بمقتل الطبيب رافع، اطمأن يعقوب وزوجته، وإن نضب معين المعلومات العسكرية لديهما، لذا فكرا في البحث عن ضابط آخر من "الكبار" يسهل إغواؤه... وتنهمر الأسرار منه.
وبينما العقيد جاسر عبد الراضي جالس بسيارته العسكرية المعطلة، في انتظار سائقه الذي يبحث عن سيارة أخرى تجرها، اقتربت منه سيدة فائقة الجمال، تنزلق من عينيها الدموع السخية، وبلغة عربية ركيكة، توسلت اليه السيدة أن يحميها من زوجها العراقي الذي لا يكف عن ضربها، ولأنها إيرانية غريبة لا تعرف ماذا تفعل، طلبت منه مساعدتها لتعود الى إيران.
غادر الرجل سيارته مشفقاً عليها وقد أدهشه جمالها الأخاذ، ووعدها بأن يصحبها لبيتها ليتحدث مع زوجها، وما إن جاء السائق حتى طلب منه الضابط أن ينصرف بالسيارة، وركب إحدى السيارات الأجرة مع المرأة الباكية.
انكمشت فروزندة بجوار الضابط الشهم وقد لفها الخوف، تغزو جسدها نظراته العطشى المتأملة، حتى إذا ما وصلا الى المنزل، قابله يعقوب باحترام شديد وقص عليه حكاية مغلوطة وليدة خطتهما، فتعهد الضابط بحماية المرأة الأجنبية لما رأى خضوع يعقوب له، وأقسم على أن يساعدها في العودة لأهلها إذا ما عاد لسيرته الأولى معها.
لقد اعتقد الضابط أنه سيطر على الموقف، لكن دموع فروزندة كانت أسلاكاً من فولاذ، كبلت عقله وسيطرت على إرادته، فلم يقو على نسيانها.
عدة أيام وعاد لزيارتهما فاختفى يعقوب في مكان لا يراه جاسر، وبدأت فروزندة خطوتها الثانية، بأن أكدت له أن وجوده الى جوارها خفف كثيراً من سلوك زوجها المعوج معها؛ وشكرته لشهامته في نعومة يلين لها الحديد.
وبعيني أنثى خبيرة، أدركت أنها قطعت خطوة هامة للإيقاع به. فبعد عدة زيارات لم يستطع المقاومة، وأفصح صراحة عن رغبته فيها عندما احتواها بين يديه وبدنه يرتعد كفأر في المصيدة، وأخذ يبثها حبه وهيامه، متناسياً كل شيء في سبيل الوصول اليها.
لقد باع وطنه على فراشها المتوقد بنيران أنوثتها، ولم يبخل بإفشاء أسرار الجيش العراقي، عندما سلم لعميلي الموساد أسراراً خطيرة عن الطائرة السوفييتية توبولوف – 22، التي تعد الأحدث قياساً بقاذفة القنابل الأمريكية ب-52 "التي استخدمت في حرب فيتنام"، كما أمدها بوثائق هامة، تتعلق بالمخزون الاستراتيجي من الذخيرة، وكشوف بأعداد الدبابات تي 62، وحصر عام لبنادق "برنو" التشيكية، ورشاشات "دوشكا" و "كلاشيكوف"، وأيضاً رشاشات "سينا" الصينية.
أمدها أيضاً بوثائق أخرى عن نظام الجيش العراقي، وأفرعه، وقياداته، وتشكيلاته، وتسليحه، وكذا خرائط سرية عديدة عن المطارات العسكرية، والقواعد الجوية الاستراتيجية والهيكلية ونظام العمل بها. كل ذلك مقابل جسد فروزندة الذي كان يناله في أي وقت، حتى في وجود يعقوب.
كان العقيد جاسر عبد الراضي من أسرة عسكرية، تتزاحم بالمناصب والرتب، لذلك... كان يفخر دائماً بأنه يعلم بأسرار الجيش العراقي، حيث تصب كلها أمامه من خلال أقاربه العسكريين وزملائه في المواقع المختلفة.
لقد اكتشفت فيه فروزندة حبه الشديد للتباهي بنفسه، والتفاخر بمنصبه العسكري في الدفاع الجوي، وإدمانه للخمر والقمار والجنس، ولأجل ذلك، فهو ينفق راتبه على نزواته ويعيش دائماً مديوناً.. هارباً من دائنيه.
