الخطأ بعد الخطأ

سمير قصير

 الصحافيون الاجانب المخضرمون الذين يتدافعون الى دمشق مع اقتراب موعد مؤتمر حزب البعث، سيجدون بالتأكيد ان الكثير تغيّر في سوريا بالقياس مع عهد حافظ الاسد، وخصوصاً لجهة حرية التعبير. لكن المقارنة لم تعد وسيلة مقبولة لتقويم السياسة السورية بعد نحو خمسة اعوام على اعتلاء بشار الاسد سدة الرئاسة بالتوريث. فمن يتابع انباء سوريا بشكل متواصل لا يمكن ان يعنيه، بعد مرور كل هذه الاعوام، ان عدد المعتقلين السياسيين ادنى بكثير مما كان قبل عقد من الزمن. وما يعنيه في منتصف سنة 2005 هو ان هذا العدد عاد الى التزايد، وبإرادة القيمين الحاليين على الحكم وعلى رأسهم بشار الاسد. وما يعنيه أيضاً في منتصف سنة 2005 هو ان القيمين الحاليين على الحكم لا يزالون يرفضون فتح باب الحوار الوطني مع معارضيهم والمصالحة مع مجتمعهم.

وكأنه لا يكفيه بقاء النائبين رياض سيف ومأمون الحمصي في السجن، فضلاً عن عارف دليلة ورفاقه من الناشطين في المجتمع المدني. فها هو حكم بشار الاسد يطبق على منتدى جمال الاتاسي، ويعتقل رئيسته واعضاء مجلس ادارته. للتذكير، إن منتدى الاتاسي كان الوحيد المتبقي من المنتديات التي ازدهرت عام 2000 واقفلت تباعاً على يد اجهزة الامن. اما السبب فيكاد يكون اشنع من فعل الاعتقال نفسه، اذ جاء تحرك المخابرات بعد جلسة للمنتدى خصصت للبحث في آفاق العمل السياسي في سوريا، وتخللتها تلاوة رسالة من المرشد العام للاخوان المسلمين (المنفي في لندن) اكد فيها التوجه الحواري والتصالحي للجماعة.

وكنا اعتقدنا ان الحكم السوري استخلص العبر مما جرى له في لبنان، جراء اخطائه المتراكمة، وانه سوف يخرج من الهزيمة التي تلقاها بعزم على انتهاج سياسة توفّر عليه هزيمة اكبر، فيبادر الى تغيير جذري في ادائه يحول دون وقوع مواجهة مع شعبه تكمل ما عاناه في المواجهة مع الشعب اللبناني. وكان تحديد موعد انعقاد مؤتمر حزب البعث في بداية الشهر المقبل والذي اشار اليه الرئيس السوري في خطاب اعلان الانسحاب من لبنان، قد اوحى ان الاصلاح الذي ما برح النظام يتكلم عنه سوف تكون له اخيراً بداية. ولكن عبثاً.

فما تفيده الاعتقالات الاخيرة هو ان الاصلاح عند اهل البعث لا يعني القبول بالرأي المعارض. والتحولات الاقليمية الهائلة، من العراق الى لبنان، لا تدفعهم سوى الى التهويل من الخطر الاميركي، من دون التفكير لحظة بالوسائل الانجع لدرء هذا الخطر.

على العكس تماماً، فإن حكم المتبقي من البعثَين يتصرف في سوريا مثلما تصرف في لبنان، فيراكم الخطأ بعد الخطأ، وينجح في الجمع بين استعداء المواطنين واستفزاز الدول الاوروبية التي كانت تنزع الى لجم الولايات المتحدة. ولعله لم يفت احداً ان الانباء عن اعتقال مسؤولي منتدى الاتاسي تزامنت مع تصريحات رسمية مفادها ان سوريا سوف توقف التعامل الامني مع الولايات المتحدة لعدم جدواه. وفي ترجمة هذه التصريحات، ان الحكم السوري الذي لا ينفك يدين سياسة الولايات المتحدة هو نفسه مستعد لاعطائها ما تشاء شرط ان تثبته في مكانه، فيما لا يقبل مجرد التفكير في اشراك مواطنيه في البحث عن مستقبلهم.

صحيح ان الحكم انعم اخيراً على الرعية بخبر سار، على ما جاء قبل اسبوعين ونيف في جريدة "الثورة" التابعة للنظام البعثي. فقد نقلت الزميلة انه تمّ الغاء الموافقة الأمنية المسبقة بشأن 67 "حالة". الخبر لم يستوقف المراقبين بما فيه الكفاية، وهذا لعمري خطأ ما بعده خطأ، اذ ان اللائحة المنشورة في "الثورة" افضل دليل على التخلف الذي فرضه الطوفان المخابراتي على حياة السوريين العامة وحتى الخاصة.

فمن بين هذه الحالات التي لم تعد تستوجب موافقة امنية مسبقة، بتّ نقل أثاث منازل السوريين والعرب والأجانب المقيمين في القطر إلى خارجه، وقبول الطلاب في الجامعات والمعاهد المتوسطة ومدارس التمريض، والتكليف لتدريس ساعات من خارج الملاك، والإيفاد الداخلي والخارجي (للطلاب) والاستفادة من المقاعد الدراسية في بعض البلدان العربية والأجنبية، وتأسيس الجمعيات السكنية، وتثبيت أعضاء مجالس إدارة الجمعيات، وإقامة معارض فنية أو أسواق تجارية، وتعيين مراقب خط سيارات، وطباعة النايلون للمنشآت الصناعية! هذا بالاضافة الى منح التراخيص لمزاولة بعض المهن او فتح محلات: جليسات الأطفال، مكاتب السياحة والسفر، المكاتب العقارية، مكاتب بيع وشراء وتأجير سيارات، صالات الافراح، السيرك، استديوهات التصوير، صالونات الحلاقة، محلات النوفوتيه، محلات العصرونية، افران الصفيحة والمعجّنات...

فعلاً، تغيّر الكثير في سوريا العهد "الجديد". فاذا كانت حرية الصفيحة والنوفوتيه، تطلبت خمسة أعوام فكم سيتطلب الغاء الموافقة الامنية المسبقة على صنع السياسة؟ ربما اقل بكثير، فتراكم الاخطاء يقصّر المهل، على ما صرنا نعرف في لبنان.

وما كان يفترض بحكم البعث ان يفهمه من لبنان.

عودة لصفحة سمير قصير

عودة لصفحة السلطة الرابعة