نص المحاضرة الزوبعة
مِنّ الطٌريف، كما أظنٌ، أن نبدأّ فنلهوّ قليلا مع اللٌغة. لعلٌكم تعرفون جميعا أنٌ من مّعاني كلمة مدينة في ' لسان العرب': الأّمّة، أي المرأة المملوكة. ويجقال عن إنسان: إِنٌه ' بن مدينة '، بمعني أّنٌه ابْنج أّمّةي. هكذا يقال للعبد: مّدين، وللعبدة: مّدينة. ولا يقال: مّدّنيٌ إلاٌ نسبة إلي ' المدينة المنوٌرة' مدينة النبيٌ. أمٌا النٌسبة إلى المدن الأخري فهي' مّدِيني'، وذلك للتمييز بينها وبين النٌسبة إلي المدينة المنوٌرة.
أضيف إلي هذا اللٌهو اللٌغويٌ أنٌ هناك رجؤيتين في تأسيس المدن، تحدٌث
عنهما ميشيل سِيرٌ في كتابه 'أصول الهندسة' هي الرؤية الرٌومانيٌة، ما قبل المسيحيٌة، ورؤية القدٌيس أوغسطينوس، تضيئان كثيرا حديثي اليوم عن مدينة بيروت.
تقول الأولي، كما تروي الأسطورة، إنٌ روما أسٌست علي رأسي فصِل عن عنقه. القاتل رومولوس والقتيل أخوه التٌوأم روموس، 357ق.م. علي الدٌم القّتْلِ التٌضحيةِ، نهضت روما، وّعّلتْ أسوارها. ليس عجيبا إذا، أن يصف شاتوبريان روما بأنٌها ' مدينة القبور'.
تقول الرٌؤية الثٌانية، رؤية القدٌيس أوغسطينوس، إنٌ المدينة الحقيقيٌة التي يسمٌيها ب' مدينة الله' لا تقوم علي القتل أو التٌضحية، وإنما تقوم علي الانبعاث، انبعاث المسيح. بتعبيري آخر، لا تجبني المدينة علي الموت، وإنٌما تجبني علي القيامة علي الحياة.
ربٌما كان مفيدا ومضيئا أن أشير أخيرا إلي أنٌ شعب الآزتيك كان يذبح عذاراه علي ذروة الهّرم في المدينة، قرابينّ لِلشٌمس، خوفا من عدم شروقِها. كان يؤمن بأنٌ الفجر لا يطلع إلاٌ إذا غابت عذاراه. الجريمة هي التي تجعل الشٌمسّ دائمةّ الشروق، وهي التي تؤسٌس لِلتٌاريخ.
اسمحوا لي الآن أن أطرح بضعة أسئلة توحيها هذه الرٌؤي.
أين تتجلٌي براعة اللٌبنانيين (والعرب، بعامٌة)، في الإحياءِ، أم في الإماتة؟ في الاحتفاء بالحياة، أم في حّفْر القبور، وتأبين الموتي، والاحتفاء بالموت؟ في بناء الحياة، أم علي العكس في بناء الموت؟
هل في كلٌي منٌا، نحن العرب، آزتيكيٌ ينذر حياته لكي يقتلعّ قلبّ إنساني آخر من أجل أن تشرقّ شمسه الخاصٌة؟ هل تقوم الثقافة اللٌبنانية (والعربية بعامٌة) علي الفكرة الصٌخرة التالية:
لا تقوم الحياة ولا يجري الزٌمن إلاٌ حيث يتدفٌق الدمٌ؟
أنتقل الآن، فأطرح سؤالا، لا علي الواقع هذه المرٌة، بل علي المبدأ نفسه أصوغه كما يلي:
إذا كانت المدينة، رؤية هندسيٌة من ناحية، وعمرانا يحقٌق هذه الرؤية من ناحية ثانية، فهل الرؤية الهندسية لمدينة بيروت اليوم، تستجيب حّقٌا لما يمليه أو يفترضه مكانها الطبيعيٌ؟
وجوابي شخصيٌا، وأعتذر هنا للمهندسين المختصٌين هو: كلاٌ. فالهندسة المعمارية التي تهيمن علي مدينة بيروت تفتقر إلي الحدٌ الأدنى مِن الإبداع والخصوصيٌة. ويمكن وصفها إجمالا بأنها تقليد أو نّسْخ مبتذّل. لا شكٌ في أنٌ هناك استثناءات تمثلها بعض العمارات، غير أن القاعدة العامة تطمس هذه الاستثناءات الخاصٌة، وهي في أية حال، قليلة جدٌا.
