الدور الاقتصادي للأندلس
الدور الاقتصادي للأندلس
حظيت الأندلس بشهرة اقتصادية كبيرة في ميادين الصناعة والتجارة والزراعة:
فالصناعة ازدهرت في المدن المختلفة، وتكونت معها طوائف حرفية عرفت باسم الأصناف وأرباب الصناع. وصار لكل صنف أو حرفة رئيس أو شيخ منتخب من أصحابها عرف باسم الأمين أو العريف، وكان هذا الأمين مسؤولاً ومدافعاً عن طائفته وأهل حرفته أمام ممثل الحكومة في سوق المدينة وهو المحتسب. فكان يبلغه رأي طائفته حول تكاليف السلعة التي يصنعونها وتحديد ثمن بيعها، . كما يقوم بدور الخبير الفني في الخلافات التي تقع بين أهل حرفته وعملائهم حول سلعة من السلع، ورأيه كان مقبولاً لدى القاضي أو المحتسب. وقد انتقل لفظ الأمين إلى اللغة الأسبانية على شكلAL - ALamin كما استمرت مهمة الأمين موجودة في بعض المدن المغربية وإن كان وجود النقابات العمالية الحديثة قد قللت من قيمة منصبه وأدرجته ضمن أعمالها.
ولقد شبهت الأصناف أو الطوائف الصناعية الإسلامية بنظام نقابات الصناع أو اتحادات العمال التي كانت تسمى في أوروبا Gulids أوCorporations، ولكنها في الواقع كانت تختلف عنها لأنها لم تشارك في إدارة المصالح العامة في المدينة أو تقوم بدور غير دور التحكيم في المشكلات المهنية، في حياة المدينة الاقتصادية، أو تنتزع بعض الامتيازات البلدية تدريجياً ، أو تتخذ لنفسها حامياً أو راعياً دينياً من الأولياء والقديسين كما حدث في العالم المسيحي. ثم أن الأصناف أو النقابات الإسلامية لم تعرف الانقسام الذي ظهر في أوروبا الغربية بين أصحاب العمل والعمال، والذي انتهى إلى نشأة جماعات أصحاب العمل، وجماعات العمال.
وكيفما كان الأمر فإن موضوع التشابه والاختلاف بين الأصناف الإسلامية والنقابات الأوروبية، ما زال موضع نقاش بين ا لمؤرخين.
على أن موضع الأهمية هنا، هو أن هؤلاء الحرفيين والصناع بحكم كونهم من طبقة العامة في المدينة الإسلامية، قد لعبوا دوراً هاماً في حياتها العامة، إذ شاركوا في ثوراتها الشعبية، وفرقها الدينية، واحتفالاتها ومواكبها العامة في المواسم والأعياد، وذلك في وقت لم يكن يوجد فيه على نطاق شعبي ذلك الترويح أو التنفيس الرياضي أو الاجتماعي الموجود حالياً.
ولقد كفلت المدينة الإسلامية لعمالها حرية واسعة في ممارسة أعمالهم، ولم تتدخل إلا في بعض الصناعات المحدودة التي كان يتطلب ممارستها الحصول على إذن خاص، مثل إنشاء الحمامات، وصنع الأسلحة، وسك النقود، وتركيب الأدوية، والعمل في دور الطراز. وهذا راجع بطبيعة الحال إلى أسباب تتعلق بالمصلحة العامة أو أمن الدولة. أما موارد الدولة الاقتصادية فكانت تقوم على ضرائب مشروعة وغير مشروعة تمول بها بيت المال. ومن أمثلة الضرائب المشروعة : الأموال الخارجية التي تجبى من الأراضي الزراعية، وأموال الزكاة والجزية والمواريث الحشرية (أي مال من يموت بدون وريث)، والعشور أو الأعشار وهي المال الذي يجبى من تجار الفرنج الذين يفدون ببضاثعهم إلى الموانىء الأندلسية فيدفعون عشر قيمتها. وقد انتقلت هذه التسمية إلى اللغة الأسبانية على شكل Alixases. ثم ضريبة التعتيب وهي ضريبة جديدة فرضت في الأندلس في عهد المرابطين وكان الغرض منها ترميم الحصون والأسوار التي حول المدن الرئيسية ويقوم بسدادها أهل هذه المدن المنتفعة بها.
وأما الضرائب غير المشروعة والتي كانت تسمى بالمكوس أو المغارم ، فهي ضرائب إضافية نشأت عن حاجات وظروف معينة، اضطرت الدولة إلى فرضها. وكان بعضها يعطى التزاماً ، ويسمى الملتزم في الأندلس بالمستقبل بينما يسمى الالتزام قبالة، ومنه دخل في الأسبانية لفظ Alcabala.
