قراءة اقتصادية لبنانية لخطاب الأسد:
20 مليار دولار خسائر لبنان من الوجود السوري منذ 1992
الدكتور كمال ديب*
(النهار في 8 آذار 2005)
خصص الرئيس بشار الاسد ثلثي خطابه الواقع في 5300 كلمة للوضع اللبناني، فيما خصص الثلث المتبقي للموضوعات الاخرى (العراق وموضوع السلام). ويراوح الواقع الاقتصادي للخطاب بين ايجابي (خفض المخاطرة السياسية في الاقتصاد اللبناني بعد الانسحاب) وسلبي (ابقاء الافق مفتوحا على مرحلة مبهمة ودعوة الحلفاء للاستعداد). ورغم ان الخطاب وضع الانسحاب في قالب انتهاء مهمة سورية في مساعدتها وتضحياتها تجاه لبنان، الا انه اغفل اكلاف هذا الوجود على الاقتصاد اللبناني واثره السلبي تاليا على رفاهية الشعب اللبناني.
ونبين في الجدول ادناه ان الوجود السوري منذ عام 1992 ادى الى خسائر اقتصادية لبنانية تقدر بـ20 مليار دولار، نتيجة الاختراق السوري لسوق العمل اللبنانية وللسوق المحلية للسلع والمنتجات الزراعية (اي خارج الاطر القانونية والاعراف)، ودور الوجود السوري في زيادة درجة المخاطرة في الاقتصاد اللبناني لدى المستهلك والمستثمر. (استثنينا الفترة التي سبقت عام 1992 اعترافا بدور ايجابي لسوريا، رغم ما شاب تلك الفترة من ممارسات خاطئة ايضا). وهنا تحليل اقتصادي لبناني للخطاب، مساهمة في فهم سوري افضل لما يعانيه لبنان:
وقع الخطاب الايجابي على الاقتصاد اللبناني
اولا، اتسم الجزء المتعلق بالوضع اللبناني من الخطاب بالايجابية في قرار الانسحاب من لبنان مما اعطى نتيجة فورية في خفض نسبة المخاطرة في الاقتصاد اللبناني حيال الاستثمار والانفاق. ولقد رفعت "ميريل لينش" تصنيفها للسندات اللبنانية بناء على قبول سوريا بسحب جيشها من لبنان. ثانيا، بدا الاسد متفهما الى الحاجة لتطوير العلاقة بين البلدين الى مستويات علمية واقتصادية، بعيدا من العلاقة السطحية المخابراتية العسكرية التي زادت نقمة اللبنانيين ضد الهيمنة السورية حيث دعا في خطابه الى: "رؤية جديدة للتعامل مع الاشقاء اللبنانيين تنطلق من ضرورة توسيع العلاقة معهم وان تكون على المسافة عينها مع كل الوطنيين المخلصين، وان تتجه العلاقة الى بناء قاعدة شعبية مؤسسية لها على المستوى التعليمي والثقافي والتربوي والاقتصادي والاجتماعي لتدعيم العلاقات الثنائية وحمايتها".
فلو اقتصر خطاب الاسد على قرار الانسحاب وعلى دعوته الى علاقة سوية محترمة بين البلدين لكان الوقع ايجابيا صرفا على الاقتصاد مما ينعكس تحسنا في الاقتصاد السوري. ولكنه لم يكتف بذلك بل تطرق الى موضوعات قد تزيل مفاعيل الانسحاب الايجابية.
اغفال الفوائد الاقتصادية التي جنتها سوريا
قال الرئيس الاسد، شارحا احدى موجبات المصلحة السورية في الانسحاب: "القوات المسلحة مصاريفها كبيرة جدا وتتحول الى عبء سياسي"، واضاف في فقرة اخرى: "اما وجود قواتنا في لبنان فنحن فقط من نتحمّل اعباءها."
بلغت النفقات السنوية في الموازنة السورية نحو 8 مليارات دولار منها مليار تقريبا للدفاع (ما هو معلن)، ولدى سوريا قوات مسلحة تبلغ 600 الف جندي واحتياط من الخدمة الاجبارية قد يبلغ المليونين. فتكون تكلفة المجند الفرد السنوية بما فيها العتاد والتجهيزات والتموين 1500 دولار. وعلى هذا الاساس تكون تكلفة 40 الف جندي في لبنان 70 مليون دولار سنويا حتى عام 2000 واقل من ذلك في ما بعد (تقلص عدد الجنود بعد عام 2000 الى 14000 سنة 2005)، ويمكن ان يضاف نصف هذا المبلغ لتمويل اجهزة المخابرات السورية في لبنان، فتصبح التكلفة السنوية 100 مليون دولار حتى عام 2000 واقل من ذلك في ما بعد، اي نحو مليار من 1992 الى 2005.