تترجم هذه الهندسة مضمونا أو واقعا اجتماعيٌا أكثر مما تنطوي علي فنيٌة معمارية، أو خصوصية، أو معني متميٌز فريد، هندسيٌا. إنها مجرٌد ترجمة وظيفيٌة، مجرٌد نتيجة لواقع اقتصاديٌ اجتماعي طائفيٌ. وهي إذن قوالب جاهزة، أكثر ممٌا هي عمارّة مخطٌطة. القوالب أشكال واحدة تتكرٌر. وكلٌ تكرار يفرغ المدلول من دلالته، مولٌدا النٌفورّ والإحساسّ بالضٌيق.
إنها، باختصار، هندسة لا تستند إلي استراتيجيٌة عمرانية. وهي في هذا الإطار، نوع من تدمير الفضاء. أو لنقل: كما تدمٌر الطائفيٌة فضاء الثقافة والإنسان في بيروت، فإنٌ هذه الهندسة تدمٌر فضاء المكان. إنها نوع آخر من 'استهلاك' المكان. وليس المكان خارج الإنسان، وإنما هو داخله، ولهذا فإنٌ كل عّبث بالمكان إنما هو عّبث بالإنسان نفسه.
ولئن كانت المدينة تتميٌز، هندسيٌا، بما يمكن أن نسمٌيه ' مِتْعّة ؟ المكان، امتدادا لمتعة ' النٌص، وفقا لرولان بارت، فإنٌ بيروت تكاد أن تخلو من هذه المِتعة. وأعني بها، هندسيٌا، استخدام الفراغ المكانيٌ، جماليٌا، إلي جانب استخدامه، وظيفيٌا. وتتمثٌل هذه المتعة في إضفاء الشعريٌة والجماليٌة، وبالتالي، القيمة علي جسديٌة هذا المكان.
مثلا، لا بجدٌ من أن تقّام علاقات وثيقة بين الهندسة المعماريٌة في المدينة والفنون الأخرى النٌحت بخاصٌة. ساحة المبني، الشٌارع، الحديقة، المفارق والتقاطعات، الزٌوايا هذه كلٌها لا تندمج في بِنية المدينة، أو لا تأخذ أبعادها المدينيٌة إلاٌ إذا امتلأ فراغها بأشياءّ فنيٌة أو طبيعيٌة تكمل معماريٌتها. لا بجدٌ، إضافة إلي ذلك، من خّلْق فضاءات جميلة في بنية المدينة، خاصٌة بالرٌسم وأنواع التٌصوير كلٌها، وبالمسرح، والشعر والسينما وبقيٌة الأشكال التٌعبيرية الفنيٌة.
الهندسة متكاملة عضويٌا مع الفنون الأخرى. وهي، في بناء المدينة، تحتاج إليها، جوهريٌا، للتٌعويض عمٌا تنطوي عليه من الأبعاد الوظيفيٌة. فهذه الفنون هي التي تكمل الجماليٌة الهندسيٌة وتخلق ما سّمٌيتجه ' مِتْعةِ ' المكان.
هكذا يسهل علينا كثيرا أن نلاحظّ أنٌ تكوينّ صور الفضاء البيروتي أو أشكالِه، لا يصدر عن رؤية هندسيٌة مدينيٌة جماليٌة، وإنٌما يصدر عن نّزوات فرديٌة تتطابق مع مصالحّ معيٌنة تجاريٌة اقتصادية، أو طائفية اجتماعيٌة. وينتج عن ذلك فضاء هندسيٌ ملوٌّث وملوٌِث، إضافة إلي عشوائيٌته. ولا يكون مِثل هذا العمران إلاٌ نوعا من سّرقة الفضاء أو اغتصابه، نوعا من العجنْف ضدٌ الأرض، نوعا من اغتيال الأرض، واغتيال الفضاء.
