البهاء
كان لسقوط الخلافة الأموية وظهور ممالك الطوائف أن دفعت اشبيلية نحو مرحلة أولى من الازدهار، وبخاصة في المجال الثقافي. فقد جهد حكامها المستقلين من بني عباد، بدءا من عهد القاضي محمد بن عباد (1023-1042) الذي خلفه ابنه المعتضد (1069-1042) فحفيده الشاعر المعتمد بن عباد (1091-1069)، لاضفاء بريق قرطبة الخلافة عليها. قام بنو عباد بتوسيع مملكتهم إلى آن سيطروا على ثلث البلاد تقريبا لتصبح مملكتهم الأقوى في عصر الطوائف، الأمر الذي مكّن من نمو المدينة اتساعا واغتنائها ثقافيا. فالمدينة المحددة بالأسوار الرومانية التي ورثها بنو أمية ضاقت بسكانها. أنشأ بنو عباد في البقعة التي تشغلها اليوم القصور الملكية Alcazares Reales قصورا خيالية تغنى بها الأدباء كالقصر المبارك والقصر الزاهي، مقر المعتمد بن عباد.
باتت اشبيلية بني عباد محجا لرجالات الفكر والأدب من أمثال ابن حزم (1063-994)، وهو من كبار أعلام الأندلس، والشاعر ابن اللبانة الداني والوزير الشاعر ابن عمار الشلبي (1086-1031) الذي كانت تجمعه مع المعتمد علاقة صداقة خانها فانتهت بمأساة.
وكان لدخول المرابطين العنيف في المدينة في نهاية صيف1091 تأثير كبير على حياتها ومظهرها النهائي في العهد العربي. فالمرابطون هم الذين أقاموا الأسوار التي تحدد اليوم رقعة المدينة التاريخية. كما أحكموا إغلاق المجال الممتد من ساحة تريونفوTriunfo حتى النهر والذي أقيمت به القصور والمعسكرات والمباني الإدارية التابعة للسلالات الأفريقية التي هيمنت على جلّ بلاد الأندلس.
أوج الازدهار الموحدي
بلغت اشبيلية أوجها في عهد الموحدين، وأصبحت حاضرة كبيرة ستلعب بعد ثلاثة قرون دورا أساسيا في علاقة العالم القديم مع الجديد (أمريكا).
فحكمها من قبل أعضاء العائلة المالكة أفاد المدينة وجعلها عاصمة الدولة في الأندلس بالتوازي مع مراكش في المغرب. وترتب على هذه المكانة الإدارية والثقافية حركة أعمار واسعة. فقد عمد حكامها إلى تمتين وترميم أسوارها مرارا وبشكل خاص في ذلك الجانب المحاذي لنهر الوادي الكبير. يمتد الجزء الباقي من أسوار القرن الثاني عشر اليوم شمال نواة المدينة ما بين بابي ماكاريناMacarena وقرطبة. ونمت خارج الأسوار الأرباض الثلاثة الوحيدة التي احتضنتها اشبيلية لغاية القرن العشرين: ترياناTriana ، على الضفة اليمنى من الوادي الكبير وربضي ماكارينا وسان برناردو الذي جاء ذكره في نصوص القشتاليين القديمة تحت اسم بني اليعفرBenaliofar .
وسمت منشآت الموحدين العامة مدينة اشبيلية بملامح متميزة، من بينها المسجد الجامع الجديد ،الذي تشغل مكانه اليوم الكاتدرائية، ومئذنته لا خيرالدا التي يجب تأملها باعتماد بعض خيال يزيل منها الشرفات وبيت النواقيس ويساعدنا على تصوّر الكرات (التفاحات) الأربع الذهبية تعلو قمتها: اليمور، الذي كان يترك انطباعا ساحرا جعل أحد المعاصرين يصفه بقوله أن مرأى تلك الكرات عن بعد يترك انطباعا وكأن جميع نجوم دائرة البروج حطّت على اشبيلية. والى الشمال، وراء باب العفو Puerta del Perdon القائم ما زال، هدمت البيوت لبناء قيصرية الحرير، منتجات البذخ التي تدلّ على رفعة المدينة.
