ثمانية وعشرون عاماً من الحضور العسكري والامني الطاغي في معظم الاراضي اللبنانية، اربعة عشر عاماً من الهيمنة الكاملة على نظام الحكم في لبنان، اطوار من الترهيب والترغيب، تلاعب بالمؤسسات والناس، قوانين انتخابية على المقاس، تغييب دؤوب للقوى الفاعلة في المجتمع، انتاج طبقة سياسية تدين بوجودها للرعاية السورية فحسب، تدجين للاعلام، وخصوصاً في شقه المرئي والمسموع... كل ذلك كان يبرر الى حين، من وجهة نظر براغماتية ولا سيما بالمقارنة مع تجربة البعث العراقي، مديحاً لنجاح النظام الذي اسسه حافظ الاسد في التحكم بالساحة اللبنانية وتوظيفها خدمةً لديمومته. ولكن، اذ تنتهي دمشق الى اختصار استراتيجيتها بشخص واحد، يضيع النجاح ويسقط التلميذ النجيب في الامتحان . وكأن نظام الاسد المنتقل من الاب الى الابن قد قرر، باختصار خياراته في خيار اوحد، ان يعلن فشله في لبنان. واي فشل: فشل استراتيجي!
وبعد ذلك نجد من يتغنى بذكاء حكام البعث في دمشق وحكمته ورؤاهم الثاقبة!
فأي ذكاء يتغنون به حين يصبح الثبات الاستراتيجي لسوريا مشروطاً ببقاء رجل واحد لا غير في واجهة السلطة اللبنانية؟ واي حكمة يمتدحونها حين لا تعود سوريا قادرة على ادارة لبنان الا عن طريق لَي اذرعة حلفائها؟ واين الرؤية الثاقبة حين تعجز سوريا عن ان تفهم ان استقرارها لم يعد يتأمن بالانفلاش العسكري خارج حدودها بل صار يتطلب، على العكس تماماً، لملمةً لقواتها؟
أليس الاصح ان النظام السوري يقع في فخ خطابيته، ان لم يكن في فخ نصبته له الولايات المتحدة؟
قد يستطيع الحكم السوري ان يبرهن، لمناسبة الانتخابات الرئاسية اللبنانية، او بالاحرى لمناسبة تفريغها من معناها اذا اصر على ابقاء الرئيس الحالي في منصبه، انه لا يزال الآمر الناهي في لبنان. وكأن احداً كان يناقشه على نفوذه الراهن! كل النقاش كان منصباً حول استباقه حتمية ضمور هذا النفوذ من خلال تصحيح للعلاقات الثنائية يمنع من ان تتحول نهاية نظام الهيمنة في لبنان هزيمة لسوريا. والحال ان المطروح امام الحكم البعثي في سوريا ليس امتحان قوته في لبنان بل الاقرار بأن ضعفه الاقليمي يحتم عليه تبديلاً جوهرياً في ادائه على جميع المستويات ومنها المستوى اللبناني.
لكن الحكم البعثي يفضل على ما يبدو ان يتعامى عن حال الانهاك التي بلغها، وان كلفه ذلك الذهاب الى حيث لا تسمح له موازين القوى.
بازاء عوارض فقدان الثقة في النفس التي ينم عنها تخبط الحكم البعثي في دمشق، قد تشاء المفارقة ان يأتي الدواء من بيروت. فالممانعة التي يظهرها الجسم السياسي اللبناني، رغم كل ما ناله في الاعوام الاخيرة، قد تنعكس خيراً على سوريا نفسها اذا نجحت في دفع الحكم البعثي الى مراجعة حساباته.
ولعل هذا ما يضع على كاهل الرئيس رفيق الحريري مسؤولية مضاعفة. فاذا كان رفيق الحريري يملك اليوم ان يتخذ موقفاً تاريخياً في اتجاه استعادة بعض القرار اللبناني المستقل، وفي ما قد يشكل مدخلاً الى اعادة تثبيت الميثاق الوطني، فانه ايضاً من يملك ان يساهم بممانعته هذه في انقاذحكام البعث وإن رغماً عنهم، من الاستمرار في مغامرة لا يقوون عليها.