والحال أنٌ العمران في بيروت مجرٌد تقنية عمليٌة لتلبية الحاجة، ويفتقد اللقاءّ الحميم بين البناء والفضاء. كأنٌ العماراتِ تضاريس مصطفة مشكوكة في تضاريس الطبيعة كمثل أظفاري ومخالبّ تنهش كّبِدّ الأرض.
بيروت، اليوم، مجموعة أحياء كمثل صناديق بطبقات مظلمة ومغلقة. ولْنسألْ: هل برج حمود جار حقيقي لحيٌ الحمرا، أو رأس بيروت؟ وهل حيٌ الأشرفية جار حّقٌا لحيٌ عين المريسة أو الشيٌاح؟ وكلٌ حيٌ يعدٌ نفسه سرٌة بحيث نجد أنفسّنا أنٌنا أمامّ مجموعة من السٌرّر، ودون جسم حقيقيٌ. ونري تِبْعا لذلك أنٌ سكٌان هذه الأحياء الصٌناديق ليسوا إلاٌ أشتاتا يتلاقون في مكان جغرافي اسمه، تاريخيٌا، بيروت. وبيروت، في ذلك، مّشْهّد لا مدينة. كأنٌ الطبيعة في بيروت ليست طبيعيٌة. ولا إنسان حيث لا طبيعة. وها هي الشٌوارع والسٌاحات، أينما توجٌهنا، تحتلٌها التماثيل والصٌور والشعارات في نوع من الاحتلال أو التٌناهب يفرض رموزا تحيل إلي نوعي آخر من المحاصّصة، وتحوٌل فضاء المدينة إلي مجموعة أشلاء. وما نجده في بعض أحياء بيروت من نموٌي، أو خدمات، أو نظافة، إنما هو تابع لموقع الطٌائفة، ونفوذ زعمائها، وغني أفرادها، أكثر مما هو تابع لمخطٌطات أو رؤي مدينيٌة عامٌة تشمل المدينة بكاملها، أو تابع لمعاييرّ جماليٌة تنتظم المدينة. ويكفي أن ننظر إلي الجامعة اللبنانيٌة الوطنيٌة التي يفترض فيها أن تكونّ الجامعة الأولي، لنري كيف أنٌها تعكس انحلالّ الثقافة الوطنيٌة في اللاٌوطنيٌة، واللاٌمدنيٌة، واللاٌمدينيٌة في آن. إنها تجسيد للانهيار الوطنيٌ، من داخل تربية، وثقافة، وسياسة. فثقافة بيروت كمثل هندستها وهندستها كمثل ثقافتها. فيها أكثر من ثقافة: ينابيع ثقافية كثيرة متنوعة تتنابّذ أكثر ممٌا تتآلف. والحياة الاجتماعية فيها مرتبطة بأحيائها السٌكنية، وهذه مرتبطة بثقافة سكٌانها. والدٌين هو الأساس الأوٌل المكين لهذه الثٌقافة. فبيروت مساحّة فسّيْفسائية: مجموعة أحياء، مجموعة طوائف، مجموعة ثقافات. وهي، منظورا إليها من هذه الزٌاوية، مدينة لا مدنيٌة، أو مدينة غير مّدِينيٌة. ويّزيد في هذه اللامّدينيٌة، علي نّحْو تناقضيٌ فاجع وساخر في آن، الخطاب البيروتيٌ المؤسٌسيٌ السٌائد: الديمقراطيٌة، وحقوق الإنسان، والإشعاع إلي آخر هذه الدٌعاوي.
