2000-1200 ق.م
زمن الأسرة الثانية عشرة (2000-1786 ق.م)
ظهرت مطامع مصر الفرعونية في التوسع الخارجي، منذ عهد الأسرة الثانية عشرة (2000-1786ق.م)، والتي سيطرت على الساحل الكنعاني، وعلى الأخص جبيبل وبيروت.
وقد عثر في بيروت على تمثال يحمل أسم الفرعون، وهو حالياّ في المتحف البريطاني في لندن، ويعتبر أول أثر ورد فيه أسم بيروت. وهذا الأثر التاريخي عبارة عن وصف رحلة الأمير سنوحي، إلى الساحل الكنعاني، زمن الأسرة الثانية عشرة. وقصة سنوحي تتخلص في خوفه من أخيه الأكبر بعد موت أبيه الملك، حيث جرت العادة أن يقتل الابن الأكبر منافسيه في أغلب الأحيان. لذلك قام سنوحي برحلته، فسار إلى الصحراء، ووصل فلسطين حيث أصبح أميراً ذا قوة وسلطان. ثم يستدعيه أخوه الذي تبوأ عرش مصر، ويعيد إلى مكانته. ومن رحلته هذه نعرف أسماء ملوك وأمراء المنطقة التي نزلها سنوحي، وأماكن عديدة كانت مسرحاً لرحلته، ومنها بيروت.
زمن حكم الهكسوس لمصر (1730-1580 ق.م)
وأثناء فترة حكم الهكسوس {الملوك والرعاة) لمصر (1730-1580ق.م) تميزت علاقاتهم بالوّد والصداقة مع الساحل الكنعاني، لذلك تركوا بيروت، وباقي المدن الساحلية، تمارس تجارتها بحرية. وهذا الواقع يدل على مدى علاقة الهكسوس بسكان بيروت والساحل، من جهة العرق، أو من جهة اللغة أو التقاليد، والمؤرخ يوسبينسوس يذكر {أن البعض يعتبرون الهكسوس من العرب}.
زمن الإمبراطورية المصرية الحديثة (1085-1580 ق.م)
بلغت مصر الفرعونية أوج قوتها ومدنيتها بين (1085-1580ق.م)، خلال حكم الأسرات الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين. وأنعكس ذلك على وضع بيروت وسائر حكومات المدن الساحلية. ففي عهد الأسرة الثامنة عشرة، كان الفراعنة ملوك مص أو الطامعين ببيروت في القرن السادس عشر قبل الميلاد، فقد سيطروا عليها بعد طرد الهكسوس من بلادهم، ومطاردتهم لهم خارج مصر، حيث غزا أحمس فينيقيا على رأس حملة كبيرة، بهدف تأمين الحدود من معاودة هجوم مفاجئ للهكسوس، فطاردهم حتى كنعان وطّهر سوريا منهم.
وفي عهد الأسرة الثامنة عشر أيضاً غزا تحوتمس الثالث، بحملاته العشرين، سوريا وكنعان بين (1468-1436ق.م)، وأنشأ الإمبراطورية المصرية، وكانت بيروت وسائر المدن تدور في فلكها، وقد طلب تحوتمس الثالث من الأمراء التابعين له، أن يرسلوا أبناءهم إلى مصر لتنشئتهم على حب مصر والتفاني في خدمتها. وكان لسياسته هذه أثرها في علاقة مصر بالأقاليم.
وكانت أساطيل الفينيقيين ترد إلى مصر. ومن الآثار المصرية، تمثال الوزير سنوسرت عنبح، وتمثال الملك أمنحتب الثالث في بيروت وشمرا، وتماثيل في منطقة بعلبك، وغير ذلك من الآثار التي تثبت الكيان الحضاري الدولي لمنطقة سوريا ولبنان وفلسطين، في تلك المرحلة.
وجاء ذكر بيروت تحت اسم بريتا (Beruta) في لوحات تل العمارنة، في القرن الرابع عشر قبل الميلادد. وهذه اللوحات عبارة عن رسائل كتبت بالخط المسماري، وتبادلها أمنحتب الثالث (1408-1380ق.م) ثم أمنحتب الرابع (1372-1346ق.م) مع ملوك بابل وآشور وأمراء المحميات المصرية على الساحل الكنعاني، فهي رسائل سياسية، كان الأمراء يرسلونها إلى فرعون مصر، الذي يعود إليه الفضل في تعيينهم.
