المماليك وتحرير بيروت نهائياً من الصليبيين
22 رجب 690هـ/23 تموز 1291م
بدأ حكم الدولة المملوكية سنة 658هـ/1260م، وبيروت لا تزال تحت سيطرة الاحتلال الصليبي. وكان هدف السلطان الظاهر بيبرس (1) تحرير بيروت والمدن الإسلامية الساحلية، لذلك شرع في أتباع خطة معرفة أخبار الصليبيين وكشف أحوالهم، خاصة في بيروت وصيدا، قبل محاربتهم والقضاء عليهم. وقد عاونه في ذلك أمراء الغرب، مثل الأمير زين الدين صالح بن علي والأمير جمال الدين حجي، فضلاً عن أحد أعوانه بدر الدين بن رحال. وقد خشي حكَّام بيروت الصليبيون من هذا الأمر، فعقدوا هدنة مع المماليك.
هدنة 667هـ/1269م بين ملكة بيروت وسلطان المماليك
كانت إيزابيلا الابنة الكبرى للملك جان دي أبلن الثاني، وقد خلفته بعد وفاته وأصبحت ملكة بيروت (662-680هـ/1264-1282م). وكان يساعدها في حكم مدينة بيروت نفسها همفري دي مونتفرت، زوج أختها آشيف، والذي عُرف بـ{صاحب بيروت{. وقد خشي حكَّام بيروت من أمراء الغرب المسلمين الذين يحكمون القرى الجبلية حولها. وأبرز ما فعله صاحب بيروت همفري دي مونتفرت، أنه وهب شكارة العمروسية إلى أمير الغرب، مقابل أتفاق، ذكره صالح بن يحيى بقوله: {من مضمون كتاب بوهبة شكارة العمروسية من همفري دي مونتفرت الفرنجي صاحب بيروت، وهو أنه قد وهب شكارة بذارها عرارة ينصبها كرم، بشرط لا يبيعها ولا يوهبها، ومتى فعل ذلك رجع عن وهبته. ومن شروطه مساعدته لصحوبيته، وأن لا يخلي في بلاده هارب من بلد بيروت إلا وبرده صلحاً أو بغيره، وأن لا يمكنه من الإقامة أزيد عن ثمانية أيام، ولا يمكن أحد من بلاده يفسد في بلد بيروت، أعني الساحل، لأن بلد بيروت كان في ذلك الوقت جباله للمسلمين والساحل للفرنج}. انتهى صالح بن يحي.
والحقيقة أن انتصارات المماليك حطمت معنويات الصليبيين، وخاصة بعد تحرير أنطاكية سنة 666هـ/1268م، بدليل أن بعض القوى الصليبية سارعت إلى عقد هدنة مع السلطان بيبرس، على أساس مبدأ المناصفة أو المشاركة معه في غلاَّت بلادهم ومنتجاتها. ولعل من أطرفها تلك الهدنة، التي أبرمت بين الظاهر بيبرس سلطان المماليك وبين ملكة بيروت إيزابيلا (Isabella)، التي تطلق عليها المراجع العربية أسم الدبونة، وهو تعريب لأسم البيت الحاكم في بيروت {دي أبلن}. وقد وقَّعت الهدنة بينهما سنة 667هـ/1269م، ولمدة عشر سنوات، وهذا هو نص الهدنة كما ذكره القلقشندي: {استقرت الهدنة المباركة بين السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وبين الملكة الجليلة المصونة الفاخرة، فلانة بنت فلان، مالكة بيروت وجميع جبالها وبلادها التحتية مدة عشر سنين متوالية، أولها يوم الخميس سادس رمضان سنة سبع وستين وستمائة، على بيروت وأعمالها المضافة إليها، الجاري عادتهم في التصرف فيها في أيام الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وأيام ولده الملك المعظَّم عيسى، وأيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز. والقاعدة المستقرة في زمنهم إلى آخر الأيام الظاهرية بمقتضى الهدنة الظاهرية. وذلك مدينة بيروت وأماكنها المضافة إليها، من حد بلاد جبيل شمالاً، إلى حد صيدا جنوباً وهي المواضع الآتي ذكرها: جونية بحدودها، والعزب بحدودها، والعصفورية