عندما قرأت كلمة أدونيس التي ألقاها في "مسرح المدينة" أمام حضور صَبَرَ على إهانته له، حتى النهاية بعنوان "بيروت أهي مدينة حقاً أم أنها مجرد اسم تاريخي" تساءلت: لماذا؟ وكيف اختزن هذا الرجل الذي أحبته بيروت وحضنته وحضنه المثقفون اللبنانيون وساعدوه، كيف اختزن هذا الحقد "الباطني" كله؟ من أين استبدل هذه المشاعر الكامنة التي فجّرها بطريقة موتورة، وفجة، وعنصرية على الناس واللبنانيين؟ لم أصدّق للوهلة الأولى. ثم تداركت وقلت: لماذا تفاجأ؟ فتاريخ هذا الرجل شريط طويل من التنكّر . ثم تداركت: لكني فوجئت بشيء هام: كيف جفَّ هذا الرجل، ويبس، وتوقف عند أفكار بادتْ، وأقوال كسدت وتجووزت منذ الخمسينات وما قبل. وماذا كان يفعل في باريس وفي أوروبا وأميركا؟ ألم يعلق عليه شيء من التحوّلات الفكرية والشعرية والأدبية والسياسية؟ ولا شيء لماذا ذهب إلى باريس شاعراً، وعاد إلى بيروت سائحاً.
أهي سيرته في كل مكان. وتساءلت تكراراً لماذا يحقد على بيروت: ألأنه خرج من التداول الشعري والنقدي منذ ثلاثة عقود؟ ولم يعد بالنسبة، لبيروت (مختبر الشعر الأول في العام العربي ومحترف تجريبيته) سوى شاعر "اكتمل"، قبل أن ينضج، وذبل قبل أن ينضر. ربما كان هذا سبب حقده، وربما أسباب سياسية أو ايديولوجية. ولكن ما نريد أن نقوله أن أدونيس، برغم كل شيء، واحد منّا. لبناني منا. ولن نجعل منه "ضحية" كما يشتهي. وهو محترف تحويل نفسه ضحية. ومنشقاً. وخارجاً على السائد. سنحاول أن نناقش ما جاء في بيانه الأسود عن بيروت ولبنان... وكذلك ما جاء في متن كلمته من "أفكار" وانطباعات.
◄الهوية
يقول أدونيس إن بيروت "بلا هوية" ولا يمكن أن يكون لها هوية، ولا يمكن تالياً أن تكون مجتمعاً واحداً... هذا رائع. إنه كلام أعتبره لمصلحة بيروت يا أدونيس.
فألا تكون ثمة "هوية" لبيروت يعني أنها مدينة رفضت محاولات العسكر والبنى التوتاليتارية والايديولوجية الأحادية، والأصوليات والأفكار التقليدية الماضوية، أن تتحوّل، صورة ثابتة وأبدية لها. فبيروت لم تكن، ولا مرة، ذات "هوية" كالتي نجدها في المجتمعات الاستبدادية حيث تزول الفردية، وتمّحي الاختلافات، وتنصهر "التعددية" في أحادية طاغية. لا صوت واحداً في بيروت. بل خليط من الأصوات: الطائفية، والمذهبية والعلمانية، والديموقراطية والفاشية (هل تعجبك هذه الكلمة؟)، والليبرالية، والدينية، والمدنية، والرافضة، والقابلة، والعاقلة، والمجنونة. ومَنْ قال إن هناك مدينة في هذا العصر ذات هوية واحدة، إلا المدن التي تخضع لاستبدادات عسكرية أو دينية أو عنصرية، فيتحوّل الناس مجرّد قطعان (أتريدنا أن تكون هويتنا الواحدة الأبدية قناعاً للتوتاليتارية أو جوازاً لأفكار القطعان والمواشي). هل باريس يا أدونيس، ما دمت صرت باريسياً (وأنت لا تتحمّل غبار بيروت، ونعدك أننا سنطهّر الهواء من الغبار في قدومك المقبل)، هل باريس ذات هوية واحدة؟ ونيويورك (التي تنبأت بسقوط البرجين وأنت من المتنبئين باعتبار أن كل الأفكار التي كنت تستعيرها، والمشاريع التي انخرطت فيها تحققت كلها حتى آخر قطرة من الحداثة)، وهل القاهرة ذات هوية واحدة؟ وهل أنت يا أدونيس ذو هوية واحدة؟ وما هي؟ أولست أنت من نظّر ضد "الثابت" (أو الهوية الثابتة) والمتحوّل (أو الهوية المفتوحة). أوليست الهوية مشروعاً مفتوحاً يا أدونيس. وهذا يقودنا إلى قولك إن بيروت لا تشكل مجتمعاً واحداً. العوذ بالله! حتى التعددية الطائفية أفضل من مجتمعية دكتاتورية واحدة، حتى "الفسيفسائية" التي تتكلم عليها أفضل من قمع "الفسيفسائيات" والنتوءات الاجتماعية في بلدان الأحزاب الواحدة. وفكرة "الانصهار" التي تتغنى بها الأنظمة العربية في المناسبات ليس إلا ظاهرة من ظواهر قتل الاختلاف، وسحق التمييز، وإعدام الفوارق الفردية والجماعية. ويبدو أنك، برغم بعدك عنّا، قد انصهرت في هذه الأفكار المخيفة التي تدعو إلى الصوت الواحد والعقل الواحد، والموت الواحد. إنها سمة المدن التي فقدت "مدنيتها"، وسوّت مجتمعاتها بالحضيض؛ فالفسيفسائية، وحتى التنوّع الطائفي والسياسي، أياً كانت مستوياته، وحتى "التمزقات" هي شروط قابلة "لتوحيد" ينطلق من تحت، لا بتوحيد يفرض من فوق كما هي حال الأنظمة التوتاليتارية.
وبلاد أبقت ينابيعها الثقافية مفتوحة، وحتى متناقضة، و"متنابذة أفضل من بلدان جففت ينابيعها الأولى، وصحّرت مدنها، وريّفت مدنيتها. وهذا ما فعلته أيها الرفيق أدونيس الأنظمة العسكرية العربية التي وفدت من الأرياف، والدساكر، وقضت على المدينة العربية، فصارت هذه المدينة، حتى بهندستها (لم أكن أعرف أنك خبير بالمعمار أيضاً! ولو أن ما أوردته لملمته من فتات مقدمات بعض الأفكار والكتب الشائعة) تشبه حكامها أكثر مما تشبه ناسها. تحمل "هوية" حكامها القاتلة، أكثر مما تحمل هوية ناسها "المقتولين"، والمقهورين، والفقراء، والمضطهدين. وصارت فعلاً "مجتمعاً" واحداً محكوماً بالذل والخنوع، بل أشباحاً متناسخة، متناسلة على مساحة من الخواء والفراغ واليأس والاحباط، والقبول.
ولهذا ربما لم تصمد عندنا فكرة واحدة. حتى الحداثة نفسها نُحِرَتْ لأن الأنظمة قضت على فكرتها. حتى فكرة القومية العربية، وأفكار التغيير، والماركسية والشيوعية، واليسار، والليبرالية كلها صُفِّيَتْ تحت راية الحزب الواحد، والمجتمع الواحد، والعائلة الواحدة. أهذا ما تدعو إليه خدمة لبلدان الحزب الواحد ذات المجتمعات الواحدة؟ ولهذا أيضاً زالت مساحيق التطوّر والتقدّم ودعاوى الديموقراطية، والشغف والجنون (هل تتذكر أفكار الجنون: أترى يسعى "الجنون" الشعري يا أدونيس إلى إرساء مجتمع واحد، وذائقة واحدة وقصيدة واحدة وقتل واحد)، أمام سلاح الأحادية والاستبدادية.