ومن حصيلة هذا الدخل المالي في بيت المال كانت الدولة تقوم بأوجه النفقات المختلفة على الجيوش والشرطة والقصر الخلافي والموظفين والدواوين والمنشآت العامة كالمساجد والمستشفيات والسجون، والعناية بمياه الشرب وإزالة الأوساخ من المسالك والأنابيب . … الخ.
غير أن هذه الخدمات الحكومية لم تكن لها صفة الدوام في كثير من الأحيان، مما اضطر بعض المدن الكبيرة إلى الاعتماد على نفسها في سد حاجاتها. ومن هنا ظهر لها مورد مالي آخر لعب دوراً هاماً في اقتصادها، وهو نظام الحبوس الذي يسمى في المشرق بالوقف. وهو نظام إسلامي المراد به هو الأراضي والمؤسسات التي تكون ملكا لشخص حر التصرف في ماله، ثم يتنازل عن حقه في عائدها أو دخلها، ويجعله وقفاً محبساً وبصفة دائمة على المؤسسات الدينية والعلمية والصحية..، إلى غير ذلك من المنافع العامة التي تشبه حالياً خدمات البلديات.
ولقد ارتقت الصناعة في الأندلس بتوالي الأجيال واتصال العمران ووفرة المواد الخام النباتية والمعدنية التي اشتهرت بها أسبانيا. على أنها ظلت مع ذلك في مستوى الصانع اليدوي، كما هو سائد في تلك العصور، وبقيت السلع تصنع في البيوت أو المحال وا لحوانيت.
ولا يتسع المجال لحصر الصناعات التي أنتجتها الأندلس، فهي كثيرة ومتنوعة، ولذا نكتفي بذكر أهمها وهي:
(1) صناعة المنسوجات: كالحرير بأنواعه المختلفة مثل الخز ويصنع من الحرير والصوف أو الوبر، ومثل الإبريسم وهو حرير خالص، والديباج وهو نسيج حريري موشى بخيوط من الذهب أو الفضة. وكان هذا بفضل عناية أهلها بتربية دودة القز ووفرة أشجار التوت التي تتغذى القز على أوراقها. ويشير المؤرخ الأندلسي ، عريب بن سعد (ت 370 هـ) " إلى دور النساء في انتقاء الشرانق ورعاية بيض دودة القز من (شهر فبراير) إلى أن يفقس في (شهر مارس) من كل سنة.
ومن أهم مراكز تربية دودة القز: "غرناطة" و "مالقة" Jaenالتي كان يقال لها جيان الحرير لكثرة اعتنائها بدودة الحرير. وكانت مدينة" المرية"، في شرق الأندلس، من أهم مراكز صناعة المنسوجات الحريرية، ويقدر عدد الأنوال فيها بحوالي 5800 نول. كذلك اشتهرت "أشبيلية" بالحلل الموشاة النفيسة ذات الصور العجيبة والمنتجة برسم الخلفاء فمن دونهم. وبالمثل يقال بالنسبة للثياب الحريرية السرقسطية في شمال أسبانيا. وقد حظيت المنسوجات الأندلسية بشهرة كبيرة في الأوساط الأوروبية الراقية، ونجد ذلك واضحاً في سير الملوك والبابوات والقادة وغيرهم الذين حرصوا على اقتناء هذه الملابس الثمينة. وما زالت هناك قطع عديدة من المنسوجات الأندلسية تحتفظ بها المتاحف الدولية.
كذلك اشتهرت الأندلس بصناعة الأنسجة الصوفية، خصوصاً وان قسوة المناخ في أسبانيا تحتم اهتمامها بمثل هذه الملابس، ولهذا استخدموا فراء السمور ، وفراء القنلية Conejo (الأرنب الجبلي)، والمرعزي المصنوع من شاعر الماعز، إلى جانب الملابس الصوفية. وقد اشتهرت كل من "سرقسطة"، وقونقة Cuenca "وجنجالة"Chinchilla" بعمل ذلك.
أما صناعة السجاد والبسط والحصير، فأهم مراكزها تقع في شرق الأندلس مثل !موسية" و"بسطة Baza ". ولعل كلمة الفومبراALFOMBRA الأسبانية التي تعني سجادة أو بساط جاءت من الكلمة العربية الخمرة أي الحصيرة، أو لعلها من الحمرة، لأن اللون الأحمر كان يلعب دوراً رئيسياً في ألوانها على غرار البسط الفارسية والمصرية في المشرق.
