زمـن "الاستكراد" الذي ولّى
بقلم عبد الحميد الاحدب - النهار 5 نيسان 2005
على غلاف مجلة "الشراع" التي صدرت قبل ايام، صورة رستم غزالة وقد كتب عليها:
"رستم غزالة... الكردي الذي حكم لبنان". وكتب صاحب "الشراع" اللبناني الصميم والعنيد ونصير الاستقلال والحرية، حسن صبرا، مقالا افتتاحيا يقول فيه ان كثرا من الاكراد سبقوا رستم غزالة الى اعلى المراكز في سوريا من ابرهيم هنانو الى خالد بكداش الى يوسف العظمة قائد ميسلون، ولكن رستم غزالة كان من معدن آخر، هو معدن المخابرات.
لم اكن اعلم ولا كان اللبنانيون يعلمون ان رستم غزالة الذي حكم لبنان كردي، لكننا كنا نشعر ان حكم المخابرات السورية الذي امتد خمسة عشر عاما كان فيه "استكراد" للبنانيين. فقد شهدت هذه المرحلة اضافة الى الستالينية وفاشية موسوليني كثيرا من مسرحيات بشارة واكيم الهزلية: اذلال وسرقات ونهب ومسخ للحياة السياسية اللبنانية، من هنا هذا "الاستكراد". ولا يفهم اللبنانيون لماذا يصر الثلاثي غير المرح (لحود وبري وكرامي) ومخابراته هذه الايام، على متابعة "الاستكراد" بهذه الطريقة وإلقاء المتفجرات كل اربعة ايام؟
فالثورة التي كانت اكبر من ثورات اوكرانيا وجورجيا واوزبكستان حصلت يوم نزل مليونا لبناني الى الشارع، وكان المنظر الحضاري اقرب في ذلك اليوم الى الثورة الفرنسية واكبر من كل ثورات العالم. وشباب تلك التظاهرة هم كالمعجون الذي يخرج من الانبوب، لا يمكن اعادته اليه مهما فعل "المستكردون"
هؤلاء الشباب هم زنبقة ثورة الحرية في لبنان، التي ستصدر الحرية لبلاد عربية هي في امس الحاجة اليها، واذا كان المرض يعدي وانتقلت عدوى الاستبداد والمخابرات الى لبنان، فان الصحة اصبحت تعدي اليوم، وسنعدي العرب بصحة حريتنا. وزهورنا هؤلاء، ينتظرون الثلاثي غير المرح ومخابراته على الكوع، ليكرروا معه تجربة اوكرانيا وجورجيا، وربما موسوليني فالثلاثي غير المرح يستكرد نفسه منذ شهر ونصف شهر ويتراجع ويتراجع متشبثا بآخر مظاهر السلطة، خائفا مرتعدا من المجهول بعد اغتيال الرئيس الحريري تلاحقت هزائم الثلاثي غير المرح ومخابراته:
1. رفض الثلاثي غير المرح (لحود، بري، كرامي) ومخابراته الانسحاب السوري من لبنان، ثم عاد فرضخ حين رضخت سوريا، وظهر استكراده جليا
2. ثم رفض استقالة حكومة كرامي، فانهار كرامي في مجلس النواب على وقع زمجرة المتظاهرين الشباب.
3. رفض الثلاثي غير المرح ومخابراته لجنة تحقيق دولية ثم عاد فوافق عليها، وهو يحاول بكل الوسائل هذه الايام ان يحد من صلاحياتها ليبهدل نفسه اكثر ويرسم علامات استفهام حول ضلوعه في جريمة الاغتيال، والا فلماذا محاولات التضييق هذه؟
4. حاول منع التظاهرات، وحاول تسيير مظاهرة مضادة من عرقجي ويموت وقنديل فسقطت تظاهرة "الاستكراد" وانتصرت تظاهرة الشباب على رغم الحظر...
5. حاول ان يجند العمال السوريين وفلسطينيي المخيمات تحت شعارات المقاومة وبتنظيم من "حزب الله"، فنزلت تظاهرة الثلاثمئة الف (غالبهم غير لبنانيين) تطالب بعودة "الاستكراد"، فاذا بشعب لبنان يرد وينزل بتظاهرة المليونين (من اللبنانيين) ولم يعد في امكان كرامي ان يقول ان معه الاكثرية النيابية واكثرية الشارع.