◄الفردية
وهل نسيت فكرة "الفردية". وماذا يبقى منها في ظواهر المجتمعات الواحدة أو لا ترى أن بيروت، التي تعتبر أنها ليست مجتمعاً واحداً ولا يمكن أن تكون مجتمعاً واحداً، هزمت، بفعل رفضها أن تكون مجتمعاً واحداً مقموعاً بسلطة أحادية، هي التي وحدها من بين المدن العربية، التي هزمت كل مشاريع العسكرة الذاتية والمحلية؟ أوليست بيروت "بفسيفسائيتها" هي التي هزمت فكرة "الدولة" التي تريد أن تطوّع المجتمع وتجعله قطيعاً مسوقاً نحو استفتاءات الـ99.99 في المئة. بل هذه "البيروت" التي فجرها الآخرون وتواطأ معهم بعض العملاء (وفي كل بلد عملاء ومأجورون وناس بلا وفاء)، قد تكون الوحيدة التي تغيّر قياداتها بانتخابات، قل فيها ما شئت، ولكنها انتخابات ما. صحيح أن بيروت هي "أبشع" المدن العربية، (كما قلت مشكوراً يا جميل!)، إلا أنها ما زالت الهامش الوحيد الذي يمكن أن يتكلم واحد مثلك ضمنه. ويكفي أن تقول ما قلت وتعود إلى بيتك (وإلى وطنك الثالث أو الرابع)، (وأنت محترف أوطان)، حتى تبرهن هذه المدينة الخارجة من حروب دامية امتدت فيها أيد كثيرة عليها (بحسب تعبيرك عندما قلت إن هذه المدينة هي ولادتي الثانية)، أنها متسامحة إلى آخر حدود التسامح، حتى مع الذين أساؤوا إليها بالاحتواء، والاستيعاب والقتل والتدمير والتآمر والمصادرة. صحيح أننا لا نتمتع بالحرية المثلى التي تتمتع بها "الشعوب" العربية والمدن العربية "الأجمل" من بيروت "البشعة" والتي بت تمتدحها من المحيط إلى الخليج، إلا انه وسط حصار هذا البلد بأنظمة عسكرية ودينية (وعلى رأسها اسرائيل)، اجترع أعجوبتين: الأولى قبل الحرب بأنه كان الساحة المتسعة للحرية وعلى هذا الأساس كانت ملجأ المضطهدين في بلدانهم، والثانية بعد الحرب، بأنه ما زال، أيضاً الهامش الأكبر لهذه الحرية وإن بسقوف عربية ومحلية واطئة.
ولهذا يا أدونيس، كان المجتمع اللبناني، ودائماً، أقوى من النظام اللبناني (والأنظمة الأخرى)، وعلى عكس ما تقول: "مثل هذا النظام لا ينتج إلا مدينة ميتة، يحكم مدينة وبشراً موتى، وهو نفسه ليس إلا قناعاً للماضي... نعم! نحن ضد هذا النظام. ونناضل من أجل تغييره. لأننا نختلف عنه. ومَنْ قال لك يا أدونيس أن النظام هو الذي ينتج الشعب... الشعب هو الذي ينتج النظام إلا في حالات البنى الاستبدادية الحاكمة التي تجعل الشعب بقوة الحديد والنار والارهاب يشبهها. وأنت تذكر أنه في الخمسين سنة الأخيرة، تقدّم المجتمع المدني بكل ألوانه وتناقضاته وقواه الحيّة، بخطوات كبرى نحو تغيير نظامه. أي نحو انتاج نظام جديد (وأنت على ما أعتقد كنت من بين "الثوار" والتغييريين عندنا). وتذكر الحركة