هناك – في
الدار البيضاء – كانت بانتظاره مفاجأة بدلت مجرى حياته كلها .. إذ تعرف إليه في بهو
الفندق رجل مغربي .. يهودي .. عرف منه وجهته .. فعرض عليه مساعدته لدخول ريودي أورو
عن طريق أعوان له في "سيدي أفني" أقصى جنوب المغرب .. وكيفية اجتياز "وادي درعة"
للوصول إلى الحدود.
سر نبيل النحاس للصدفة الجميلة التي ما توقعها.. واحتفاء بالمراسل الصحفي الوسيم ..
أعد له المضيف وليمة غداء بمنزله في "أزمور" الساحرة. . التي تقع على نهر "أم
الربيع" وتشرف على ساحل المحيط الأطلنطي.
وفي منزل تحيطه
الحدائق والزهور في بانوراما طبيعية رائعة .. كانت تنتظره المفاجأة .. إنها "مليكة"
اليهودية المغربية التي تستحوذ على جمال فتان لم تره عين من قبل . .
كانت في
الواحدة والعشرين من عمرها .. إذا خطت . . تحركت الفتنة وترجرجت تحت ثيابها . .
وإذا تأودت . .
أغرقت الدنيا بهاء وحسناً. . وإذا تحدثت .. تموجت الأنغام سكرى على شفتيها. .
وأربكت حدود
العقل وأركانه.
أذهل جمالها
المراسل الصحفي الجديد فنسي مهمته في الجنوب .. وذابت جونايدا إلى القاع أمام سحر
مليكة .. فقد أفقدته "حسناء أزمور" الوعي والرشاد .. وطيرت عقله إلى سفوح المتعة. .
فأقبل يلعق
عناقيد الفتنة بين يديها . . ويتعبد منتشياً في محرابها مسلوب القرار .. فعندما
يخوص الجسد بحار النشوة .. يغوس متلذذاً بالغرق لا يرجو خلاصاً من الموت الجميل.
الأيام تمر
وفتانا نسي مهمته.. وقبع كطفل غرير بين أحضان مليكة التي أحكمت شباكها حوله وسيطرت
على مجامع حواسه .. وحولته إلى خادم يلبي طائعاً رغباتها.. وينقاد لرأيها ..دون أن
يشك ولو للحظة في كونها يهودية تسعى لاصطياده في خطة محبوكة ماهرة أعدتها جونايدا
سلفاً في القاهرة.
وبعدما فرغت
جيوبه . . أفاق على موقفه السيء بلا نقود في بلاد الغربة .. وتمنى لو انه كان يملك
الملايين ليظل إلى جانب مليكة لا يفارقها أبداً. .
ولما قرأت
فتاته أفكاره .. طمأنته . . وعرضت عليه السفر معها إلى باريس حيث الحرية والعمل
والثراء .. وبلا وعي وافقها .. ورافقها إلى عاصمة النور والجمال ومأوى الجواسيس ..
وهناك لم يفق أو ينتبه إلى حقيقة وجوده بين فكي كماشة ستؤلمه عضاتها حتماً ذات يوم.
. ولما أيقنت أنه سقط في براثنها بلا قوة تؤازره وتدفعه لمقاومتها. . نبهته –
بالتلميح – إلى ضرورة إدراك حقيقة لا بد أن يعيها .. وهي أنها يهودية تدين بالولاء
لإسرائيل حتى وإن كانت مغربية المولد .. ولغتها عربية فرنسية. .
وعندما استقرأ
المراسل الصحفي مستقبله معها . . كانت الصورة أمامه مهتزة .. إذ خلقت منه أصابع
مليكة الناعمة طفلاً لا يعي .. وأبلهاً لا يقرر .. وأعمى لا يرى تحت قدميه.
أقام معها في شقة رائعة .. وكانت تنفق عليه بتوفير فرصة عمل له من خلال أصدقائها في
باريس. . واستدعت من أعماقه كل جوانب ضعفه وجنونه . . واستدرجته للحديث في السياسة
فأفاض بغزارة ..
وأسر إليها بما
لديه من معلومات عن المنظمة الأفرو آسيوية . . وعن أشخاص بعينهم يمثلون رموزاً هامة
في المجتمع الدولي .. وحدثها عن علاقاته بكبار المسؤولين في مصر .. وكانت كل تلك
الأحاديث مسجلة بالصوت والصورة .. إلى جانب تسجيلات أخرى أثناء استعراضه لفحولته
عارياً بين أحضان عميلة الموساد.