مدينة بلا مدنية
وكما أنٌ بيروت مدينة بلا مدنيٌة، فإنٌ الثقافة السٌائدة فيها تبدو هي كذلك نوعا من الاسْتزْلاف، لِكثرة ما تنطوي عليه من الرٌِياء، والزٌخرفيٌة، والتٌبجح، والبعد عن القضايا الكبرى في مختلف المجالات. وما تكون أهميٌة ثقافة أو يكون دورها في بلّدي لا يأخذ فيه الإنسان الذي ينتجها قيمته من كفاءتهِ وإبداعيٌته، بقدر ما يأخذها من ولائه وانتمائه؟ والحقٌ أنٌ المؤسٌسات السياسية والإداريٌة والثقافية في بيروت لا تقوٌِم الإنسانّ استنادا إلي قدراته المعرفيٌة، بل استنادا إلي قدْراتهِ الطٌائفيٌة. وهو داخلّ الطٌائفة نفسها يقوٌّم استنادا إلي قرْبهِ أو بّعدِه من رئيس هذه الطٌائفة. فما أشدٌّ ما يمتّهن الإنسان في معايير هذه المؤسٌّسات. وهي مّعايير تنعكس في الثقافة. فليس في الثقافة اللبنانيٌة حوار حقيقيٌ بين أطرافها. هناك ضوضاء كلاميٌة: مدح أو هجاء.
في هذا الأفق ذاته، يمْتهّن فضاء بيروت. يجزٌأ إلي مجموعة من المحابِس كلٌ منها مسيٌّ بتقاليده. لكنٌ الفعْلّ الخفِيٌّ في التٌنابذِ والإقصاء يتضمن هنا، علي نّحْوي مفارقي، نزوعا نحو التٌقارب يخفي عند كلٌ طرّفي نزوعا نحو جعل الآخر شبيها به، موقفا وتوجٌها. لكن، عندما أصرٌ علي أن أجعلكّ شبيها بي، فأنا في الواقع أصِرٌ علي أن ألغيكّ. فنزعة التٌقارب في بيروت، تّقْريب أكثر مِمٌا هي تّعايش. إنها إرادة إلغاء أو إقصاء، من حيث إنٌها إرادة تذويبي وصّهْر. والهدف دائما هو التغلٌب والهيمنة، تحت قناع التٌعايش، وليس التٌكاملٌ في التٌعدٌد والتنوٌع.
هكذا نري أن فضاء بيروت مكان مقدٌس لا بوصفهِ متٌحدا وطنيٌا واحدا، بل بوصفه متٌحداتي طائفيٌة. لذلك يتعذٌر، بدئيٌا، أن يكون مكانا سّوِيٌا. لا سويٌة إلا بدءا من الدٌنيويٌة. المكان المتّقّاسّم، طائفيٌا، ليس إلاٌ عالما من الانشقاقات، ومن الحدود والحواجز. والمحصٌِلة هي دائما حروب خفيٌة أو معلنة، بحسب المّرحلة والظٌّرف. كأنٌ رّحِمّ بيروت منذورة لكي تلدّ قايينّ باستمرار. وفي هذا ما يولٌد الشعور عند كلٌ طائفة بأنٌها تعيش في بيروت، في ما يشبه برميلا مثقوبا.
