عرفت بيروت عصرها الذهبي زمن الأمير فخر الدين الثاني، فقد جعلها عاصمة ثانية له سنة 1042هـ/1632م. وساهم الخبراء الإيطاليون في تحصين بيروت وتجميلها وتصميم منازلها ومدارسها وحدائقها ومبانيها العامة، كما بنيت الفنادق، ورصفت الأسواق، كل ذلك بهندسة إيطالية، حتى أصبحت بيروت مطمح أنظار السياح والرحالة الذين كتبوا عنها. وأهم ما اشتهرت به بيروت، قصر الأمير فخر الدين وبرجه وحديقته وحمامه، وغابة الصنوبر الكثيفة.

وقد بنى الأمير فخر الدين قصره في منطقة البرج، شمال شرق بيروت، ولا تزال هذه المنطقة تُعرف بساحة البرج، وبني فخر الدين {برج الكشّاف} الشهير لمراقبة السفن الآتية من البحر. ويتألف القصر من غرف كثيرة، وإسطبلات للخيل، مبنية على صفوف عديدة من الأعمدة المربعة، وحديقة الوحوش التي بناها فخر الدين في أواخر أيامه تقليداً لملوك إيطاليا، وهي عبارة عن مرابض للأسود والوحوش الضارية.

وكانت المياه تجري بأنابيب في الجدران. وفي الوسط حديقة البرتقال وهي بستان كبير، كان الأمير فخر الدين يجلس مع بطانته في مكان مرتفع منه شرقاً، حتى أصبح قصره أشبه بقر روماني. وقد شاهد النابلسي حمام الأمير فخر الدين أثناء زيارته لبيروت سنة 1112هـ/1700م. أما غابة الصنوبر في ضاحية بيروت جنوباً، فإن الأمير فخر الدين قد جدَّد زرعها لتقي المدينة من تيار الرمل، ولم يكن أبداً أول من زرع هذه الغابة، كما يظن فولني ومونديل ولامارتين وبوكوك وغيرهم ممن زار بيروت.

وعُرفت بيروت بقلعتها أي {حبس بيروت} أو {حبس القلعة}، حيث يتّم توقيف وسجن حتى الأمراء. وقد رمم جسر نهر بيروت في ذلك الوقت.

واشتهرت تجارة الحرير زمن الأمير فخر الدين الثاني، الذي كان يتعاطى تربية دودة القز في أملاكه الخاصة، بصورة مباشرة أو بواسطة شركاء يتقاضى منهم ثلث المحاصيل. وكان الحرير متنوع الأصناف وقفاً للمناطق المنتجة له، وكان {الحرير البيروتي} أجوده، والحرير الطرابلسي على جودته تقريباً، وحرائر صيدا دونها جودة.

ويُستعمل الحرير البيروتي لحياكة النسائج الأطلسية والمموجة، وكان يباع شللاً وزن الواحدة منه نحو الرطل، كما كان يرسل بحراً إلى مرفأ ليفورنو بتوسكانا.

وحاول الأمير فخر الدين تسهيل التجارة بين الفرنج وموانئ الساحل، ومنها مرفأ بيروت، فبدأ يرخص بتأسيس قنصليات للفرنج. كما جدد مرفأي بيروت وصيدا لتدعيم حركة التجارة الخارجية. وشق طريقاً على الساحل وآخر في البقاع، وربط بينهما بثلاث طرق تنطلق اثنتان من صيدا والثالثة من بيروت.

وفي عهده، سمح للإرساليات الكاثوليكية، لا سيما الكبوشيين، بتأسيس إرسالية في صيدا، ثم بالتوسع في أعمالها التي شملت بيروت وطرابلس وإهدن.

هزيمة الأمير فخر الدين الثاني وبدء انهيار بيروت

بعد هزيمة الأمير فخر الدين الثاني سنة 1042هـ/1633م، أمام قوة الدولة العثمانية، تمّ نقله إلى الأستانة، فقام إبن أخيه الأمير  ملحم (1) بمحاربة والي دمشق، وهزمه ونهب بيروت وصور وعكا. وعندها أمر السلطان بقطع رأس الأمير فخر الدين، وخنق إبنه الأكبر. وأدَّى ذلك إلى تدهور مدينة بيروت التي ضمت إلى صيدا، وأخذت تسير في طريق الانهيار. ففي القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي، أشار المؤرخون إلى بيروت على أنها قرية صغيرة، تتكّون من خمسة آلاف نسمة، ومنازلها فقيرة مبنية من الطين والحجارة الرملية، وشوارعها ضيِّقة، وميناؤها مليء بالرمال.

ويبدو أن بيروت كانت ستشهد أزهى أيامها لو تمّ النصر للأمير فخر الدين، خاصة وأنه جعلها عاصمة له قبل هزيمته بسنة واحدة، كما أنه عني بإدخال روح التجدد في إمارته. ولمحبة قومه له، ادعته أهل المذاهب الثلاثة في إمارته، فالموارنة يقولون إنه كان مارونياً، والدروز درزياً، وأهل السُنَّة سنياً. والحقيقة أنه كان ينظر إلى رعيته نظرة المساواة، ويأخذ لخدمته الكفاة من كل طائفة، فقد أعتمد في قوته العسكرية على الدروز، وكان الكثير من مدبريه ورجاله من المسيحيين.

 (1) الأمير ملحم المعني: هو ملحم بن يونس بن قرقماز المعني، فرَّ بعد مقتل عمه الأمير فخر الدين الثاني سنة 1044هـ/1635م، ثم ظهر وولّي الشوف والغرب والجرد والمتن وكسروان. وأحسن سياسته مع السلطنة، وتُوفي بمدينة صيدا.

عودة إلى الفصل الثاني

عودة إلى الباب الخامس

عودة للصفحة الرئيسية