ويضيف محمد جميل بيهم ، سبباً آخر أفتعل ليزيد من تفاقم الأحوال، وهو {{فقدان النقود الصغيرة من الأسواق وما رافقه من تدابير كانت مصيبة من مصائب الحرب الكبرى... وكان من جراء ذلك أن بارت البضائع، ومنيت النفوس بالكبت، وصعدت أرواح الجياع إلى الملأ الأعلى تشكو إلى بارئها قساوة الإنسان... يحتاج المرء إلى النقد الصغير فيبدل الليرة بتسعين قرشاً، وفي اليوم التالي يقل هذا النقد تبعاً لكثرة الطلب عليه، فتسقط الليرة إلى ثمانين قرشاً وكلما تدنى ثمن الليرة فقدت الثقة بها ... والواقع أن الذي خلق هذه الأزمة ليست هي ندرة النقد في الأسواق فحسب، بل التدابير التي رافقت هذه الندارة، ذلك أن إدارات البرق والبريد والجباية وغيرها، وكذلك الشركات الرسمية مثل شركتي سكة الحديد والترامواي، تدعى كلها بأنها مأمورة بأن لا تتقاضى من المكلف إلا عين المطلوب لها فترفض ما يدفع لها زيادة ولو كان متليكاً (المتليك يساوي خمسة قروش)، كيلا تكون مدعوة لرد هذه الزيادة...}}.
ووصف أحد الثقات، الذين فروا من سوريا، الحال الاقتصادية في بيروت، فقال :
{{إذا وصل المسافر إلى بيروت، وفاز بالدخول إليها بسلام، فأول ما يستوقف بصره فيها، التغيير العظيم الذي طرأ عليها بعد إعلان الحرب، فحركة الأخذ والعطاء فيها ساكتة، ووجوه الناس قاتمة شاحبة، وأبدانهم هزيلة وبطونهم خاوية، والأسواق التي تباع فيها الحاجيات من مأكل وملبس، لا تحوي إلا بضائع يسيرة، فالقمح وسائر الحبوب قلت جداً لانقطاع وسائل النقل، بعدما صادرت الحكومة الخيل والبغال وغيرها من الدواب، لقضاء حاجيات الجيش، فارتفعت الأسعار، حتى صار الناس يطلبون الخبز فلا يجدونه إلا بقدر، وهذا الخبز أسود قذر، تعاف النفوس رؤيته ومع ذلك فثمن الرطل الشامي 17 غرشاً. وإذا سعى موسر، فاز بشراء كيس من الدقيق، فلا يجترئ أن ينقله إلى منزله، خوفاً من أن يهجم الناس عليه، ويتخاطفوه كما جرى مراراً.
فكيف جُلْت ببيروت، وأين أدرت نظرك، رأيت رجالاً وأطفالاً ونساءً عراة حفاة، يشكون من ألم الجوع جهاراً، ويقفون أمام كل من يدخل مطعماً، من المطاعم القليلة الباقية مفتوحة ليأكل فيه ... وضرب الفقر والجوع أطنابه فيها، حتى صار فقراؤها، يتزاحمون علة قشور الليمون والبرتقال ومصاصة قصب السكر، لكي يقتاتوا بها بعدما بارت فيها التجارة، ووقف دولاب الصناعة، وقلت الأيدي العاملة في الزراعة... وقد نفذ الفحم في سوريا، وقطعت الحكومة أشجار الغابات في متصرفية جبل لبنان وولايتي بيروت ودمشق فصارت البلاد جرداء... وقد خلت البلاد من الأطباء بعدما أرسلتهم الحكومة مع جنودها إلى ساحات الحرب... اللهم إلا إذا أستثنينا الأطباء القليلين، في الكلية الأميركية، وبعض الأطباء الباقين في المدن المختلفة لتقدمهم في السن، وعجزهم عن تحمل مشقات الحرب ومرافقة الجيوش}}.
وقال طبيب أميركي عاد من بيروت صيف سنة 1916 :
{{كنت أرى في طوافي في شوارع بيروت وبعض القرى اللبنانية، الأولاد والنساء والرجال يلتقطون قشر البطيخ والليمون من الأوحال، ويأكلونه وشاهدت بأم عيني التراب وقشر الليمون في معد كثيرين ممن أجريت لهم العمليات الجراحية، في أحد المستشفيات في بيروت...حتى أن تلاميذ الكلية الأميركية كانوا يفضلون البقاء في المدرسة، على الذهاب إلى بيوتهم لعدم وجود الأكل الكافي فيها. ثم تفشت الأمراض وقلما شفي أحد منها لنفاذ الأدوية والعقاقير الطبية، ولقلة الأطباء والجراحين}}.
وخلت الصيدليات من الأدوية التي صودرت لعلاج الجنود، كما تعذر على أهل بيروت الحصول على البترول للاستنارة والطبخ إلا بسعر باهظ بلغ خمس ليرات للصندوق. ثم دخل اللاجئون الأرمن والأشوريين، فقد كان في معسكر اللاجئين التابع لمدينة بيروت خمسة عشر ألف لاجئ، وفي ضواحي بيروت عدد مماثل أيضاً، مما زاد الأمر سوءاً.
ومن طريف أخبار المجاعة، أنه في 20 شباط سنة 1916م، أقيمت في بيروت أقواس النصر وزينت المكاتب والدوائر والشوارع بالأعلام، استعدادا لاستقبال أنور باشا وزير الحربية آتياً من زيارته دمشق والمدينة المنورة، وكان يرافقه، حين وصوله إلى الحازمية فبيروت، جمال باشا وعدد من القادة الألمان. وألقيت في بيروت والحازمية عدة خطب ترحيبية لم تذكر فيها أخبار المجاعة، ولم يظهر في ذلك الوقت أحد من أولئك الجياع الذين كانوا يملأون طرق بيروت عادة، فقد حجزتهم الحكومة مؤقتاً، كي لا ينزعج من مرآهم أنور باشا أو مرافقوه الألمان.
وقد نزل أنور باشا في فندق غاسمن ببيروت، وعند دخوله الفندق أعطى ماسح الأحذية الجالس قرب الباب ريال مجيدي أجرة له.
وفي سنة 1917م، طرأ الاعتدال على سياسة جمال باشا، فسمح باستيراد القمح من سوريا، وخص البطريرك الماروني الياس الحويك بشاحنات منه لتوزيعها على الفقراء، وسمح بعودة بعض العائلات من منفاها، مما أثار استغراب الأوساط الخاصة والأندية الاجتماعية، لكن الأمر لم يدم طويلاً، فقد استدعت الحكومة التركية جمال باشا وأنتهي حكمه العسكري.