بحدودها، والرواق بحدودها وسن الفيل بحدودها والرح والشويف بحدودها وأنطلياس بحدودها والجديدة بحدودها، وحسوس بحدودها، والبُشرية بحدودها، والدكوانة وبرج قراجار بحدودها، وقرينة بحدودها، والنصرانية بحدودها، وخَلدا بحدودها، والناعمة بحدودها، ورأس الفقيه، والوطاء المعروف بمدينة بيروت، وجميع ما في هذه الأماكن من الرعايا والتجار، ومن سائر أصناف الناس أجمعين، والصادرين منها، والواردين إليها من جميع أجناس الناس، والمترددين إلى بلاد السلطان بيبرس وهي:
الحميرة وأعمالها وقلاعها وبلادها وكل ما هو مختص بها، والمملكة الأنطاكية وقلاعها وبلادها، وجبلة واللاذقية وقلاعها وبلادها، وحمص المحروسة وقلاعها وبلادها وما هو مختص بها، ومملكة حصن عكا وما هو منسوب إليه، والمملكة الحموية وقلاعها وبلادها وما هو مختص بها، والمملكة الرحبية وما هو مختص بها من قلاعها وبلادها، والمملكة البعلبكية وما هو مختص بها من قلاعها وبلادها، والمملكة الدمشقية وما هو مختص بها من قلاعها وبلادها ورعاياها، والمملكة الشقيفية وما هو يختص بها من قلاعها وبلادها ورعاياها، والمملكة القدسية وما هو مختص بها من قلاعها وبلادها، والمملكة الحلبية وما هو مختص بها من قلاعها وبلادها، والمملكة الكركية والشوبكية وما هو مختص بها من القلاع والبلاد والرعايا، والمملكة النابلسية، والمملكة الصرخدية، ومملكة الديار المصرية جميعها بثغورها وحصونها وممالكها وبلادها وسواحلها وبرها وبحرها ورعاياها وما يختص بها، والساكنين في جميع هذه الممالك المذكورة، وما لم يذكر من ممالك السلطان وبلاده، وما سيفتحه الله تعالى على يده ويد نوابه وغلمانه، يكون داخلاً في هذه الهدنة المباركة، ومنتظماً في جملة شروطها، ويكون جميع المترددين من هذه البلاد وإليها آمنين مطمئنين على نفوسهم وأموالهم وبضائعهم، من الملكة فلانة وغلمانها، وجميع من هو في حكمها وطاعتها، بحراً وبراً، ليلاً ونهاراً، ومن مراكبها وشوانيها. وكذلك رعية الملكة فلانة وغلمانها يكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم وبضائعهم من السلطان ومن جميع نوابه وغلمانه ومن هو تحت حكمه وطاعته: براً وبحراً، ليلاً ونهاراً، في جبلة واللاذقية، وجميع بلاد السلطان ومن مراكبه وشوانيه.
وعلى أن لا يجدد على أحد من التجار المترددين رسم لم تجر به عادة، بل يجرون على العوائد المستمرة، والقواعد المستقرة من الجهتين. وإن عدم لأحد من الجانبين مال أو أخذت أخيذة، وصحت في الجهة الأخرى، ردت أن كانت موجودة، أو قيمتها إن كانت مفقودة. وإن خفي أمرها كانت المدة للكشف أربعين يوماً، فإن وجدت ردت، وإن لم توجد حلّف والي تلك الولاية المدعى عليه، وحلّف ثلاثة نفر ممن يختارهم المدعي، وبرثت جهته من تلك الدعوى. فإن أبى المدعى عليه عن اليمين، حلّف الوالي المدعي وأخذ ما يدعيه. وإن قتل أحد من الجانبين خطأ كان أو عمداً، كان على القاتل في جهته العوض عن نظيره، فارس بفارس، وراجل براجل، وفلاح بفلاح. وإن هرب أحد من الجانبين إلى الجانب الآخر بمال لغيره، رد من الجهتين هو والمال، ولا يعتذر بعذر.
وعلى أنه إن صدر فرنجي من بيروت إلى بلاد السلطان، يكون داخلاً في الهدنة، وإن عاد إلى غيرها لا يكون داخلاً في هذه الهدنة.