الطالبية التي كانت الظاهرة الكبرى التي أفرزتها حيويات المجتمع المدني لتقوم بعملية النهضة الوطنية، (وتذكر أن هذه الحركة احتضنتك وأرغمت "النظام" بأشكال ضغطها على تعيينك في ملاك الجامعة اللبنانية (أرأيت، إن لهذا الشعب الميّت مآثر). لكن جاءت الحرب، ومن أسبابها منع هذه التحوّلات الكبرى، لأن الأنظمة العربية واسرائيل هالها، أن يقوم في جوارها نظام علماني، ديموقراطي، حُرّ، وهي أي الأنظمة العربية واسرائيل، أنظمة عسكرية وثيوقراطية ووراثية. هل تذكر يا أدونيس؟
◄الطائفية
لكن إذا كنّا ننتقد هذا النظام الطائفي، فلماذا نغفل القول إن الأنظمة العربية كلها تطفو على بركان من الطائفية كالنار تحت الرماد، بين المذاهب والملل والنحل. وحدنا، يا أدونيس، تتهمنا بالطائفية؟ ومن أين خرجت الأصوليات سوى من قمع هذه الأنظمة الطائفية والوراثية والعائلية. وأنت على حق عندما تقول إننا شعب غزته الطائفية. لكن المسألة أنك تعتبر أن الطائفية "معطى"، في الوقت الذي نرى فيه ان الطائفية نتيجة. ونرى أن الطائفية صناعة كصناعة الأحذية والملبوسات. ولهذا عندما تصنّف شعباً كاملاً في خانة الطائفية فانك تقع في العنصرية، بل "فسطاطي" وأصولي كبن لادن والملا عمر ولوبان والظواهر الصهيونية، وعقلية اليمين الأميركي الجديد.
وهل تظن أننا، بعدما كنّا نناضل لإلغاء الطائفية من تحت، أي من ضمن القوى الشعبية الفاعلة، اخترنا الطائفية والعنف. وهل تصدّق قولك "ان واقعنا دمرنا". على العكس "أبطال" الحروب من الأنظمة العربية واسرائيل هي التي دمّرت واقعنا بتواطؤنا عندما كنّا على مشارف التحوّلات في الستينات كنتيجة وتراكم امتد عشرات السنوات انطلاقاً من فكرة النهضة العربية والتفتح والتحرر.
وهل تظن يا أدونيس، أنه يُسمح لنا حالياً، بتجاوز الطائفية؟ ويسمح بأن يتكرر سيناريو السبعينات. ذلك أن قوى عديدة لا تريد لهذا الوطن أن يستعيد بعض ما كان يتميّز به ذات زمن في السابق. أي ممنوع علينا ألا نتكلم إلا بالطائفية. ونتعامل إلا بالطائفية. ونتحاور إلا بالطائفية. على العلمانيين أن يكونوا طائفيين لكي تستقيم أمورهم. وعلى الطائفيين أن يرتدوا لبوس العلمانيين لكي يكتمل الايهام. وما نراه ونلمسه كل يوم، أن هذه الصناعة الطائفية المعممة في العالم العربي، ستبقى مُعمّمة عندنا حتى إشعار آخر، بل ومعقلنة، ومؤدلجة، ومقوننة ومشرعنة. فهي، السبيل الأوسع لدخول مَنْ يريد الدخول، إلى استيعاب هذا البلد عبر تأجيج الصراعات المذهبية والطائفية وتصنيعها. فهي أولاً وأخيراً بضاعة كل مستعمر، ابتداءً بالأتراك وحتى اليوم، ومروراً بالفرنسيين، وتوقفاً عند العدو الصهيوني.