(2) صناعة السكر: لعبت الأندلس دوراً كبيراً في زراعة قصب السكر وعصره وتصنيعه ثم تصديره إلى العالم الخارجي، ومن أهم مراكز إنتاجه وتصنيعه "غرناطة" و "مالقة" و "المنكب " ALMUNECAR" واستمر إنتاج السكر في الأندلس حتى سقوط الحكم الإسلامي بها سنة 493 ا م ، لدرجة أن الأسبان سمحوا لعدد كبير من المورسكيين (المسلمين المعاهدين) المشتغلين بزراعة السكر، بالبقاء في أسبانيا، ولكنهم رفضوا، وقد ترتب على رحيلهم تضاؤل كمية إنتاجه.
(3) ساهمت الأندلس بدور فعال في صناعة الورق الجيد (الكاغد) منذ وقت مبكر سبقت به أوروبا قروناً عديدة، واشتهرت بصناعته كل من "شـاطبةJATIBA " و "بلنسيةVALECIA " في شرق الأندلس. كذلك انتشرت الصناعات الجلدية ودبغها على ضفاف الأنهار، واختصت "قرطبة" بشهرة عالمية في هذه الصناعة، حتى نسبت إليها مصطلحات فرنسية بهذا المـعنى، فأطلقوا على صانعي الأحذية كلمة "Cordonniero " وعلى الجلد نفسه كلمةCordouan ". أما المصنوعات الزجاجية والخزفية فاشتهرت بها "مالقة" و "المرية" كما اشتهرت !قيجاطة QUESADA " بمصنوعاتها الخشبية. هذا إلى جانب المصنوعات العاجية التي تميزت بدقتها وجمال زخارفها على شكل أشخاص أو حيوانات كانت تطعم بها العلب الصغيرة والأدوات المنزلية. ويقال أن كلمة مارفيل " MARFIL" الأسبانية أي العاج مشتقة من الأصل العربي "ناب فيل ".
التجارة: وما يقال عن شهرة الأندلس في الصناعة يقال أيضاً عن مجال التجارة، ولا سيما أن الأندلس تميزت بسواحلها الطويلة وموانيها العامرة، التي تطل على مياه البحر المتوسط والمحيط الأطلسي شرقاً وغرباً وجنوباً. ولهذا أطلقوا عليها اسم جزيرة الأندلس، لأن العرب لم يستخدموا مصطلح شبه الجزيرة في كتاباتهم.
وتعتبر منطقة شرق الأندلس LEVANTE المطلة على البحر المتوسط، أكثر الأقاليم الأسبانية تعرباً، لأن الإسلام أثر فيها تأثيراً عميقاً ، بدليل أن معظم أسماء الأماكن فيها عربية الأصل، ويرجع ذلك إلى نشاط اليمنيين القضاعيين، الذين أسند إليهم الأمويون حراسة هذه المنطقة وعمارتها، بما لديهم من خبرة ملاحية قديمة في المشرق، ولذا سميت بأرض اليمن أي عطيتهم واقطاعهم. وتعتبر مدينة "المرية" هي القاعدة التجارية الرئيسية لهـذا الإقليم، وامتلك تجارها ثروات ضخمة حتى يروى على سبيل المثال أن تاجراً استضاف الحاجب، المنصور بن أبي عامر" وجيشه الذي يقدر بالآلاف مدة أربعة عشر يوماً.
ولقد أفاض الجغرافيون والرحالة في ذكر أهم المنتجات الأندلسية التي كانت تصدر إلى الخارج مثل الملابس المطرزة، والأصواف والأصباغ والحرير واللبود الفاخرة، والورق السميك، والتين الفاخر الجاف، والخزف المذهب، والزعفران، وعصير الكروم، الحلال منه والحرام.
