ما أن دخل الأمير فيصل (1) دمشق حتى أرسل شكري باشا الأيوبي (2) إلى بيروت، وأستلم حكم جبل لبنان باسمه على أن تكون مدينة بيروت هي مقر حكمه، ودخل الأيوبي بيروت كما توجه إلى بعبدا حيث رفع العلم العربي ، لكن حكم الأيوبي لم يدم إلا أياماً قليلة أسوة بالحكومة العربية في بيروت، ذلك أن فرنسا كانت قد اتفقت مع إنكلترة بموجب معاهدة سايكس ـ بيكو على أن تكون ولايتا دمشق وحلب وولاية بيروت {ألوية بيروت وطرابلس واللاذقية} ومتصرفية جبل لبنان، من نصيب فرنسا بعد انتهاء الحرب، كما أن المسيحيين في جبل لبنان امتعضوا من سيطرة الحكم العربي على بيروت وبعبدا.
أسرع الفرنسيون إلى تنحية شكري الأيوبي عن الحكم، ففي صباح 18 تشرين الأول سنة 1918م، منعوه من مغادرة الفندق الذي يقيم فيه ومن الذهاب إلى عمله في السراي الكبير، وأرسلوا فرقة عسكرية بقيادة الكولونيل دي بياياب أنزلت العلم العربي عن السراي، ثم أصدروا الأمر إلى شكري الأيوبي بمغادرة بيروت، على أن يبقى جميل بك الألشي {الذي كان يرافق الأيوبي} في بيروت، بوصفه معتمداً عربياً لدى الفرنسيين.
وهكذا أنسحب الجيش العربي وشكري الأيوبي إلى دمشق عاصمة المنطقة الشرقية، وأصبحت بيروت عاصمة المنطقة الغربية {الساحلية} بما فيها جبل لبنان وبلاد العلويين وكيليكيا، ويحكمها حاكم إداري هو الكولونيل الفرنسي نياجر بإشراف المفوض السامي. وكان جورج بيكو، قنصل فرنسا السابق في بيروت، أول مفوض سام يعاونه المسيو روبرت كولندر والكابتن دام.
وفي هذه الأثناء رست في بيروت بارجة حربية فرنسية على ظهرها المحامي الماروني إميل إدّه (3)، أحد كبار دعاة القومية اللبنانية والاستقلال اللبناني، وكانت السلطات العثمانية قد حكمت عليه بالإعدام، فقضى سنوات الحرب في باريس حيث وطد علاقاته بالمسؤولين الفرنسيين، ورأى هؤلاء في إميل إدّه الزعيم اللبناني الأمثل، فقرروا دعمه وأوفدوه إلى بيروت مستشاراً لبنانياً للمفوض السامي الفرنسي جورج بيكو. وأصبح الحكم بيد الفرنسيين، رغم وجود الجيوش الفرنسية والإنكليزية في بيروت، التي بقيت تحتلها كما تحتل متصرفية جبل لبنان وسائر الساحل السوري من ولاية بيروت، وذلك بانتظار ما سيقرره مؤتمر الصلح في باريس. وتحولت فرحة المسلمين بالحكم العربي إلى فرحة المسيحيين بالحكم الفرنسي، ويذكر بشارة خليل الخوري ذلك بعد عودته من مصر فيقول: {وصلت بنا الباخرة إلى بيروت في 21 نيسان ثاني عيد الفصح، وعندما مررت بساحة البرج في طريقي إلى فرن الشباك، كان المطران أغناطيوس مبارك قد إنتهي من إقامة القدّاس القنصلي التقليدي بحضور ممثلي السلطة الفرنسية في كاتدرائية مار جرجس، والشباب مجتمعون أمامها يطلقون الرصاص من مسدساتهم ويهزجون: فرنسا أم الدنيا عموم اعتزوا يا لبنانية}.
كما يذكر صائب سلام أن أستاذه الخصوصي الخوري يوسف زهَّار كان يقبل صورة الشريف حسين ويعلن شكره على نعمة التحرر في ظل ملك عربي، ولكن {وبعد زوال الحكم العربي ومجيء البوارج الفرنسية إلى المرفأ، كان الخوري زهَّار نفسه، في طليعة من نزل إلى المرفأ لاستقبال الفرنسيين منادياً بأعلى صوت: تحيا فرنسا Vive La France.
