عندما رجعوا إلى القاهرة استقلوا السيارة إلى الكيلو 108 وغادرت انشراح السيارة وبيدها معول صغير...وظلت تحفر إلى أن أخرجت الجهاز... فنادت على ابنها عادل الذي عاونها وحمله إلى السيارة ملفوفاً في عدة أكياس بلاستيكية... وعندما ذهبوا بالجهاز إلى المنزل أراد ابراهيم تجربته بإرسال أولى برقياته فلم يتمكن من إكمال رسالته.. بعدما تبين له أن مفتاح التشغيل أصيب بعطل (ربما نتيجة الحفر بالمعول).

حزن الجميع... لكن انشراح عرضت السفر لإسرائيل لإحضار مفتاح جديد.. وسافرت بالفعل يوم 26 يوليو 1974 ففوجئ بها أبو يعقوب ودهش لجرأتها... وأراد الاحتفاء بها فأقام حفلاً صاخباً ماجناً على شرفها انتهى بليلة حمراء... فأمتعت جسدها المتعطش لفحولة أبو يعقوب... وأرقها الابتعاد عنه والحرمان من خبراته المذهلة وتفننه في إشباعها، ومنحها مكافأة لها 2500 دولار مع زيادة الراتب للمرة الثالثة إلى 1500 دولار شهرياً (كان مرتب الموظف الجامعي حينذاك حوالي 17 جنيهاً).

وأثناء وجود انشراح في إسرائيل تائهة بين أحضان ضابط الموساد، كانت هناك مفاجأة خطيرة تنتظرها في القاهرة فعندما كان ابراهيم يحاول إرسال أولى برقياته إلى إسرائيل بواسطة الجهاز – استطاعت المخابرات المصرية التقاط ذبذبات الجهاز بواسطة اختراع سوفييتي متطور جداً اسمه (صائد الموجات) وقامت القوات بتمشيط المنطقة بالكامل بحثاً عن هذا الجاسوس. ومع محاولة تجربة الجهاز للمرة الثانية أمكن الوصول لإبراهيم بسهولة.

وفي فجر 5 أغسطس 1974 كانت قوة من جهاز المخابرات المصرية تقف على رأس ابراهيم النائم في سريره. استيقظ مذعوراً وفي الحال دون أن توجه إليه كلمة واحدة في هلع:

أنا غلطان ... أنا ندمان .. الجوع كان السبب ... النكسة كانت السبب... اليهود جوعوني واشتروني بالدقيق والشاي.

ولما فتشوا البيت عثروا على جهاز اللاسلكي ونوتة الشفرة... والتزم ابراهيم الصمت... وكان بدنه كله يرتجف... سحبوه في هدوء للتحقيق معه في مبنى المخابرات العامة، بينما بقيت قوة من رجال المخابرات في المنزل مع أولاده الثلاثة تنتظر وصول انشراح، تأكل وتشرب وتنام دون أن يحس بهم أحد.

وعلى طائرة أليطاليا رحلة 791 في 24 أغسطس 1974، وصلت انشراح إلى مطار القاهرة الدولي قادمة من روما بعد شهر كامل بعيداً عن مصر، تدفع أمامها عربة تزدحم بحقائب الملابس والهدايا، ونظرت حولها تبحث عن زوجها فلم تجده، فاستقلت تاكسياً إلى المنزل وهي في قمة الغيظ... وعندما همت بفتح الباب اقشعر جسدها فجأة، فدفعت بالباب لا تكترث... لكنها وقفت بلا حراك... وبالت على نفسها عندما تقدم أحدهم... وأمسك بحقيبة يدها وأخرج منها مفتاحين للجهاز اللاسلكي بدلاً من مفتاح واحد. وكانت بالحقيبة عدة آلاف من الدولارات دسها الضابط كما كانت .. وتناول القيد الحديدي من زميله وانخرست الكلمات على لسانها فكانت تتمتم وتهذي بكلمات غير مفهومة ... وقادوها مع ولديها إلى مبنى المخابرات وهناك جرى التحقيق مع الأسرة كلها.

ولما كانت المخابرات الإسرائيلية لا تعلم بأمر القبض على أسرة الجواسيس... وتنتظر في ذات الوقت الرسالة التي سيبعث بها ابراهيم ليطمئنوا على كفاءة عمل الجهاز ... فوجئت الموساد بالرسالة.. لم تكن بالطبع من ابراهيم بل أرسلتها المخابرات المصرية.

