معجزة الفن الإسلامي
في قصر الحمراء خفق حيوي متواصل ..لا تعرف كيف تواءمت ظروفه وانشغلت بطريقة لا تكف عن جذب زائره ، فكيف بالمقيمين فيه والمرتادين له في ذلك الزمان ؟
ولعل ترانيم القواقع المائية المتوزعة في كل ركن من أركان القصر، وبطريقة أيضا لم يكشف المهندسون الحديثون سرها حتى الآن ، هي التي تزيد المشهد جمالا على جمال . ففي كل غرفة من غرف القصر تجد قوقعة مائية يستند معظمها على أفاريز رخامية مزخرفة.
وتعتبر قاعة الأختين وقاعة بني سراج من أكبر وأشهر قاعات قصر الحمراء، الذي تتزين جدرانه وأبوابه وغرفه وسقوفه التي بعضها مصنوع من خشب الأرز المحمول من لبنان ، بارقى وأدق وأتقن ما توصلت إليه عبقريات الفن الإسلامي في ذلك الزمان ، وبخاصة من ناحية فنون الخط والرقش (الزخرفة ) والحفر والتوريق والتعشيق الخ ..
وقصر الحمراء، يعتبر مرآة للفن الإسلامي في أبهي مظاهره وتجلياته ، بخاصة في مضمار الزخرف والخط والتوريق ونظام العلاقات في ما بينها.. فالفنان المسلم يستبسل في بحثه .. يتأنى ويوازن ، يدقق ويعاين بغية القبض على أحواله في النتيجة الفنية البهيجة .. وهو هنا يتبع نظاما رياضيا دقيقا، يوائم بين الألوان والفراغات وذبذبتها على الأحجار المنحوتة .. وكذلك أيضا حين يضيف المزيج الملون (الخزف المغربي) .. فمثل هذا التنويع الهارموني الهائل والدقيق يقوم على ركنين أساسيين في لغة الفن التشكيلي هما: «الخيط و«الرمي». والخيط نهج يتبع التخطيط القائم على القواعد الهندسية من خطوط مستقيمة وزوايا حادة ، والرمي منهج يتبع التخطيط القائم على الخطوط المقوسة أو المنحنية.
وإذا ما تأملنا بعمق جوانب في قصر الحمراء (جدران فناء الرياحين ) رأينا كيف تزاوج «الخيط» و«الرمي» على نحو بارع ، مشكلا طريقة الابداع الفني المضبوط والمستدق لعمل الزخرفة والخط والحفر.
وكما هو معروف ، فإن الفن الإسلامي عموما يتميز بإلغاء البعد الثالث في المنظور، وأنه فن يكتفي ببعدي الطول والعرض ، وتلك سمات تشتمل عليها تقريبا كل الآثار الإسلامية المعروفة في مختلف قارات الأرض .
والأجمل بعد في هذا الفن إن لا صلة له بصانعه بالمعنى الذاتي أو العاطفي المزاجي. ومن هنا غياب أسماء فنية مهمة جدا في تاريخ هذا الفن ، بحيث إننا لا نعرف مثلا من استقدم سادة الأندلس من فنانين ومعماريين وحتى مهندسين لامعين قاموا بإبداع هذا الصرح المعجز العظيم، ذلك أن الفنان نفسه ، إنما كان يفعل ذلك مندمجا في بعدية فلسفية تستلهم الرؤية الدينية والتوحد الجمالي معها.. ونقصد بالمتوحد الجمالي هنا أن هذا الفن لم يكن يبشر بالدين بمعني الشرح والتفسير، وإنما يؤكد على الهوية وتميزها.. دينيا وحضاريا ومن هنا نرى أن الفنان المسلم يلفي نفسه في فشروعه ويتساوى معه في الخفاء ليظهره على حساب شخصه الإبداعي.
ولا غالب إلا الله
إن الفنان المسلم في هذا العمل يتكامل والفاتح المسلم الموصوف بأنه "أرحم الفاتحين " ، إذ لم يكن فذا الأخير يندفع في مشروعه باسمه هو وإنما باسم الله والإسلام جلالا وإكبارا؟ ومن هنا سبب قراءتنا الدائمة على كل جدران قصر الحمراء العبارة المزخرفة الآتية : "ولا غالب إلا الله" وكذلك عبارة . "الحمدالله على نعمة الإسلام ".. تتكوران في مستوى هارموني متدافع الوضوح .. لكأن الفاتح يريد أن يؤكد أيضا أنه ينفذ أوامر الله ، يحقق واجبا يلح عليه .. والفنان نفسه هو في هذا الهاجس أيضا ولكن بأسلوب مختلف وطريقة جمالية مختلفة .. كلاهما من موقفه إذن كان مشغولا بالحق وتثبيته ، شرعا وفلسفة فنا وجمالا.
الفن الإسلامي إذاً هو فن شهادة وبرهان كامن عليها.. هو فن لا يخطب ، وإنما يدعو إلى التأمل وتحقيق ذاك النداء الموجه إلى الخلود الإلهي..
ومن يتجول بعد في " قصر الحمراء" يلحظ على مستوى آخر عناية السلطات الرسمية الاسبانية بهذا الصرح ، والاهتمام به كمصدر من مصادر السياحة ، وعدالة على دالات الحضارة العربية التي يعتز بها الأسبان ، ولاسيما أهل الأندلس منهم هؤلاء الذين يعتبر بعضهم انه أكره على تغيير هويته الإسلامية فغيرها بالشكل فقط .
أما من ناحية المضمون ، فهذه الشخصية الواهنة لا تزال تعيش انفصاما خصوصيا واضحا. لايعكس نفسه على نحو أخاذ ومدهش إلا في الأدب والفلكلور.