ومن هذه الرسائل التي اشتهرت، رسالة تصف بيروت بالبلدة المنيعة وبالفُرضة البحرية المهمة، وتذكر سفنها وبوارجها الحربية، التي سارت إلى بلاد أموري فظفرت بها. ومن جملة المراسلات رسالتان لعامل الفرعون على بيروت، يفيد سيدّه {أنه خرج لمحاربة أعداء الدولة بخيله ورجاله وعجلاته، وأنه ردهم على أعقابهم. وفي كلامه دليل على مناعة بيروت في ذلك الزمان وعلو مقامها، ورقي تجارتها، وسعة ثروتها}.
وكانت بلاد كنعان مجزأة بين مصر والمملكة الحيثية، وقد حاول أمراء المدن الكنعانية أن يوقعوا بين هاتين القوتين على الصعيد الدولي، في الوقت الذي كان فيه الأمراء يدبرون المؤامرات بعضهم ضد البعض الآخر على الصعيد المحلي، وقد قام شبه اتحاد مستقل برئاسة جبيل، ويضّم إضافة لها بيروت وصيدا وصور وعكا.
وكانت الرسائل تنهال من مدن الساحل بيروت وجبيل وصيدا، تطلب النجدة من الفرعون أمام الخطر الأموري، لكن دون جدوى. فاضطر رب ادي، أمير جبيل، أن يلجأ إلى بيروت، وأميرها يدعى عمونيرا، وعندما هدد الخطر بيروت لجأ إلى صيدا.
وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة (1298-1236ق.م) دخل الجيش المصري الساحل الكنعاني، وعبر رعمسيس الثاني (1298-1235ق.م) بيروت، ثم وصل نهر الكلب حيث ترك نصباً تذكارياً. مما يعني أن بيروت كانت ممراً للجيوش الغازية.
وفي أيام مران بتاح، قامت ثورة المستعمرات المصرية سنة 1222ق.م، واشتركت فيها قبائل بني إسرائيل وغرب سوريا وفلسطين، فأتلفت بلاد بني إسرائيل وسلبت أرض كنعان.
وفي بداية الأسرة العشرين (1085-1200ق.م)ـ قدمت الشعوب أو القبائل البحرية من الشواطئ والجزر الشمالية للبحر المتوسط، وهي شعوب لا تمت بصلة إلى العرق السامي. وقد اجتاحت الشعوب البحرية شواطئ تركيا الجنوبية والساحل الكنعاني، وذلك في بداية القرن الثاني عشر ق.م. ووقف الأمراء الكنعانيون إلى جانب القوات المصرية لمجابهة العدو. لكن موت رعمسيس الثالث جعل هذه الشعوب تسيطر على المدن الساحلية ومنها بيروت، وذلك بعد تدمير صيدا وصور. وبدأ الضعف يدّب في الإمبراطورية المصرية، وأنعدم نفوذها في بيروت والمدن الساحلية، ويشير إلى ذلك رحلة ون أمون سنة 1100ق.م على سفينته من مصر إلى جبيل. وكان الهدف من الرحلة استيراد خشب الأرز، لبناء مركبة فخمة للإله آمون.
ومما يدل على ضعف النفوذ المصري، أن ون أمون ذكر في تقريره عن أمير جبيل زكر بعل: {قضيت تسعة عشر يوماً في ميناء هذا الأمير، وكان يرسل إلي كل يوم قائلاً انصرف عني}. كما ندد أمير جبيل بون أمون، لأن سفينته لا تحمل راية تظهر انتماءها إلى حلف تجاري.
ومما يذكر تعرض ون أمون، بين حيفا وبيروت، إلى عملية اختلاس، فسرق له أحد رفاقه كمية من الفضة وهي ثمن الخشب.
ومن صور تابع رحلته إلى جبيل مروراً ببيروت. ودامت المباحثات أشهراً، ولم يقبل أمير جبيل بقطع الأخشاب، إلا بعد أن أرسلت مصر بعثة للمجيء بمزيد من الهدايا.
لكن ضعف الإمبراطورية المصرية لم يمنع استمرار التبادل الثقافي والتجاري بين مصر وفينيقيا. فأصبح حكّام بيروت وسائر المدن الساحلية، يقيدون حساباتهم على ورق البردي، الذي يصدّر من مصر مقابل مصنوعات فينيقية. وكانت فينيقيا، في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، تستعمل حروف الهجاء المصرية. كما كان لمعبد أمون وبتاح، أساطيل تجارية وصلت البحر المتوسط، فنجم الشراء عن التبادل التجاري. وكذلك تأثرت بيروت ببناء المعابد على الطراز المصري، في حين تأثر المصريون بعبادة {بعل} إله بيروت.