إفعلْ شيئاً لأجلي

ويصف لنا ملف تحقيق جاسوس الإسكندرية أدق خلجاته وإحساساته التي أدلى بها من خلال التحقيق قبل أن يلتف حبل المشنقة حول رقبته. وكان قد تقدم بالتماس إلى الرئيس أنور السادات يطلب تخفيف حكم الإعدام ولم يصل الرد بعد على التماسه الذي كان هو الأمل الأخير له في إنقاذه.

ولأنه عاش كثيراً يحلم بتحقيق هذا الأمل. . فقد بدأ بكتابة مذكراته والتي اتسمت بالسرد الدقيق والوصف الرائع لكل جوانب حياته. صفحات بلغت أكثر من مائتي صفحة تحمل مشاعر جاسوس خائن . . اعتقد أن الحب كان السبب الرئيسي في وقوعه في جبّ الجاسوسية العميق المظلم.
يقول الجاسوس:

في زنزانتي الرطبة الضيقة .. أنام يقظاً مع انسحاب الشمس وأصحو مع أول خيوطها. وما بين النوم واليقظة ترتعش حواليّ كل الصور .. وترهبني خطوات السجانين طوال الليل. . فأظل أنصت مرعوباً وهي تقترب فأحس باقتراب الموت .. وتبتعد فأتنهد. . ثم يتملكني الهلع. وهكذا كنت لا أنام ولا أهدأ . . أتخيل وجه نوسة الرائع وهي بين أحضاني . .أرتشف من أنوثتها لذاذات جميلة .. وأحسوا شراباً مسكراً ومعتقاً .. وأعيش معها أجمل لحظات عمري نخوض معاً بحور المتعة .. ونجوب نبحث عن مشتقات أخرى للنشوة تغتال فينا الملل والكآبة ..

ولم تكد تمر عدة أشهر . . إلا وخطبت نوسة فجأة وانشغل تليفونها عني في المساء، فجن جنوني وأقسمت أن أفوز بها ولا أتركها لغيري بعدما أدمنتها. . لكنها كانت تتهرب من لقائي وجنوني. . وتملكني الشعور القاتم بالهزيمة وأنا أضرب رأسي بيدي وأرتجف غضباً وأردد: "أيتها المومس الحقيرة .. أحبك . . أحبك بوجهك الطفولي البريء وصوتك الساحر . . أحبك وأنت تصعدين ورائي إلى الطابق الخامس في شارع "الجلاء" ترتدين زي المدرسة وتحملين حقيبتك .. وتنشدين ما يكفيك من النشوة لعدة أيام قادمة .. أحبك يا عاهرة كاذبة . . ولن أنسى يوم خطبتك لهذا المغفل الذي نزف عليك مئات الجنيهات كما نزفت أنا معك رجولتي".

يومها . . طلبت مني والدتي أن أقرأ عليها عدة صفحات من رواية عاطفية . . فجلست أقرأ لا أدري أي سطور قرأت وقد اختنق صوتي وتلجلج لساني . . وبكيت بكاء الضائع الذي فقد الطريق والأمان.

ثلاثة أشهر وعادت نوسة ذليلة يغشاها انكسار الهزيمة بعدما فشلت خطبتها .. ولم تمهلني الوقت لأفكر فاستردتني سريعاً واحتوتني من جديد فقلت لها:

لم أكرهك يوماً. . أحبك وإن كنت عاهرة تستأجر.

Ø     قالت : فؤاد – يا فؤادي . . يا حياتي . . اشترني ولا تبخس الثمن سافر وكافح من أجلي . . سافر إلى أي مكان في الدنيا وعد بالثمن.

Ø     قال : عينت في شركة مضارب الإسكندرية بسبعة عشر جنيهاً.

Ø     قالت في يأس: لن نتزوج إذن قبل عشر سنوات.

Ø     أهلك يبالغون في المهر.

Ø     سافر لعام واحد وسأنتظرك . . سافر .. إنه الحل الوحيد لنا.

Ø     لا أملك مصاريف السفر . . أنت تعرفين كل الظروف.

Ø     لم تخبرني أن شقيقتك ستعود عما قريب؟

Ø     نعم .. أرسلت لنا بأخبار عودتها بعد شهر ونصف.

Ø     اقترض منها مبلغاً وخذ مني هذه الإسورة.

Ø     أضافت وأنفاسها تلهب وجهي: إفعلْ شيئاً لأجلي. وسأظل أنتظرك وأنسج ثوب عرسي كما كانت تفعل "بنيلوبي" قديماً.

ومنذ تلك اللحظة . . قررت أن أسعى للسفر خارج مصر. كانت الأبواب مغلقة في وجهي . . وحرب الاستنزاف على أشدها بين مصر وإسرائيل . . وهناك مفاوضات من أجل الهدنة والأمور سيئة وتزداد سوءاً.