6. حاول اميل لحود ان يطل على اللبنانيين من خلال مؤتمر صحافي، فاذا به يسقط في "الرذالة" وفي التهديد بالمتفجرات.
فأكثرية، بل كل، المجتمع المدني اللبناني نزل يوم 14 آذار الى الشارع.
واكثريتهم البرلمانية بدأت ايضاً "تستكردهم" وتلحق حالها... تداركاً لوضعها الشعبي... والآن، بقيت اماهمم الجولة الاخيرة هي تأجيل الانتخابات.
وهم لو قرأوا التاريخ لعرفوا ان المعجون الذي خرج من الانبوب لن يستطيع "استكرادهم" بعد الآن اعادته الى الانبوب، لقد خرج العملاق من القمقم!
كان في امكانهم ان يتستروا وينسحبوا ويذهبوا ويخلوا الطريق امام نور الحرية، وكان يمكن التغاضي عن زمن "استكرادهم"، ولكن ما داموا يريدون المواجهة فإن في انتظارهم اكثر مما عرفت اوكرانيا وجورجيا، واكثر من مصير موسوليني! ليس مصير نوري السعيد، لان ثورة زنابق الحرية هي ثورة حضارية، ولكنهم هم الذين اختاروا ان يذهبوا غداً الى المحاكمات، والارجح انها ستكون دولية، وستكون تلك المحاكمات درساً للعالم العربي الذي يتحفز للانقضاض على الذين "يستكردونه".
لقد صدّر العرب الى لبنان الناصرية، ولبنان سيصدر اليهم اليوم الحرية وكرامة الانسان...
وآخر مسرحيات "الاستكراد" هي مثول جميل السيد ورفاقه امام القاضي العدلي الذي عينته المخابرات، للتحقيق معهم في اتهام انفسهم بالضلوع في جريمة اغتيال الرئيس الحريري...
ومثل مشهد "الاستكراد" هذا حصل قبل الاغتيال، حين دافع الكردي رستم غزالة عن اطروحة دكتوراه اعدوها له، فجلست اللجنة الفاحصة ترتعد، ثم هات مدحاً وتكبيراً بأفكار الكردي المخابراتي ونبوغه، وهات تزلفاً واشادة بمواهبه... ثم اصدرت اللجنة الفاحصة قرارها منحنية، بمنح المخابراتي الكردي شهادة الدكتوراه بامتياز شرف!
ليت الثلاثي غير المرح ومخابراتهم قرأوا - اذا كانوا يقرأون – انه بعد تسلم المعارضة في اوكرانيا السلطة اعادت التحقيق في ملفات جرائم اصغر بكثير من جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وحين بدأ القضاة الشرفاء – غير المخابراتيين – بالتحقيقات، اخذ المخابراتيون السابقون يتساقطون. واحد اطلق النار على نفسه في السجن ومات، وآخر انتحر وعلّق مشنقته في السجن، من تلقائهم! هذه نهاية "الاستكراد" يا جماعة الثلاثي غير المرح ومخابراتهم!
وكلمة اخيرة: هل اخذت اجهزة الاعلام علماً بسقوط نظام "الاستكراد"؟
اللبنانيون الذين يشاهدون كل مساء في حلقة تلفزيونية تستمر ساعات الوزير المستقيلة حكومته وئام وهاب، والذي يطل عليهم كأحد مفكري ومخططي الموالاة، يسألون، ألم يأخذ التلفزيون علماً بانتهاء زمن "الاستكراد"؟ وما هذا المستوى المعيب للمناقشات السياسية والمشاركين بها؟ زنابق شباب تظاهرة المليونين وفكرهم وتطلعاتهم ما زالت على لائحة "الاستكراد" السوداء، وما زالت غائبة ومغيبة عن السهرات التلفزيونية هذه الايام. غالب الفكر السياسي، اذا جازت تسميته فكراً، هو فكر استكرادي، من صميم الزمن الذي ولّى، من الزمن الآخر، والتلفزيونات ستدفع ثمناً باهظاً لهذا الاحباط اذ استمرت في استكرادها للناس، لان تلفزيونات اخرى ستحل محلها بسرعة، وستفتح شاشاتها للفكر الجديد