كما جلب الخليفة يوسف المياه إلى قلب المدينة بواسطة القناطر الرومانية بعد ترميمها: كانيوس (قساطل) دي كارموناCanos de Carmona ، التي شرعت تعمل سنة 1172 وكانت كمية المياه التي توفرها كافية لري بساتين "البحيرة" وتزويد شبكة الحمامات العامة الكثيرة المنتشرة في المدينة. بعد سقوط المدينة بيد النصارى سنة1248 حوّل القسم الأكبر من تلك الحمامات إلى كنائس، ولم يصل ألينا سوى تلك الواقعة في شارع ماتيوس غاغوMateos Gago وميسون ديل موروMeson del Moro وتلك المسماة حمامات الملكة العربية ،إلى العهد ذاته يعود بناء الترسانات التي رممها الملك ألفونسو العاشر وبني فوق قسم منها مستشفى دي لا كاريداد Hospital de la Caridad. كما أقيم في الثلث الأخير من القرن الثاني عشر الجسر الذي يربط اشبيلية مع ربض تريانا، وكان أول جسر يقام في ذلك الجزء من النهر.
النظام الدفاعي
أضيف إلى المنشآت الدفاعية التي بنيت في القرنين العاشر والحادي عشر القصبتين الموحديتين المعروفتين باسم قصبة الداخل والخارج (برة) وتم دعم الدفاع عن الميناء ببناء برج الذهب Torre del Oro الذي كان يغلق مدخل الميناء الجنوبي. لمخطط البرج المذكور12 ضلعًا، وهو أول بناء يزدان بالزلّيخ في الأندلس. وفي الجهة الشمالية كان يقوم بمهمة الدفاع عن موقع الميناء الحيوي برج باب دي لا باركيتا Puerta de la Barqueta. فذلك الحيز من الأهمية بمكان باعتباره باب اشبيلية الاقتصادي الذي يؤمن صلاتها بالبحر الأبيض المتوسط والسواحل المغربية.
كما وسع الموحدون قصور بني عباد وحولوها إلى ما يشبه مدينة البلاط والجيش، وما زال تنظيمهم بيّنا في يومنا هذا. ففي داخل قصر عهد الخلافة المعروف باسم دار الإمارة أقيمت مجموعة قصور ومقرات ملكية بقي قليل من آثارها بين البيوت المحيطة بفناء Patio de Banderasدي بانديراس.
ومن المواقع الهامة خارج الأسوار المنية الملكية وبركة البحيرة التي غدت فيما بعد "بستان الملك" Huerta del Rey. لا ريب أن المجمع الأخير كان في تلك الأزمنة شبيها بما هي عليه اليوم حدائق المنارة في مراكش.
الازدحام السكاني
ازدحمت اشبيلية بشتى الخلائق: من البربر القادمين من الأطلس وآخرين من جنوبي الصحراء ورجال الدين المستعربين والفقهاء الذين توافدوا أليها من كافة أرجاء الأندلس، والباعة الجوالون والشعراء. ثمة نص من ذلك العصر يصف ميل الاشبيليين إلى المزاح والفكاهة ويعتبر شارع بيتيسBetis في تريانا بأنه أفضل بقاع العالم لقضاء ليلة مقمرة.
برز من الشخصيات في اشبيلية الفيلسوف ابن رشد القرطبي (1126-1198) الذي قطن في المدينة قبل انتقاله إلى مراكش، ومنهم بنو زهر، عائلة الأطباء الاشبيليين الذين يشغلون مكانة رفيعة في تاريخ العلوم.
استيلاء فرناندو الثالث على المدينة
تركت اشبيلية العربية ملامحها حتى بعد استيلاء فرناندو الثالث عليها، فكنائس القرن الثالث عشر المدجنة من قبيل سان لورينثو وسانتا مارينا وسان رومان وامنيوم سانكتوروم وسانتا آنا في تريانا وغيرها كثير أقيمت كلها فوق مساجد مدينة الموحدين.
وقام ببناء القصور الملكية Reales Alcazares التي أمر بإنشائها الملك بيدرو الأول معماريون قدموا من طليطلة وغرناطة بني نصر وتدين ببهائها لفن المعمار الإسلامي. حتى أن نسيج المدينة الذي لم يتوالى عليها تغيير عميق سوى في القرن التاسع عشر ما زال يعكس مخطط المدينة العربية الأصلي والرؤى المعمارية التي أنشأتها. فالدروب، كذلك الذي نصادفه في ساحة سانتا مارتا قرب منارة لا خيرالدا وتعرجات حي سانتا كروث وساحة لا ألفالفا Plaza de la Alfalfa تنقل الزائر إلى العصر الوسيط المتأخر. ما زالت اشبيلية مدينة مفتوحة للزائر كما كانته أيام المعتمد بن عباد وفي عهد خلفاء الموحدين وعندما كانت عاصمة العالم الجديد في شبه الجزيرة الايبرية.