال : " يبدو أننا فعلاً لا نعرق النظام " .

Ø     قالت: " إذا أردت اجلس لنتحدث . أنا لا يوجد لدى ما أعمله الآن " .

Ø     قال : " لا أستطيع لدى عمل لكن إذا أردت سأتصل بك في الهاتف . ونتقابل مرة أخرى . في أية غرفة تنزلين ؟ "

Ø     قالت : " بكل سرور . غرفة رقم 512 " .

Ø     قال : " هذا رقم هاتفي إن احتجت إلى أي مساعدة أنا تحت أمرك " .

وقدم لها رقم هاتفه في المنزل ، ثم انصرف . لكن اللقاءات تواصلت .