أما الزراعة فتتمثل في المزارع والحدائق والبساتين التي اشتهرت بها الأندلس، والتي كانت تربطها شبكة من القنوات المائية التي ما زالت محتفظة بأسمائها العربية في اللغة الأسبانية، مثل الساقيةACEQUIA بمعنى الجدول الصغير، والناعورةNORIA، والبقاع VEGA ومنها انتقلت إلى أمريكا 5LAS VEGAS كما أطلقوا على القصور الملكية الخلوية ذات الحدائق والرياض اسم المنيات جمع منيةHUERTA، وقد انتشرت هذه المنيات حول "قرطبة" وعلى ضفاف الوادي الكبير، وأشهرها منية الرصافة التي بناها "عبد الرحمن الداخل " وشمال قرطبة" ومنية الزهراء والتي بناها الخليفة" عبد الرحمن الناصر في شمال غرب "قرطبة"، ومنية الزاهرة التي بناها الحاجب "المنصور بن أبي عامر" في شمال شرق وقرطبة". وفي مدينة "بلنسية" بنى الأمير "عبد الله بن عبد الرحمن الداخل)، منية من هذا النوع، أطلق عليها اسم الرصافة ، محاكياً بذلك قصر والده. وقد اشتهرت ضواحي "بلنسية" بأزهارها وورودها، وأشجار البرتقال التي تعطر جوها بأريجها ذكي الرائحة، ولذا عرفت، بلنسية" باسم "مطيب الأندلس " أي معطرها.
ومن الطريف أن مدينة " بلنسية" ما زالت تحتفظ إلى اليوم ببعض مظاهر ما تبقى من نظم المسلمين المتعلقة بسقاية هذه البساتين، ألا وهي محكمة المياه TRIBUNAL DELASAGUAS، التي تعقد عند باب الكاتدرائية في الساعة العاشرة ظهراً من كل يوم خميس. وتتألف هيئة المحكمة من خبراء بشئون الري يمثلون نواحي كورة "بلنسية" ويرأسها مندوب من الحكومة. فإذا دقت الساعة الثانية عشرة، قام الحاجب ليعلن افتتاح الجلسة وينادي أصحاب الظلامات. وبعد المناقشة والمداولة يصدر الرئيس الحكم وهو حكم ملزم لا يقبل المناقشة أو الاستئناف . وهذا ما كان يحدث قديماً أيام المسلمين عند باب المسجد الجامع في لنفس موضع الكاتدرائية. ولا يفوتنا أن نشير إلى جنة العريفEL GENERALIFE وهو اسم الحديقة الجميلة التابعة لقصر الحمراء في لغرناطة "LA ALHAMBRA"، ذلك القصر الذي صار نموذجاً يحتذى به في بناء القصور الملكية وغيرها في أنحاء العالم.
وقد حافظ الأسبان على القصر وحدائقه الغناء التي لا نسمع فيها إلا خرير المياه في كل مكان. وقد عبر عن ذلك الشاعر الأسباني جاريثا لوركا بقوله، غرناطة التي تبكيGRANADAQUE ELORAE كناية عن كثرة مياهها.
كذلك اشتهرت الأندلس بزراعة أنواع مختلفة من الخضراوات والفواكه لدرجة أن كثيراً من أسمائها دخلت في اللغة الأسبانية مثل: الباذ نجان BERENJENAS الخرشوف ،ALCARCHOFA 1لسلق ACELGA 1 لزيتون ACEITUNA الزعفرانAZAFRAN، 1لأرز ARROZ السكر AZUCAR النارنج (البرتقال) NARANJA البطيخ السندي SANDIA.. الخ.
بقي أن ننوه بالجهود المثمرة التي بذلها علماء الأندلس في تقدم العلوم الزراعية، فقد صنفوا فيها كتباً علمية وأجروا عليها تجارب تطبيقية أفادت العالم: فمنهم من اعتبر أسماء النباتات والأشجار جزءا من اللغة العربية فدونوها في معاجمهم، كما فعل العالم الأندلسي الضرير "أبو الحسن بن سيده " (ت 458 هـ) في كتابه المخصص. ومنهم من اهتم بالنباتات الطبية التي يستخرج منها الأدوية والعقاقير لفوائدها الصحية، مثل "ضياء الدين بن البيطار المالقي " (ت 646 هـ) صاحب كتاب (الجامع لمفردات الأغذية والأدوية"، ومنهم من كتب عن النبات من حيث زرعه ونموه وتسميده وحصاده أي ما يسمى بالفلاحة، ومن أشهرهم العالم الاشبيلي "أبو زكريا يحيى بن العوام " في كتابه (الفلاحة في الأرضين ".
مما تقدم نرى أن الأندلس قد تميزت بنزعتها الجمالية نحو حب الورود والأزهار والأشجار، نلمسها في أحواش. بيوتها PATIOS المزينة بالنافورات والأزهار، وفي صحون مساجدها المليئة بأشجار اللبمون والبرتقال، وفي قصائد شعرائها في وصف جمال الطبيعة، وفي مؤلفات علمائها عن الفلاحة والأعشاب الطبية، بل وحتى في أصول أحكامها التشريعية والفقهية التي تتمشى مع ميولها الطبيعية ونزعتها الجمالية