"أوقفوا رسائلكم مساء كل أحد... لقد سقط جاسوسكم وزوجته وأولاده، وقد وصلتنا آخر رسائلكم بالجهاز في الساعة السابعة مساء الأربعاء الماضي".

وفي 25 نوفمبر 1974 صدر الحكم بإعدام انشراح وزوجها شنقاً، والسجن 5 سنوات للابن نبيل وتحويل محمد وعادل لمحكمة الأحداث.

وفي 16 يناير 1977 سيق ابراهيم إلى سجن الاستئناف بالقاهرة لتنفيذ الحكم، كان لا يقو على المشي... وإلى حجرة الاعدام كان يجره اثنان من الجنود وساقاه تزحفان خلفه بينما هو يضحك في هستيريا ثم يبكي... وبعدما تيقن من أنه سوف يُعدم أخذ يردد آيات من القرآن الكريم بكلمات غير مفهومة ثم صاح في انهيار: سامحني يا رب... وتلا عليه مأمور السجن منطوق الحكم .. ثم ردد الشهادتين وراء واعظ السجن ... عندئذ عرضوا عليه آخر طلب له قبل إعدامه فطلب سيجارة.. وبعد أن انتهى من تدخينها جروه جراً إلى داخل غرفة الإعدام ... فقام عشماوي بتقييد يديه خلف ظهره... ثم ألبسه الكيس الأسود ووضع الحبل في رقبته ... وشد ذراعاً فانفتحت طاقة جهنم تحت قدميه... وظل الجسد معلقاً في الهواء يتأرجح إلى أن همد وسكن... واستمر النبض ثلاث دقائق وعشر ثوان بعد التنفيذ ... حتى أعلن طبيب السجن وفاة الجاسوس الذي ظل يتعامل مع الموساد طوال سبع سنوات.

أما انشراح فقد ترددت الأنباء في حينها عن شنقها هي الأخرى .. ولكن في 26 نوفمبر 1989 نشرت صحيفة "حداشوت" الاسرائيلية قصة تجسس ابراهيم على صفحاتها الأولى ... وذكرت الصحيفة أن ضغوطاً مورست على الرئيس السادات لتأجيل إعدام انشراح بأمر شخصي منه... ثم أصدر بعد ذلك عفواً رئاسياً عنها .. وتمكنت انشراح (في صفقة لم تعلن عن تفاصيلها) من دخول اسرائيل مع أولادها الثلاثة... حيث حصلوا جميعاً على الجنسية الاسرائلية واعتنقوا الديانة اليهودية.. وبدلوا اسم شاهين إلى (بن ديفيد) واسم انشراح إلى (دينا بن ديفيد) وعادل إلى (رافي) ونبيل إلى (يوسي) ومحمد إلى (حاييم) ... !!!

رافي بن ديفيد

(1) وعن اللحظات الأخيرة التي وضعت نهاية أسرة الجواسيس... يقول أصغر الأبناء – عادل – في حديثه لصحيفة معاريف الاسرائيلية :

Ø     بعد حرب 73 قرر والدي نهائياً أن تكون هذه هي السنة الأخيرة لهم في أعمال التجسس. وكانت الخطة تقضي ببيع البيت والممتلكات والسفر للولايات المتحدة .. وأنا كفتى في الخامسة عشرة من عمره آنذاك فكرت قطعاً في المستقبل .. ووعدني والدي بإرسالي للدراسة في أفضل كلية هناك. وبعد ان اتخذوا قراراً بأن تكون هذه هي السنة الأخيرة لنا في مصر شعرنا أننا أكثر راحة وأزيح حجر ثقيل من على صدورنا. لكن كان هناك حادثان في تلك السنة هزا ثقتنا. فقد أراد والدي تجنيد شقيقه أيضاً. وأتذكر النقاشات التي دارت بين أمي وأبي حول ذلك... فقد خافت أمي من أن يسلمنا شقيق والدي .. وحتى اليوم لست أعرف هل عرف بذلك الأمر أم لا؟. والحادث الآخر كان بعد الحرب عندما قمنا بزيارة الأخوال .. وتشاجرت شقيقة أمي "فتحية" مع ابنتها نجوى... وكانت هناك صرخات عالية في البيت وحاول أبي التدخل... فأغلقت نجوى باب دورة المياة عليها وصرخت في أبي:

Ø     "لماذا تتدخل؟ فالجميع يعرف أنك تعمل مع الاسرائيليين".