والحقٌ أّنٌ أّهْلّ الطٌوائف لا يقيمون في بيروت، بوصفها مدينة. إنهم يتحرٌكون علي أرضها، غير أنٌهم يقيمون، عمْقِيٌا، في الكنيسة وفي الجامع، وفي مكاني آخر هو الدٌكٌان السٌياسيٌ الاقتصاديٌ. لهذا يبدو الزٌمن في بيروت كأنٌه، حصرا، زمّن هذه الأمكنة الثلاثة، لا زّمن ثقافة مدينيٌة. كأن بيروت، في ذلك، تعيش خارج الزٌمن الإنسانيٌ الخّلاٌق، زمن الحضارة. كأنٌها مرٌّد مّرْصد، مجرٌد تّرقٌب. وتتمحور، بفعل ذلك، عبقريٌات هذه الأمكنة أو الفضاءات الثلاثة علي جعل المستقبل شكلا للماضي أو صورة له، أعني أنٌها تتمحور، عمليٌا، علي هدم بيروت الحاضر، والمستقبل. وما يكون شأن فضاء بشري يناضل من أجل تحويل المستقبل إلي ماض، أو يبدو فيه الماضي كأنٌه هو المستقبل؟
هل يحقٌ لنا، استنادا إلي ما تقدم أن نقول: كلاٌ، ليس لنا في بيروت من المدينة إلا الاسم، وإلاٌ ما يتسرٌب إلينا بالعدوى الخارجية من دلالات هذا الاسم. وهي عّدوي أسيرة للحدود السٌطحيٌة، خصوصا ما يتعلٌق منها بثقافة الاستهلاك، علي أنواعها؟
النواة المدينية
هل يحقٌ لنا من ثّمٌ القول إن بيروت لا تشكٌل نسيجا اجتماعيٌا واحدا. وإنما هي تراكمات أو تجمٌعات بشريٌة قائمة علي أساسي دينيٌ طائفيٌ؟ ونعرف جميعا أنٌ الحرب الأهليٌة الأخيرة كانت انفجارا وحشيٌا في البركان السٌياسيٌ الديني المستتر في بيروت، وأنٌها كانت توكيدا ساطعا علي أنٌ مفهوم المدينة، إنسانيٌا وثقافيٌا، لا مكان له عند أبنائها. كلٌ في هذه الحرب باستثناء أقليٌة مهمٌّشة، ركب سفينة انتمائه الطٌائفيٌ. وأخذ يّْهرج بمكبوتاته، ويمارسها، ويغتصب عمرانيا أرضّ لبنان، كيفما كانّ، وبمختلف الوسائل. وها هي مظاهر الاغتصاب تتكدٌس في بيروت، وعلي امتداد الشاطئ اللبناني جبالا أخري من الإسمنت الكريه، المهندّسِ ببشاعة تعْمي البصر والبصيرة، جبالا كريهة تقتل جبالّ الطٌبيعة، وتخنق شطآنّ الأبجديٌة.
لا تكتمل المدينةّ، أيٌة مدينة، ولا تكون مدينة حّقٌا إلا بالإبداع الإنسانيٌ الذي يحاور هويٌتها كينونة وديمومة. ويتمثٌل هذا الإبداع في الفنٌ، تحديدا. ذلك أنٌ الفنٌ، نحتا ورسما، موسيقي وشعرا، هو، كما يجمع الراؤون في تاريخ الإبداع البشريٌ وتؤكده التجربة، العمل الإنساني الوحيد الذي يعطي للإنسان ماهيٌة لا تتجاوز الإنسانّ وحده، وإنما تتجاوز كذلك الزٌمن. إنٌه يتميٌز، بين جميع الأعمال الإنسانية الأخرى، بديمومته وبتأثيره المتواصل. كأنٌ الفنٌ نظام زمنيٌ يؤسٌس لنظام كونيٌ، جماليا وإنسانيٌا. وبهذا المعني، تكون المدينة فّنٌا، أو لا تكون إلاٌ تراكمات عمياء. تكون فّنٌا: أي تخترق الوظيفيٌة، بحيث تمتلئ بالفنٌ، تماثيلّ، ومراكز بحث وفنٌ وعلم، وحدائقّ، مِن أجل إقامة توازن جماليٌي بين هندسة السٌّكن وهندسة الحياة اليومية العامٌة.