 العفن الذي تبرأ منه أهله . . كما تبرأت منه ديدان الأرض.

عادت شقيقتي من الخارج وعندما طلبت منها قرضاً أحالتني إلى زوجها الذي تهكم وسخر مني .. وعندما علم والدي عنفني بشدة .. وأشفقت والدتي على حالي فأعطتني آخر ما تملكه من حلي فلما قبلت يد شقيقتي مرة أخرى وقلت لها أنقذيني من جنوني منحتني سبعة وعشرين جنيهاً. . ولم تمر عدة أيام إلا وكنت أجمل في جيبي تذكرة طائرة إلى بون. . وسافرت إلى ألمانيا الغربية يملؤني إحساس بالمرارة والظلم والضعف.

كانت معي رسالة إلى أحد المعارف في مدينة دوسلدروف شمال بون. . وعندما التقيت به نظر إليّ كمن ينظر إلى كلب أجرب. . حتى صديقته الألمانية كانت تسخر مني وتضحك كأنها ترى بلياتشو برغم أنني لا أعرف كيف أكون مضحكاً فأُضحك الناس. وكنت قد مررت في طريقي بمدينة ساحرة أسمها كولون. .فعقدت العزم على العودة إليها وأغامر علني أوفق بمفردي ورجعت جنوباً حتى كولون الواقعة على نهر الراين الخلاب .. فسحرتني المدينة الأنيقة واستولت على عقلي ..

عثرت على بنسيون رخيص اسمه "فارسبورجر" تديره سيدة بشوش اسمها بيرجيت كلاين كانت تعاملني بلطف . . وبإنجليزية ركيكة شرحت لها ظروفي ورغبتي في العثور على عمل فتأثرت لحالي.. وبعد يومين ذهبت إلى مصنع بويات يمتلكه زوج ابنتها بيتر راينهارد يقع على أطراف المدينة . . وبعد عمل متصل ليل نهار لعدة شهور استطعت أن أجمع خمسة آلاف مارك . . فأرسلت خطابي العاشر إلى نوسة أطمئنها. وبرغم إلحاحي في الرد على رسائلي لم يصلني منها خطاب واحد. . فانتابني قلق شديدة ولم أتمكن من مكالمتها تليفونياً فكتبت إلى صديقي حاتم أطلب منه موافاتي بأخبارها. . وكان الانتظار يقلقني بل ويفتك بأعصابي. .

كانت نوسة رغم الجميلات من حولي هي الأجمل والأرق والأروع ولا تفارق خيالي للحظة وأحلم باليوم الذي يجمعنا .. لذلك . . كنت أعمل بجد وردية ونصفاً وأفرش ورق الكرتون وأنام .. يرفرف خيالها حولي وذكرها يمدني بالقوة ويمنحني الصبر . . وتعلمت كيف أحرم نفسي من أبسط الأشياء لأدخر وأعود إليها مرفوع الرأس . . ولما جاءني الخطاب المنتظر من حاتم ارتعش قلبي لرؤيته. . فما بين سطوره يحدد لي مصيري واتجاهات حياتي .. وملأني شعور غامض بالخوف وأنا أفتح الورقة المطوية .. وزلزلتني المفاجأة التي لم أتوقعها قط: نوسة تزوجت منذ شهرين وانتقلت للإقامة في "الكنج مريوط".

لطمتني العبارة بعنف فأصابني دوار وأطبقت الجدران على أنفاسي . . وأيقنت أنها ضاعت مني إلى الأبد. وأيقنت أيضاً أنها طراز غريب من النساء من الصعب نسيانه. . وعلى امتداد البصر في الخيال والواقع لا أرى سوى وجهها الطفولي البريء ويتجسم أمامي جسدها الأنثوي فأتحسسه:
كان الجليد يتساقط كأنه ندف من القطن الأبيض الناصع في شهر فبراير 1970 والباص يقلني إلى شارع "كلنجهاوس" مشيت وسط الزحام لا أنوي على شيء ودون قصد اتجهت إلى شارع "فينشا".. حيث أضواء الكباريهات تتلألأ متراقصة . . والداعرات يقفن على النواصي يساومن المارة. وما إن عبرت إلى الناصية الأخرى من الشارع متجهاً إلى كباريه "جوتن نخت" الشهير . . قذفت واحدة منهن بنفسها في طريقي فأزحتها بيدي . . ودلفت إلى داخل الكباريه لأول مرة في حياتي. . شربت ورقصت وسكرت .. وبدلاً من الذهاب إلى حجرتي في المصنع، ذهبت إلى بنسيون فارسبورجر.