في مقابل الوجود العسكري والامني بقيمة مليار دولار، جنت سوريا من وجودها في لبنان الآتي:
اولا، اختراق سوق العمل اللبنانية: استباحت سوريا سوق العمل المحلية لفائضها السكاني الناشط فجاء ملايين السوريين في الفترة الممتدة من عام 1993 وحتى اليوم، وراوحت اعدادهم السنوية بين حد اعلى هو 800 الف وحد ادنى هو 300 الف (تتكلم بعض المصادر عن مليون ونصف مليون عامل سوري بصفة دائمة). وما دامت سوريا تتمتع بقوى عاملة تبلغ 5 ملايين نسمة منها 30 في المئة عاطل عن العمل، فان اختراق سوق العمل اللبنانية شكل مخرجا مهما جدا لازمتها الاقتصادية المتفاقمة.
وعلى هذا الاساس، واذا اعتمدنا نصف او ربع ما يشاع عن عدد العمال السوريين في لبنان، فقد بلغت تحويلات هؤلاء من مدخرات مداخيلهم الى سوريا ما قيمته 7 مليارات دولار بين 1993 و2005. واذا جناها العامل اللبناني لانفقها او استثمرها في بلده.
وليس المقصود هنا منع العمال من تحويل اموال فهذا من حقهم، ولا حتى منعهم من العمل في لبنان، بل في تنظيم العمالة ومنح العمال غير اللبنانيين حقوقهم المشروعة مع وضع قيود على العمالة الوافدة وفق حاجات لبنان. (تقول المصادر السورية ان تحويلات العمال السوريين من الخليج ولبنان بلغت 629 مليون دولار عام 1994، كما جاء في الصفحة 43 من الكتاب الممتاز للدكتور البر داغر، "لبنان وسوريا: التحديات الاقتصادية والسياسات المطلوبة"، "دار النهار"، 2001).
ولكي تحافظ سوريا على هذا الوضع الشاذ عمدت الى التأكد من ان وزارة العمل اللبنانية هي دوما في عهدة اصدقائها في الحزب القومي (الجناح الموالي لسوريا) وحزب البعث، وان الحركة النقابية والعمالية في لبنان تبقى مخترقة وضعيفة حتى لا تدافع عن حقوق العامل اللبناني.
وفي المقابل افاد ارباب العمل في لبنان (وبالتأكيد ليس اليد العاملة اللبنانية ولا الشعب اللبناني) من يد عاملة سورية رخيصة لا تتمتع بحقوق قانونية، ولكن مع خسارة في استحقاقات التأمينات والضرائب للدولة (مئات الملايين من الدولارات) وانخفاض في اجور العامل اللبناني، وفقدان الفرص لمن يرغب في العمل من اللبنانيين (لا نوافق هنا على اسطورة يشيع لها من يفيد من هذا الوضع غير الطبيعي والتي تقول ان ثمة مهنا واعمالا لا يقوم بها اللبناني. ذلك ان المسألة هي الاجر المتدني بسبب كثرة العرض في سوق العمل).
ثانيا، اختراق سوق السلع اللبنانية: دخلت لبنان ولا تزال بضائع من سلع ومنتجات زراعية سورية تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات. وعلى سبيل المثال، فان ما يحمله ملايين القادمين من تجار زائرين وعمال من داخل سوريا الى لبنان لا يخضع الى اي مراقبة او حواجز من الجمارك السورية او اللبنانية او لموجبات حماية النتاج اللبناني ولا تخضع الشاحنات مهما كان حجمها لمطالعة جمركية. وفي المقابل، ثمة تشديد صارم عند الجمارك السورية على ما يحمله المسافر، سورياً كان او لبنانيا، من لبنان الى سوريا. وهكذا استطاعت البضائع السورية الرخيصة عبر السنين ان تطرد البضائع اللبنانية وتحل محلها في السوق اللبنانية. (بقيمة تراوح بين مائة مليون و300 مليون سنويا ونحو 4 مليارات دولار خلال 15 سنة). (ذكر داغر (ص 146) ان سوريا صدرت الى لبنان بقيمة 308 ملايين دولار عام 1996، مما يجعل لبنان سوقا مهما لصادرات سوريا. ولا تحتوي هذه الارقام الحركة العشوائية للبضائع في اتجاه واحد عبر الحدود. من هنا تبرز اهمية السوق اللبنانية التي تجعل فكرة قفل سوريا لحدودها مع لبنان ضد المصلحة السورية).