القسم الذي هدٌمته الحرب الأهلية في بيروت وأعيد بناؤه، وبخاصٌة شارع المعرض وما يتٌصل به مباشرة يشكٌل البقعة الوحيدة التي يمكن أن تكون النٌواة المدنيٌة والمدينيٌة لبيروت. فهذه البقعة، علي الرٌغم من خلوٌها من الأعمال الفنيٌة، بحصر المعني، يمكن أن توفٌر للمقيم وللعابر، بهندستها، والآثار التي كشف عنها، وفضائها المعماريٌ، وعناصر بنيتها التنظيمية، غبطة خاصٌة محفوفة بمشاعرّ جماليٌة تولد الإحساس بأنٌ المدينةّ مبنيٌة لخدمة الإنسان وراحته فكريٌا وجسديٌا. وهي بقعة تجسٌد عمليا النظرية العمرانية التي تقول بأنٌ الأبعاد الجماليٌة المتنوٌعة يجب أن تحيط بالإنسان علي نّحْوي دائمي، لا في بيته وحده، بل في أنحاء المدينة كلٌها. لذلك لا نستغرب إن رأينا هذه البقعة تمتلئ كلٌ يوم بجماعات من مختلف الأعمار، ومختلف الأحياء، ومختلف الطوائف، بقصد المتعة والرٌاحة، مما لا نراه في أيٌة منطقة أخري في المدينة. إنٌ في ذلك تمزيقا كريما للنسيج الطائفي في بيروت، ولنسيجها الثقافيٌ كذلك تطلٌعا ضمنيٌا، مكبوتا، إلي نسيج آخرّ مّدِيني ومدنيٌ.
لكن، هذا من حيث المبدأ. ذلك أنٌ الناس، عمليٌا، يتنزهون في هذا المكان، يتجاورون، لكن لا يتعارفون، وبالأخصٌ لا يتفاعلون، بالتعاون، بالشراكة، بالتبادل الثقافي بمعناه الواسع. ثم إن مشروع وسط المدينة، إنما هو التأجير والاستثمار. ربٌما يجد الناس في المستقبل صيغة للتبادل. لكن التخطيط الذي نفٌذ لم يجعْنّ بالتبادل الثقافي العميق المثمر. عني بتبادل البضاعة، وحدّها، علي أنواعها. إنه تخطيط ترميم وتجميل لسلام ما بعد الحرب الأهلية، وربٌما لإمكانيات ما بعد الحرب. إنه حتى الآن لا يتجاوز هذا الحدٌ. وعلينا جميعا أن نأمل ألاٌ تتدهور هذه البقعة، أعني وسط بيروت، تحت وطأة الجشع وشهوة الربح، وألا يحوٌلها المال إلي مجرٌد مجموعة من الدٌكاكين.
لكن، ماذا تعني كلمة مدينة في مصطلحها الحديث؟ تعني أوٌلا أنها تنطوي علي قيم مشتركة عامٌة، لا تمس. لا يمكن العبث بها. لأنها ليست ملكا خاصا لأحدى، بعينه، وإنٌما هي ملك عام لجميع سكٌانها بالتٌساوي.
وتعني ثانيا أنٌها تقوم علي الدٌيموقراطية للمحافظة أوٌلا علي هذا الملك العامٌ، وعلي حقوقه، وللمحافظة ثانيا علي حرية كلٌ فّرْدي فيها. فكلٌ ما في المدينة، مادٌة وفكرا، خاضع ومطروح للنٌقاش، في أيٌ وّقْت.
وتعني ثالثا التٌوازن الكامل بين هذا العام، المشترك اللاٌشخصي، وذلك الشخصيٌ الخاصٌ المتعيٌن، أيٌ التٌوازنّ بين الاجتماعية والفّردانيٌة.
إذا رجعنا، في ضوء ذلك، إلي التٌقليد الفلسفي القديم الذي يري أنٌ المثال الأكثرّ كمالا للفكر النٌظريٌ يكمن في تأمٌل الأرض والكون، فما يكون فكرنا، منظورا إليه بعين هذه الأرض التي تجسمٌي بيروت، وبعين الفضاء الذي يسمٌي الكون؟
ولئن قّرّنٌّا هذا السٌؤال بتذكٌر الأصول الأولي التي قامت عليها بيروت، وبينها الأبجديٌة، واستقصاء المجهول، واحتضان العّقْل، والانفتاح الخّلاٌق علي الآخر، فإنٌ الجواب عن هذا السؤال سيكون تراجيديٌا، مهما أضفينا عليه من أقاويلنا اللبنانيٌة الاستيهاميٌة التي اشْتهرنا بها.