ويحق لك اتهامنا بالطائفية. فنحن أصلاً نتهم أنفسنا. لكن ليس أنفسنا فقط. بل كل طائفيي الأنظمة العربية من كل حدب وصوب وإذا كان يحق لك ذلك، فلا يعني إطلاقاً تبرئة الجميع سوى اللبنانيين: الأنظمة العربية والغربية والأعجمية واسرائيل. فهل تقع على عاتقك تبرئة كل هؤلاء ووضعنا في الأقفاص باعتبار أن الطائفية معطىً يولد معنا ولا يموت بعدنا؟
◄..ونقد طائفي
وإذا كان لا بد من المصارحة، أجد نفسي أقول، انك أول شاعر حداثي يفتتح النقد الطائفي والمذهبي في كثير من كتاباتك لا سيما "الثابت والمتحوّل". إنك رائد الكتابة البحثية الطائفية في الحداثة العربية، حتى وصلت معك إلى نوع من العنصرية الثنائية والفسطاطية. هل تذكر سبب خلافك مع منير العكش. بعد مقالته عن "الثابت والمتحوّل" في مجلة "الحوادث" في السبعينات؟ وأنت الآن من أي موقع تتكلم يا أدونيس: هل من موقع إعجابك بالثورة الايرانية وقد أهديت الخميني قصيدة نشرت في جريدة "السفير"، أم من موقعك كمسيحي أم من موقعك كعلوي، أم من موقعك "كافرنجي"، أم كعلماني، أم كقومي سوري سابق خان الحزب عند أول أزمة تعرّض لها في الستينات بعد فشل الحركة الانقلابية وتنكيل "العسكر" بهذا الحزب الذي أسسه رجل عظيم اسمه أنطون سعادة؟
إذاً، فليتكلم عن الطائفية في لبنان "شخص" آخر غيرك، فأنت آخر مَنْ يحق له الكلام في هذا الموضوع. لا سيما عندما تتعرّض لمسألة "التحرر" إذ تقول "ونقرأ أن التحرر من الخارج المطلوب ولكن بروية وخجل، لتوكيد الحرية في الداخل لكن، لكي يصبح القومي أكثر قوة، والمتسلط أكثر تسلطاً، والغني أكثر غنى. ومثل هذا التحرر من الخارج أمر محال لسبب أساسي: لا يمكن أي شعب أن يتحرر من الخارج إلا إذا كان حراً من الداخل... صحيح! يا أدونيس، لكنك لم تعين شيئين أساسيين: مَنْ هو "المحرر" ومَنْ هو "الخارج". أي مَنْ هو "المهيمن" ومَنْ هو المهيمَن عليه، لتطلق حكماً إطلاقياً يتنافى مع الواقع:
◄المقاومتان
أولاً: هذا الشعب عبر مقاومتيه الوطنية في الثمانينات والاسلامية المؤمنة (حزب الله) حتى اليوم حرّر لبنان من الاحتلال الصهيوني (أعتذر إذا كان هذا الأمر يزعجك يا أدونيس)، وطرد العدو وسيكمل التحرير قطعاً. إذاً وعلى عكس ما تقول فإن هذا "الشعب الميت" الذي ما زال وحده يحارب اسرائيل انتصر على أكبر دولة في الشرق الأوسط.
ثانياً، أما إذا كنت تقصد بـ"الخارج" سوريا، فنحن لا نعتبر الشعب السوري "خارجاً"، ولا ننظر إليه كأجنبي، ولا نوازيه بأي مرجع براني. وإذا كنت تريد أن تلعب على الوتر "الضمني" و"السياسي" لتبيع موقفاً للنظام السوري فهذه المحاولة ساقطة لعدة أسباب منها أن النظامين اللبناني والسوري متفقان على هذا الوجود، ولا يحتاجان إلى من يشير عليهما بما يجب أن يفعلاه. ومنها أن الشعب اللبناني أو معظمه عبر أحزابه وطوائفه ومؤسساته يلحظ خطورة أن تُستفرد سوريا من قبل الصهاينة والأميركيين إذا استفرد لبنان بحلول فردية. هذا نعرفه. والورقة التي تلعبها اليوم بارت وكسدت، وانتهت مدتها. وإن قدمت كلامك على الموضوع وكأنه رسالة أمنية ـ سياسية ـ إلى فئة من اللبنانيين كنت تتزلف لها سابقاً.