كان "باسكينر"
ضابط الموساد يراقب كل شيء . . ويدرس شخصية نبيل النحاس باستفاضة . .
ولما حانت
الفرصة المناسبة .. عرفته مليكة بفتاها .. وقدمته اليه على أنه رجل أعمال إسرائيلي
يدير شركة كبرى للشحن الجوي تمتد فروعها في كل القارات .. وكان رد الفعل عند
المراسل الصحفي يكاد يكون طبيعياً. . فهو يسعى إلى المال أينما وجد .. وسواء تحصل
عليه من يهودي أو هندوسي فلا فرق .. المهم هو الكم.
استخلص الضابط
المحنك حقيقة مؤداها أن الشاب المصري يريد المال ومليكا معاً. . فتولى أمره . .
وتعهده ليصنع منه جاسوساً ملماً بفنون الجاسوسية.. وكانت المناقشات بينهما تبدو
طبيعية لا غبار عليها .. ثم تطرق باسكينر شيئاً فشيئاً إلى هويته. . وموقف العرب من
إسرائيل. . واتجاهات الدبلوماسية العربية إزاء الوجود الإسرائيلي في المنطقة. .
في أحاديثه
أيضاً تطرق إلى عمليات الموساد الخارقة في البلاد العربية .. وكيف أنها تدفع بسخاء
إلى عملائها . . وتحرص على حمايتهم إذا انكشف أحدهم .. ونوّه – من بعيد – عن
التسجيلات الصوتية والأفلام التي بحوزتهم . . والأسرار التي تحويها هذه الشرائط،
وأنها قد تهلك أصحابها إذا ما وقعت في أيدي المخابرات العربية.
لم يكن نبيل
النحاس غبياً بالدرجة التي تجعله يجهل ما يرمي إليه باسكينر . . أو يتجاهله .. إذ
استوعب نواياه ومقصده . . وكان تعليقه الوحيد أنه شخصياً يتعاطف مع إسرائيل .. وأن
تعاطفه هذا عن قناعة تبلورت من خلال قراءاته في تاريخ اليهود.
بذلك . . اختصر
نبيل النحاس الطريق الطويل أمام باسكينر .. وخطا أولى خطواته الفعلية على درب
الخيانة .. والخسة. .
أبقى باسكينر
مليكا إلى جوار الجاسوس الجديد. . فوجودها مهم للغاية في تلك المرحلة الأولى من
الإعداد والتدريب .. ذلك لأن خضوعه كان مرهوناً بوجودها .. إلى جانب آلاف الدولارات
التي ملأت جيوبه فأسكرته . . وأنسته عروبته. . فقد كانت تمنحه النعيم ليلاً بينما
يدربه باسكينر وزملاؤه نهاراً. .
كانت أولى دروس
الخيانة هي كيفية استدراج ذوي المراكز الحساسة للحديث في أمور يصعب تناولها . .
وتتعلق بأسرار الدولة .. واستغلال حفلات الخمر والجنس في الوصول إلى أسرار غاية في
الأهمية .. إلى جانب ضرورة تزويد الموساد بنسخة طبق الأصل من محاضر مؤتمرات المنظمة
الأفرو آسيوية التي سيعود لعلمه بها من جديد.
علموه أيضاً
كيفية قراءة التقارير والأوراق بالمقلوب على مكاتب المسؤولين الكبار عند زياراته
لهم . . واختزان الصور والرسوم والمعلومات التي يطلع عليها بذاكرته .. ثم يقوم
بتسجيلها كتابة بعد ذلك . . وكيفية مراقبة المواقع العسكرية على الطريق ما بين
القاهرة والسويس وكتابة تقارير وافية عن مشاهداته وإن كانت تافهة .. ويقوم بإرسالها
– بواسطة الحبر السري – إلى أحد العناوين في باريس – مقر الموساد المختص بجواسيس
الشرق الأوسط – الذي يقوم بتجميع الأخبار والتقارير التي تفد إليه من قبرص وأثينا
وبروكسل وروما فيرسلها بدوره إلى تل أبيب.