اكتشفت فيه أيضاً ما هو أهم من ذلك... قلة وازعه الوطني، وسخطه على الحياة في العراق، يترجم ذلك سبه الدائم لقيادات حكومته، وانتقاده العنيف لهم.
لقد برهن بما لا يدع مجالاً للشك، على عدم ولائه لوطنه، واستعداده لعمل المستحيل لأجل عيون عشيقته التي أعطته أنوثتها بسخاء فأسكرته، ومنحته من المال الكثير فأنعشته.
ونظراً لزواجه من إيرانية، اعتاد يعقوب السفر الى إيران مطمئناً، حاملاً معه أدق الوثائق العسكرية السرية، خلافاً لوثائق أخرى كان يجلبها له عميل آخر اسمه عزاوي الجبوري.
هكذا استمر يعقوب يوسف جاسم يعمل في خدمة الموساد بمعاونة زوجته، مندفعاً بكل طاقته غير عابئ بالعواقب، تخيم على عقله غيمة كاذبة من الوهم والثقة، حتى ألقي القبض على أعضاء الشبكات التسع في يناير 1966.
ساعتئذ ... ارتجت دعائم ثقته وغامت الحياة من حوله، فأحجم من فوره عن حمل حقيبة الوثائق الى إيران، وانكمش مذعوراً يترقب مصيره المجهول.
أما فروزندة . فقد أنهكها التوتر والخوف... وفكرت .. بل ألحت على يعقوب أن يتركها لتغادر الى وطنها، لكنه رفض بحسم. فقد كان بحاجة الى رفيق يؤازره، ويشاطره مخاوفه... وارتعاشة الأطراف لحظة الشنق.
ولما ينس رجال الموساد في الوصول الى يعقوب وزوجته، أرسلوا اليهما بعميلهم فجر عبد الله، الذي ألقى القبض عليه صدفة، فأرشد عن يعقوب عندما تعرف الى صورته التي عرضت عليه بواسطة رجال المخابرات العراقيين.
ففي فجر اليوم الثاني من فبراير 1966، وبينما يعقوب وفروزندة بحجرة نومهما، متكورين في هلع لا حول لهما ولا قوة... تطرق الى سمعهما وقع عشرات الأقدام تحيط بالمنزل.
هبت فروزندة مذعورة الى أحد الأدراج، وفي اللحظة التي تهشمت فيها الأبواب ودخول سيل من الرجال، ابتلعت فروزندة كل ما بقي في أنبوب سم السيانيد. أما يعقوب، فكان مستسلماً للقيود الحديدية التي كبلت معصميه، ينظر الى فروزندرة هلعاً وقد جحظت عيناها، وارتعشت أطرافها قبلما تهوى الى الأرض.
هكذا نفذت العميلة حكم الإعدام في نفسها قبل محاكمتها، وأتاحت بذلك الفرصة لشريكها أن يرى بنفسه ارتعاشة الموت، فقد لا يسعفه الحظ ليرى ارتعاشتها وهي تتدلى من حبل المشنقة.
وهذا ما كان بالفعل. إذ نفذ حكم الإعدام في يعقوب شنقاً بسجن بغداد المركزي في ديسمبر 1966، بعد محاكمة استمرت عشرة أشهر، اعترف أثناءها تفصيلياً بدوره في التجسس مع شركائه لصالح الموساد، وأبدى ندمه الشديد لذلك. وجاء اعترافه بالندم في لحظة حاسمة ما بين الجد والهزل. فالخونة في كل زمان ومكان خونة لا أمان ولا عهد لهم.
أم عزاوي الجبوري، فقد ألقى القبض عليه فاراً بالقرب من منفذ العبور الى الأردن، وكان هو الذي شهد ارتعاشة أطراف زعيمه يعقوب على حبل المشنقة، بدلاً من فروزندة.
لكن العقيد جاسر عبد الراضي، أنقذ جسده من رصاصات منفذي حكم الإعدام، إذ وفر عليهم مهمتهم، وانتحر هو برصاص مسدسه الميري في جراج منزله. ونال فجر عبد الله حكماً بالأشغال الشاقة المؤبدة، بعدما رفضت السلطات العراقية تخفيف الحكم على العميل الإسرائيلي، حيث طلبت إيران ذلك رسمياً من العراق.
وبذلك... تفككت شبكات الجاسوسية الإسرائيلية، وانحصر نشاط الموساد في العراق في تقوية شبكات محلية أخرى، جرى تدريبها وتثبيتها لتحل محل الشبكات التي سقطت. لتستمر حرب المخابرات في اندفاع مستمر لا يتوقف إلا لكر ... !!