وعلى أن الملكة فلانة لا تمكن أحداً من الفرنج على إختلافهم من قصد بلاد السلطان من جهة بيروت وبلادها، وتمنع من ذلك وتدفع كل متطرق بسوء، وتكون البلاد من الجهتين محفوظة من المتجرمين المفسدين.
وبذلك انعقدت الهدنة للسلطان، وتقرر العمل بهذه الهدنة والالتزام بعهودها والوفاء بها إلى آخر مدتها من الجهتين، لا ينقضها مرور الزمان، ولا يغير شروطها حين ولا أوان، ولا تنقض بموت أحد الجانبين.
وعند انقضاء الهدنة تكون التجار آمنين من الجهتين مدة أربعين يوماً، ولا يمنع أحد منهم من العودة إلى مستقره، وبذلك شمل هذه الهدنة المباركة الخط الشريف حجة فيها، والله الموفق في التاريخ كذا}. إنتهي القلقشندي.
ويتبين لنا من نصوص الهدنة، حدود مملكة بيروت ونواحيها التي تمتد من جبيل شمالاً إلى صيدا جنوباً، كما يتبيَّن لنا أن معظم أسماء مدن وأحياء مملكة بيروت ما زالت باقية إلى يومنا هذا مثل: جونية والعصفورية وسن الفيل و أنطلياس والجديدة والبوشرية والدكوانة وخلدة والناعمة ... وبعد ثلاث سنوات من عقد الهدنة تزوجت ملكة بيروت إيزابيلا من هامو الغريب (Hamo L’Estrange) سنة 670هـ/1272م والذي أوصى قبل وفاته بوضع زوجته ومملكة بيروت تحت حماية السلطان بيبرس، وذلك خشية مطامع هيو الثالث، ملك قبرص. وصارت ملكة بيروت كلما سافرت إلى قبرص، تذهب إلى لقاء السلطان بيبرس، وتترك مملكتها وديعة بين يديه إلى حين عودتها.
وأقدم هيو الثالث على خطف إيزابيلا بعد وفاة زوجها سنة 671هـ/1273م، كي يزوِّجها في قبرص من الشخص الذي يختاره لها، ليستغلها كوريثة لعرش قبرص في تنفيذ مشاريعه الصليبية في الشرق {ذلك أن إيزابيلا تزوجت وهي طفلة من ملك قبرص هيو الثاني الذي مات قبل أن يعقد عليها}.
ولكن السلطان بيبرس أحتج على هذا العمل، وهدَّد بضرورة تنفيذ وصية هامو زوج إيزابيلا، فأضطر الملك هيو الثالث أن يعيد إيزابيلا إلى بيروت، حيث اتخذت لنفسها حرساً من المماليك. وهذا الأمر يؤكد سلطة المماليك التي أخذت تقوى شيئاً فشيئاً، على الصليبيين المحتلين للسواحل الإسلامية، وخاصة في بيروت التي استمرت الملكة إيزابيلا تحكمها حتى وفاتها سنة 680هـ/1282م تاركة حكمها إلى أختها آشيف.
وسنة 684هـ/1285م وقَّع السلطان المنصور قلاوون (2) هدنة مماثلة، مع أميرة صور مرغريت، ومدتها عشر سنوات وعشرة أشهر وعشرة أيام. وتعهدت بموجبها بعدم بناء تحصينات جديدة في إمارتها، كما تعهدت بالوقوف على الحياد في الصراع بين السلطان والصليبيين، مقابل عدم تعرض المماليك لإمارة صور. كما حرَّر قلاوون مدينة طرابلس سنة 688هـ/1289م، وبقيت بيروت تحت حكم أسرة دي أبلن، حتى أستطاع السلطان الأشرف خليل بن قلاوون تحريرها من الصليبيين.