التقليل من الاثر الاقتصادي للوجود السوري
رغم شجاعة الرئيس الاسد في الاعتراف بـ"اخطاء ارتكبت على الساحة اللبنانية"، الا انه ترك هذه الجملة يتيمة بدون تفاصيل وخصص مقاطع كاملة تشرح بأن ما يقصده هو العكس: فالسوري مخلص وبريء ولكن مكر اللبنانيين وفسادهم هو الذي افسد دوره وحرّفه عن اهدافه القومية الشريفة، واوقعه في حبائل اللعبة اللبنانية حيث قال الرئيس الاسد: "هذا الكلام لا يعني ان ممارستنا في لبنان كانت صوابا كلها بل لا بد من الاعتراف بكل وضوح وشفافية ان ثمة اخطاء ارتكبت على الساحة اللبنانية حيث دخلنا في بعض التفاصيل والاجراءات واندفعنا في بعض الاحيان بعلاقتنا مع بعض اللبنانيين على حساب البعض الآخر". وفي فقرة اخرى قال: "كما ان استغلال البعض لوجود القوات السورية لاعتبارات مصلحية ضيقة ماديا او سياسيا او انتخابيا او غيرها ادى الى الكثير من التراكمات السلبية".
بهذا المنطق لم يفرق الاسد بين سوء نية اللبنانيين وحسن نية السوريين فحسب، بل انه قلل من الاثر الاقتصادي للوجود السوري على تراجع انتاجية الاقتصاد اللبناني بعدم سرده لاخطاء سوريا.
فلم يذكر مثلا ان سوريا تدخلت عبر اجهزتها الامنية وعبر "مكتب عنجر" وفروعه في المحافظات في كل شاردة وواردة في لبنان، وفي التعيينات والتوظيف وسن القوانين والانتخابات، وفرض الخوات، وعقد الصفقات المالية، واعطاء صبغة للخارج ان لبنان لا يزال بؤرة توتر بدرجة عالية من المخاطرة السياسية. وان هذا الوجود قد ادى الى تضاؤل نسبة النمو والى ناتج خسره لبنان يقدر بتسعة مليارات دولار منذ عام 1993 (انظر الجدول). فقد زاد الوجود السوري في تكلفة المخاطرة السياسية في الاقتصاد اللبناني مما انعكس سلبا على المستثمر، لبنانيا مقيما او مغتربا او عربيا او غربيا.
وهكذا بلغت خسائر لبنان المقدرة من الوجود السوري منذ عام 1992 وحتى اليوم 20 مليار دولار (وهو رقم محافظ) في مقابل انفاق عسكري وأمني سوري في لبنان بلغ مليار دولار في الفترة عينها.
تهديد الاستقرار الاقتصادي والسياسي
لطالما قال الرئيس الاسد انه يفضل علاقة بين دولة ودولة في لبنان لدى ممانعته محاورة فئات لبنانية. ولكنه في الفقرات التالية من خطابه بدا وانه يستبدل وجوده العسكري بتدخل سوري اخطر منه عبر دعم فئات لبنانية كثيرة، وعبر تصنيف اللبنانيين بين مرتهن لاسرائيل والغرب وبين حليف لسوريا مخلص للقضية القومية حيث قال:
"انسحاب سوريا من لبنان لا يعني غياب الدور السوري فهذا دور تحكمه عوامل كثيرة جغرافية وسياسية وغيرها، وبالعكس تماما نكون اكثر حرية واكثر انطلاقا في التعامل مع لبنان. طبعا هذه الصورة يجب ان نعرف انها جزء طبيعي من تاريخ لبنان وهي موجودة منذ اكثر من مئتي عام. هناك دائما قوى تمد يدها الى الخارج وقوى وطنية وهذه القوى فشلت مرات عدة، في 1958 فشلت في جعل لبنان جزءا من حلف بغداد، وفشلت في العام 1969 ان تضرب المقاومة الفلسطينية، وفشلت في العام 1983 ان تعطي الحياة لاتفاق 17 ايار وستفشل في كل مرة طالما ان هناك قوى وطنية. وهذا الكلام يدفعني لتأكيد حقيقتين اساسيتين، الحقيقة الاولى التي اكدتها مرارا هي ان لا مصلحة لنا في لبنان عندما يفتتح سوق الحسابات الرخيصة والمصالح الضيقة.