بيروت عاصمة دولة لبنان الكبير الأول من أيلول سنة 1920 :
عيَّن الجنرال غورو مفوضاً سامياً، فوصل بيروت أوائل تشرين الثاني سنة 1919، بعد أن نزل من مدرعة فرنسية في مرفأ بيروت، ومر في شوارع المدينة يمتطي جواداً أبيضاً والجنود على جانبي الطريق. وكانت الطائرات تحلق في السماء حين وصل موكبه إلى ساحة البرج، وعرض القوى البرية والبحرية، ثم ركب سيارة مكشوفة يواكبه الفرسان. وفي المساء أقيمت، في قصر الصنوبر، حفلة استقبال أطلقت أثناءها المدافع والأسهم النارية، وألقى المركيز جان دي فريج، وهو أحد الوجوه البيروتية، خطاباً عدد فيه مناقب الجنرال غورو.
وكان توقيع معاهدة سان ريمو في 25 نيسان 1920، قد عهد إلى فرنسا بالانتداب على سوريا ساحلها وداخلها.
وفي الأول من شهر أيلول سنة 1920م، تدفق الألوف إلى قصر الصنوبر في بيروت، حيث وقف الجنرال غورو يحيط به وجوه البلاد ورؤساء الطوائف وبإرغام مفتي بيروت بالحضور أو الإقالة والنفي، وأعلن قيام دولة لبنان الكبير. وتشمل الدولة الجديدة جبل لبنان وبيروت وصيدا وصور وطرابلس وقسماً من قضاءي عكا وحصن الأكراد والأقضية الأربعة بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا، فأصبحت كلها دولة واحدة، تمتد من النهر الكبير الجنوبي في الشمال إلى رأس الناقورة في الجنوب، ومن ساحل البحر المتوسط في الغرب إلى سلسلة جبال لبنان الشرقية في الشرق. وهذه الدولة عاصمتها مدينة بيروت، التي استمرت عاصمة للجمهورية اللبنانية.
(1) فيصل الأول {1300-1352هـ/1883-1933م} : فيصل بن الحسين بن علي الحسني الهاشمي، أبو غازي، ملك العراق، ولد بالطائف وأختير نائباً عن {جدة} في مجلس النواب العثماني سنة 1913م، وتنقل بين الحجاز والآستانة وزار دمشق وعندما ثار والده على الأتراك تولى قيادة الجيش الشمالي ثم سُمِّي {قائداً عاماً للجيش العربي} في فلسطين ودخل سوريا سنة 1337هـ/1918م، بعد جلاء الترك عنها وناب عن والده في مؤتمر الصلح في باريس وفشل في إقامة ملك له في سوريا حيث سيطرت فرنسا وبمساعدة إنكلترة أصبح ملكاً على العراق سنة 1921م وتُوفي بالسكتة القلبية في سويسرا.
(2) شكري الأيوبي{1267-1340هـ/1851-1922م}: ولد وتُوفي بدمشق تخرَّج من الكلية الحربية في اسطنبول وأتهم في الحب الأولى بالخروج على سياسة تركيا فسجن في {خان البطيخ} بدمشق. وبعد الحرب عيَّنه الأمير فيصل بن الحسين نائباً عنه في بيروت ولم يرض عنه الفرنسيون فعاد إلى دمشق وعُيّن حاكماً عسكرياً في حلب إلى أن تُوفي.
(3) إميل إدّه {1301-1368هـ/1884-1949م} : محام لبناني ماروني أقام مدة الحرب العالمية الأولى في مصر وخدم الفرنسيين فلما استولوا على لبنان بعد الحرب ولُّوه الوزارة اللبنانية ثم رئاسة الجمهورية اللبنانية {1936-1939م} وعيَّنوه {رئيساً للدولة} أيام اعتقالهم الزعماء اللبنانيين سنة 1943 في راشيا وأبعد عن الأعمال الحكومية بعد جلاء الفرنسيين عن لبنان ومات في صوفر ودفن في بيروت.