(1) بيبرس من أصل تركي ولد في صحراء القبجاق سنة (620هـ= 1223م) ووقع في أسر المغول وهو في الرابعة عشرة من عمره، وبيع في أسوق الرقيق بدمشق، فاشتراه الأمير علاء الدين إيدكين الصالحي البُنْدقداري، فسمي "بيبرس البندقداري" نسبة إليه، ثم انتقل إلى خدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأعتقه وجعله من جملة مماليكه، ثم ولاه رئاسة إحدى فرق حرسه الخاصة، ثم رقاه قائدًا لفرقة المماليك لما رأى من شجاعته وفروسيته. ولما تخلص الملك عز الدين أيبك من غريمة ومنافسه "فارس الدين أقطاي" زعيم المماليك البحرية، فر بيبرس ومن معه من المماليك بلاد الشام، وظل متنقلا بين دمشق والكرك حتى تولى سيف الدين قطز الحكم سنة (658هـ-1260م) فبعث إليه يطلب منه الأمان والعودة إلى مصر، فأجابه إلى طلبه، وأحسن استقباله وأنزله دار الوزارة وأقطعه قليوب وما حولها. واشترك مع قطز في معركة عين جالوت سنة (658هـ= 1260م) وأبلى فيها بلاء حسنًا، وكان من أبطالها المعدودين. وبدلا من أن تسمو روح الجهاد بنفسه وتصبغ قلبه بالسماحة واللطف، تطلعت نفسه إلى السلطة والميل إلى الثأر، فامتلأ فؤاده بالحقد من صديقه القديم السلطان سيف الدين قطز، وحمل في نفسه رفض قطز إعطاءه ولاية حلب وعد ذلك انتقاصًا من قدره وهضمًا لدوره في عين جالوت، ووجد من زملائه من يزيده اشتعالا فدبر معهم مؤامرة للتخلص من السلطان وهو في طريقه إلى القاهرة، وكان لهم ما أرادوا وجلس القاتل على عرش مصر قبل أن يجف دم السلطان المقتول، ودون أن يجد أحد من أمراء المماليك غضاضة في ذلك، وتلقب السلطان الجديد بالملك الظاهر.
(2) المنصور قلاوون 678-689هـ/1279-1279م، تسلّم السلطنة في 22 رجب سنة 678هـ/1279م كان الأمير سيف الدين قلاوون أحد المماليك البحرية، اشتراه الأمير علاء الدين آقسنقر بألف دينار، فعُرف قلاوون بالألفي، ولما توفي الأمير علاء الدين انتقل إلى خدمة الملك الصالح أيوب، ثم أهّلته مواهبه وملكاته لأن يبرز على الساحة في الفترة التي خرجت فيها دولة المماليك البحرية إلى الوجود، ولمع في عهد السلطان الظاهر بيبرس الذي أولاه ثقته؛ لرجاحة عقله وشجاعته، وتصاهرا؛ حيث تزوج بركة خان بن السلطان بيبرس من ابنة قلاوون؛ تأكيدًا على روح المحبة والصداقة بينهما. ولما ساءت سلطنة بركة خان وفشل في القيام بأعباء الحكم لخفته ورعونته وسوء تصرفه أجبره الأمراء على خلع نفسه من الحكم، وكان لقلاوون يد ظاهرة في هذا الخلع، وتطلع إلى الحكم وهو به جدير، لكنه انتظر الفرصة المناسبة ليثب على الحكم دون أن ينازعه أحد، فلما وافته الفرصة اقتنصها وعزل السلطان الصغير، وتولى هو الحكم في (رجب 678هـ= نوفمبر 1279م) وبايعه الأمراء وأرباب الدولة، وتلقب بالملك المنصور. وأجمع المؤخرون على وصف السلطان قلاوون بأطيب الصفات وأنبلها. ولعل من أبلغ هذه الأوصاف ما قاله بيبرس المنصوري: "كان حليمًا عفيفًا في سفك الدماء، مقتصدًا في العقاب، كارهًا للأذى".غير أن قلاوون لم يسلم من اعتراض كبار أمراء المماليك على توليه الحكم، وكان بعضهم يرى نفسه أحق بالسلطنة منه، فهم على درجات متقاربة من القوة والنفوذ، لكن قلاوون نجح بالقوة أحيانًا وبالسياسة أحيانًا أخرى في أن يمسك بزمام الأمور، ويقضي على الثورات التي قامت في وجهه. ونجح قلاوون في استمالة قلوب الناس إليه، لرأفته ولينه، وميله إلى رفع ما يزيد من معاناتهم، فألغى كثيرًا من الضرائب التي كانت تُفرض على الناس، وأبطل كثيرًا من المظالم التي عانى الشعب منها.