ان كل ذلك لن يعني تخلي سوريا عن مسؤولياتها تجاه الاخوة والاصدقاء في لبنان الذين جمعتنا واياهم وحدة الهدف والارادة في لحظات حرجة من تاريخنا بل ستبقى سوريا حصنهم ومرجعهم ودائما لهم في كل الاوقات وستبقى معارك الشرف التي خضناها معا رمزا للتلاحم المصيري بيننا والذي سيتعزز في المستقبل بعون الله، واقول لهم ان "17 ايار" جديدا يلوح في الافق فاستعدوا لمعركة اسقاطه كما فعلتم قبل عقدين ونيف".
هذه الفقرات المؤسفة كان على الاسد استبدالها بعبارات يطلب فيها من حلفاء سوريا في لبنان ان يدعموا السلم الاهلي ويساعدوا بلدهم لا ان يوحي لهم بالاستعداد الذي افرز الساحة اللبنانية وجعلها صعبة التوحد على هدف الاستقلال والسيادة. فما ان تلفظ بعبارة "17 ايار" حتى خرج هؤلاء الى الشارع وبدأوا باطلاق خطابات نارية حول "تكسير الرؤوس" وعبارات التخوين واقتحام ساحة ساسين واطلاق العيارات النارية وابراز السلاح في اماكن عدة (يذكرنا بعادة بث كلمة السر في الخطابات العربية). فأين هو الدور المشرف الذي يتولاه الرئيس السوري في مواصلة دعم هدوء لبنان واستقراره؟
ثم ان تصوير لبنان وكأنه بؤرة حروب اهلية ومشكلات منذ مائتي سنة ينقصه الدقة التاريخية: ان سوريا كانت مسرحا ايضا لحرب اهلية عام 1860 كما كان جبل لبنان حيث كانت محاولة تصفية سكان دمشق من الروم الارثوذكس سببا مباشرا للتدخل الغربي ولمساعي الامير عبد القادر الجزائري. وان التركيبة الاجتماعية السورية لا تختلف كثيرا عن لبنان وقد تعاني الضحالة عينها في عقدها الاجتماعي من دون الخوض في التفاصيل. وان ازمة 1958 في لبنان كانت في بعض اوجهها محاولة سورية لضم لبنان الى الجمهورية العربية المتحدة بقيادة مصر، وكان للمخابرات السورية وعبد الحميد السراج الدور الكبير في التخريب وتوزيع السلاح آنذاك (وسوريا كانت مجرد محافظة) في دولة عبد الناصر – الاقليم الشمالي). وان دور المقاومة الفلسطينية في لبنان منذ عام 1969 لم يكن مشرفا حيث ادت تداعياته الى تدمير لبنان وبناء دولة داخل دولة (تصريح ياسر عرفات مرارا انه كان يحكم لبنان من الفاكهاني).
وهنا نستغرب عدم القيام بمراجعة دقيقة للخطاب من خبراء واكاديميين سوريين قبل ان يلقيه الاسد، فيكون بذلك قد شوه الحقائق التاريخية لخدمة هدف سياسي!
اهمال الوضع الاقتصادي والاجتماعي في سوريا
منذ القانون رقم 10 عام 1991 الذي وعد بانفتاح اقتصادي وبجو استثماري مشجع (جاء مباشرة بعد انهيار النموذج السوفياتي في الاقتصاد الموجه) والشعب السوري الصابر ينتظر الاصلاحات والحريات وانهاء حكم الحزب الواحد والنظام العسكري المستمر منذ 1963. ولقد فوت الرئيس الاسد فرصة مهمة في خطابه بأن يطلق عنان الحريات وعندها لكان خرج ملايين السوريين الى الشوارع في دمشق وحلب والقامشلي واللاذقية وحمص وحماه يؤيدونه ويحمون قراراته بأرواحهم ضد الحرس القديم الذي يمنع التقدم ويجد في امتصاص لبنان بديلا من نهضة سوريا. ولكن الرئيس الاسد، وربما تحت ضغوط داخلية اكتفى معتذرا بالقول: "نحن الان في صدد التحضير للمؤتمر القطري المقبل في هذه السنة ونتمنى ان يكون هو القفزة الكبيرة في هذا البلد". اي، انتظروا قرارات حزب البعث الحاكم.
* خبير اقتصادي لبناني مقيم في كندا.