Ø     فدخل أبي وراءها وصفعها، وحتى اليوم لا أعرف من أين عرفت ... وشعرنا أن الأمور خرجت عن السيطرة. وفي إحدى المرات التي سافرت فيها أمي إلى روماكي تحصل على قطع غيار لجهاز البث الذي عطب .. عاد أبي من العمل شاحباً، وجلس على أحد المقاعد ونظر لي وهمس:

Ø     "أعتقد أنهم قد تمكنوا مني". وصمتنا ، وأضاف: "لقد سألوا عني في العمل".

Ø     فبعد سبع سنوات من التجسس كان لأبي حواس حادة، وعندما قال لنا أنهم قد تمكنوا منه كان قد عرف ذلك عن يقين، كان لدينا في البيت حوالي 6 شرائط أفلام، وبدأ أبي في تمزيقها وحرقها وحرق الخطابات... وأدركنا أن الحكاية قد انتهت... وحتى اليوم لست أدري لماذا لم يأخذنا أبي ويهرب ولماذا لم نطلب منه الهرب؟! وأنا أسترجع تلك الأيام في مخي حتى اليوم لا أفهم لماذا ظللنا في البيت؟. وفي صباح أحد الأيام استيقظنا على صوت طرقات قوية على الباب، وفي المدخل وقف ثلاثة من الرجال وسألوا أين أبي؟ فقلت لهم إنه في العمل، فدخلوا وطلبوا انتظاره. جلس اثنان منهم في الصالون والآخر أخذ مقعداً وجلس بجانب الباب... وقلت له:

Ø     "سيدي من فضلك أدخل إلى الصالون".

فأجابني قائلاً:

Ø     "أشعر بالراحة هنا". فتبادلت أنا وأخي نظرات فزعة، وحاول نبيل الدخول إلى حجرة أبي كي يدمر الوثائق التي كانت هناك ... لكن الأدراج كانت مقفلة وكانت المفاتيح مع أبي، فتبادلنا نظرات يائسة ولم نعرف ما يمكن أن نفعله، مرت ساعة بدت كأنها الدهر ثم سمعنا أصوات سيارات. واقترب من البيت موكب يتكون من عشر سيارات وكانت سيارة أبي تسير ببطء في المنتصف، وتوقفوا أمام المنزل، واقتحم البيت عشرات الجنود ورجال المخابرات وأدخلوا أبي معهم... وبدأو في قلب البيت... ولا يمكن وصف صرخات الفرحة التي خرجت من الجنود عندما وجدوا جهاز الارسال وهنأوا بعضهم قائلين "مبروك" وأحنى أبي رأسه وهمس لنا: "آسف يا أولادي". ويكمل عادل الذي غير اسمه إلى (رافي بن ديفيد) حسب الرواية الاسرائيلية:

Ø     بعد القبض على والدي تركتنا السلطات المصرية وكنا في حالة يرثى لها... وأردت البكاء والصراخ ولم أستطع... فقد انتهى العالم بالنسبة لي... وبعد ساعات تحدث أخي محمد للمرة الأولى "ماذا عن أمي؟" يجب أن نحكي لها ما حدث. وفي الرابع والعشرين من أغسطس عام 1974، في ساعات الصباح المبكر، وصلت أمي إلى البيت، وفي جيب سري بالحقيبة كانت تخفي قطع غيار الجهاز... وكانت قد اندهشت من عدم انتظار أبي لها في المطار، وسألت عند دخولها: "أين أبوكم؟" وكان العناق بيننا بارداً فقلت لقد سافر أبي إلى الريف، فهكذا طلب منا رجال المخابرات المصرية إخبارها. وفهمت أمي على الفور فلا يمكن الكذب على من يحيا في ظل الموت، فاقتحمت حجرة النوم للبحث عن الجهاز هناك ولم يكن الجهاز موجوداً، فجرت نحو الحمام كي تتخلص من المواد التي تحملها. لكن كان قد فات أوان ذلك، فقد اقتحم البيت اثنان من رجال المخابرات ، قال لها أحدهما: "حمداً لله على سلامتك يا دنيا"

فتظاهرت أمي بالبراءة وقالت:

Ø     "من هي دنيا؟ أنا انشراح"... .

قالت ذلك بثقة فابتسم رجل المخابرات في رضا: "لقد اعترف زوجك بكل شيء".

ذهبنا إلى مبنى المخابرات وأمام المبنى الذي كنت أعرفه جيداً "فقد التقطنا له بعض الصور" استقبلني رئيس النيابة العسكرية محمد السبكي وقال لي: "سترى أبويك قريباً".

وفي التحقيق الأول معي أنكرت وقلت إنني لا أعرف شيئاً فأخذني المحقق إلى الفناء.

عودة للقائمة الرئيسيّة من زاوية الجاسوسية