دهشت السيدة كلاين وطلبت منها ألا تسألني عن أي شيء فسحبتني إلى إحدى الحجرات . .ومنذ ذلك اليوم لم أعد أقيم للأمور وزناً. .

تساوت عندي كل المتناقضات وأحاطتني قتامة من اليأس والاهتزاز . . وتفاعلت بداخلي ثورات من الشك والحزن والكآبة . . وصرت زبوناً دائماً في جوتن نخت، أمر على محل هورست للملابس فأصحب "كريستينا" للعشاء ثم نسهر ونشرب حتى الثمالة .. هي الأخرى وحيدة مثلي هجرت أسرتها في دار مشتات هرباً من ذكرى حبيب غدر بها. وتركت البنسيون وأقمت معها في غرفتها نتعاطى الجنس كالطعام لننسى أننا خدعنا.

وعندما أنفقت آخر مارك كان معي تأففت كريستينا وتملكها الضجر .. فذهبت إلى المصنع مرة أخرى فلم أجد عملاً هناك حاولت أن أجد فرصة عمل بمكان آخر لكن الظروف كانت كلها ضدي. . فعجزت عن الإنفاق على نفسي. . وطردتني كريستينا من شقتها . . ونبهتني السيدة بيرجيت كلاين صاحبة البنسيون لكثرة ديوني ولما عضني الجوع ذهبت إلى الكباريه أطلب عملاً. . أي عمل.

ولأنني زبون معروف لديهم صعد بي أحدهم إلى الطابق العلوي حيث مكتب المدير الفخم . . استقبلني الرجل بحفاوة بعدما اكتشف أنني مصري . . وأخبرني أنه زار مصر منذ عدة سنوات وسألني عنها فقلت له بقرف "زي الزفت". . لقد كنت في حالة نفسية سيئة والجوع ينهش معدتي . . ويطاردني شبح ترحيلي إلى مصر خاوي الوفاض تنوء حقائبي بيأسي وفشلي . .

Ø     وسألني الرجل مرة ثانية: لماذا جئت إلى هنا؟ "يقصد ألمانيا".

Ø     قلت في أسى: الفقر والحب. .

وبعد أن سردت عليه قصة حياتي بإيجاز .. أسف لحالي . . وبصوت به رنة الواثق قال:

Ø     بإمكانك أن تصبح مليونيراً .. المهم أن تكون أكثر ديناميكية وتعاوناً. .

ضحكت في تعجب وسألته:

Ø     مليونيراً؟ كيف وفي جيبي أحد عشر ماركاً ونصف ولا أنطق بالدوتش وإنجليزيتي مهترئة .. كيف؟

ترك جوتل هاوزن مقعده خلف المكتب وجلس قبالتي يفرك يديه وقال:

Ø     نشأت مغامراً شجاعاً أكره الخوف والجبناء .. سنوات قليلة وكنت شريكاً في هذا النادي ثم امتلكته لأنني دست على أشياء كثيرة لكي أحقق طموحاتي .. وأعرف أن الرجل الشرقي عاطفي يخشى المغامرة ومقيد بتقاليد وأعراف.

Ø     سيد هاوزن أنا مستعد لأية مغامرة تنتشلني من الفقر والضياع.

Ø     إذن . . إنس أنك مصري . . مسلم .. وتذكر فقط أنك هنا . . في ألمانيا الغربية . . في أوروبا.

Ø     سأنسى .. لا أريد أن أتذكر هذا الماضي اللعين .. أريد أن أكون إنساناً آخر.

ضغط الرجل على زر فجاءت فتاة رائعة مثيرة والتفت إلى قائلاً:

Ø     هذه سيلفيا . . من الآن سترافقها في سفرها إلى ألمانيا الشرقية لبعض الأعمال التجارية.

ابتسمت سيلفيا ونظرت إليهما في بلاهة .. وعندما أوشكت على سؤاله عن عملي الجديد أصدر أوامره إلى سيلفيا بأن تدفع حساب البنسيون وتصحبني إلى شقتها. .

وقام إلى مكتبه وعد بعض النقود وناولها لي قائلاً:

Ø     هذه لك .. وللعمل حساب آخر.

وبينما كان يسلم نقوداً أخرى لسيلفيا أدركت أن المبلغ ألف مارك .. فدارت الأسئلة في خيالي وتساءلت بيني وبين نفسي: "ماذا سأعمل بالضبط؟"

وقررت أن أغامر وألا أستسلم أبداً مهما كانت المصاعب . . وأفقت على يد سيلفيا تجذبني فمشيت وراءها. . وبدأ منذ ذلك الحين أولى خطواتي على الطريق المجهول . . والذي في نهايته كانت تنتظرني المشنقة.