وفي المناسبة نتساءل: لماذا لم نقرأ لك إدانة للعدوان الاسرائيلي الأخير على وطنك الأول سوريا، (أتخاف أن تغضب اللوبيات الصهيونية في أوروبا؟)، كذلك لا نتذكر لك موقفاً من مجزرة قانا في التسعينات والاعتداء الصهيوني على وطنك "الثاني" لبنان، في وقت نقرأ فيه إداناتك الشديدة والواضحة "للهولوكست" أو المحرقة اليهودية، ونحن، العرب، لم يكن لنا حيلة فيها. فكأنما الشعب المختار أولى بالتعاطف من الشعبين اللبناني والسوري "غير المختارين" وإذا انتقلنا من "الخارج" و"التحرر" إلى العنصر الطائفي الذي تقول انه فجَّر الحرب "الأهلية" وهو دافعها ومحرّكها، فهل تصدّق أيها النبيه، الذي يدّعي أنه يعرف ظروف المنطقة كلها، وظروف تلك المرحلة، ان الطائفية هي السبب، وليست التناقضات العربية ـ العربية، والعربية ـ الاسرائيلية والصراع في الشرق الأوسط، ومشروع تقسيم المنطقة، هي التي اتخذت الطائفية ذريعة. ولو كان المجتمع اللبناني "منسجماً" طائفياً أو حتى ايديولوجياً، لابتكرت أصولية أو حركات أخرى قناعاً لحروب الأطراف المتصارعة في لبنان وعليه. أتريد أن تبرئ كل هؤلاء الذين ساهموا في صناعة الحروب عندنا: اسرائيل، الأنظمة العربية، كيسنجر؟ نقول هذا ولا نبرئ قيادات وأحزاباً محلية انساقت في هذه المناحي وانضمت إلى صراع المتحاربين.
صبي بدوي ساذج لا يتفوّه بمثل هذه "التحليلات" إلا إذا كانت المسألة تحييد الجميع وإدانة اللبنانيين. وفعلت أنت الاثنين. ومن هذه الادانة العنصرية لبيروت وشعب لبنان يجرد ادونيس بعقله الريفي مدينتنا من كل شيء ويحصر "التماعها" في مرحلة معيّنة يقول: "المشروعات الثقافية بين الخمسينات والسبعينات كانت حاملة لوعود مستقبلية كانت بذوراً للتلاقي والنمو خارج الممالك الطائفية (...) و..."، "صورة قاتمة لبيروت قد يقول بعضهم، كادت بيروت أن تكون مدينة العرب الثقافية في الستينات وأوائل السبعينات (نسي أدونيس الخمسينات)، مدينة خلقها المبدعون والناشرون اللبنانيون والعرب الوافدون إلى بيروت، والمقيمون فيها".
يعني هذا الكلام أن بيروت "ولدت" في الستينات مع مجيء أدونيس تحديداً. وكانت صورتها قبلها على قتامة وتصحّر وجفاف. وكأنه يلغي عقوداً وقروناً من تاريخ هذه المدينة، التي كانت محرّكاً للنهضة العربية، وللحركات الثورية والطليعية، وللتفتحات العالمية. نسي أن في بيروت منتصف القرن التاسع عشر ابتُكر المسرح العربي مع مارون النقاش. ونسي أن فكر النهضة نفسه كان للبنانيين فيه (مع المصريين) الدور الأكبر. وكانت الأحزاب اليسارية واليمينية والنقابات تنمو وتكتسب أدوارها السياسية والايديولوجية خارج "ممالك الطوائف". بالطبع كان يجب أن ينتظروك في بيروت ليبدأوا معركة تحرير الفكر من التقاليد، وأن يجددوا اللغة العربية، وأن يجترحوا الشعر.
◄ضوء بيروت
هل أُذكّرك أن ضوء بيروت شعّ، منذ القرن التاسع عشر على العالم العربي كله. هل أُذكّرك بجبران الذي تسعى أن تكون "شبيهه" في العالم، وشتان بين الثرى والثريا، والذهب والزجاج. هل نسيت أنك تأثرت بسعيد عقل وقلدته بـ"قالت لي الأرض: هل تتذكر هؤلاء الشعراء الكبار: أمين نخلة، صلاح لبكي، الياس أبو شبكة، يوسف غصوب والأخطل الصغير وبشر فارس، الذين أسسوا لحداثة اقتبسها من خارجها؟ هل تتذكر الفنانين التشكيليين الكبار؟ هل ما زلت تتذكر أنطون سعادة وفرح أنطون وشبلي الشميل وميشال شيحا وأحمد فارس الشدياق وعمر فاخوري وشكيب ارسلان وتوفيق يوسف عواد وجرجي زيدان والبساتنة واليازجيين؟ طبعاً، هؤلاء، ما إن أتيت إلى بيروت في الستينات، حتى تأثروا بحضورك اللماح عليهم في القرنين الماضيين.
هذه النظرة الفاشية العنصرية المدمّرة، هي التي أعمتك. وحتى في الستينات ماذا كنت أنت سوى صدى لسعيد عقل في البداية، ومجموعة أصداء لكتّاب سطوت على تجاربهم من دون أن يرف لك جفن. حتى مجلة "شعر" التي تدّعي في الخارج أنك مؤسسها بكل وقاحة، كان الدور الرعائي فيها لمؤسسها يوسف الخال، والشعر لأنسي الحاج والماغوط وشوقي أبي شقرا.
فالمدن لا تُصنع بين ليلة وضحاها، ولا تمحى بين ليلة وضحاها، إلا على أيدي البرابرة. فمن أين هذه النظرة العنصرية البربرية على بيروت؟ وأين كنت تخبئ هذه النزعة التدميرية التي تذكرنا بنزول العسكر إلى المدن وتدمير روحها، ونزول المليشيات بعدهم، وتدمير ما تبقى من روحها، ميليشياوي بامتياز وريفي بامتياز، برغم هذه الأصباغ التي زالت عند أول زخة مطر عليك. فبيروت أيها الصديق الريفي، كانت أقوى من كل المدن العربية، على ضعف حرّاسها وطائفيتها... أنت تعرف أنه حتى هذا النظام الذي نسعى قبلك إلى تغييره كان أقوى الأنظمة، لأنه لم يكن يخاف من تظاهرات طالبية ونقابية، ولا من صحافة ولا من اعلام، ولا من أحزاب يسارية أو يمينية... في الوقت الذي كان يتأسس في العالم العربي أنظمة الحزب الواحد، والنقابة الواحدة، والصحافة الواحدة، والصوت الواحد. ولهذا نحاول أن نجيب على يقينيتك ورؤيويتك وعندما تقول "جردوا بيروت من الغرب فلن يبقى فيها إلا شيئان: الكنيسة والجامع. عال. فلتبق الكنيسة والجامع. ولكن سأقول لك ما يبقى أيضاً: كل ما فقدته أنت: الحيوية، المغامرة، الجنون، المجازفة، الاستقلالية (ولو بعد حين)، الحرية برغم سقوفها الراهنة، حب الحياة، روح الحداثة، الذوق، الأناقة، الجماليات... وهذه الأمور التي كدت تتعلمها في بيروت ثم زَلّت عنك، ستبقى لأنها فعل تراكم مئات السنوات. صحيح أن بيروت تعيش أزمة واقعها وتمر بظروف صعبة، لكنها تعيش أيضاً، أزمة سواها لكن هذه الصعوبات لا بد أن تعبر لأن المدن تنتصر بناسها وليس بأنظمتها. وأنت خلطت بشكل آلي بين النظام الطائفي وامتداداته، وبين روح الناس التي تتهيأ للخروج، تماماً كما خرجت على القبيلة والعامة.