جميل السيِّد- يتذكر
الجزء الخامس
في هذه الحلقة يتحدث المدير العام السابق للامن العام اللبناني اللواء الركن جميل السيد عن الاتهامات التي توجه في هذه الأيام الى الأجهزة الأمنية، ويعود الى موضوع وصول العماد إميل لحود الى الرئاسة ومحاولة التمديد مجدداً للرئيس الياس الهراوي.
هل طلب الرئيس الحريري من دمشق أن يتم تغييرك؟
- كان الرئيس الحريري يرغب بإزاحتي في محطات عدة خصوصاً عندما كانت تحتدم الملفات حول مواضيع سياسية وادارية شائكة ترتبط بتجاذبات الرؤساء أو بخلافات في مجلس الوزراء. بعد كل محطة خلافية كان يحصل لقاء مع الرئيس الحريري، كانت كلمتان تكفيان لعودة الوضع الى طبيعته بانتظار حصول تباين على أمور أخرى مستقبلاً. بشكل عام كانت هذه حال العلاقات بين الرؤساء أنفسهم وبين مختلف أطراف اللعبة السياسية. طبيعي ان يسعى كل طرف لتغليب وجهة نظره، طبيعي أن يسعى كل طرف لتخسير الآخر. تلك لعبة دائمة ويومية في السياسة، وفي كثير من الأحيان كنت لاعباً أكثر منه متفرجاً.
هل كانت لك علاقة بحادثة تطويق الجيش مقر وزارة المال خلال فترة الوزير فؤاد السنيورة؟
- سنة 1992 أو سنة 1993 ربما حصل ذلك وكان الرئيس الحريري وصل حديثاً الى رئاسة الحكومة. المشكلة لم تكن مع جميل السيد. المشكلة كانت مع الجيش، إذ ان الوزير السنيورة في ذلك الوقت أوقف معاملات إدارية مالية للجيش، وعندما نزل العميد موسى زهران باسم قيادة الجيش – كونه ضابط إدارة – ليراجع في المعاملات، أفاد قيادة الجيش بأنه تعرّض للاهانة في مكتب سكرتيرة الوزير، فأوفدت القيادة ضابطاً مع دورية لاصطحاب السكرتيرة كونها اعتبرت شريكة في الإهانة، وعند هذه النقطة كبرت القضية، فكان ان طالب الرئيسان الهراوي والحريري بازاحتي وكان جواب قيادة الجيش بان الاوامر صدرت عنها وليس عن شخص في الجيش لتتم ازاحته.
> اين كنت في المرة الأولى التي بحثتم فيها وصول العماد إميل لحود الى الرئاسة؟
- هل تقصد أننا نجلس كهيئة أركان في القيادة ونتداول في ان يصير العماد لحود رئيساً للجمهورية. لا تحصل الأمور بهذه الطريقة. في نهاية العام 1994 وبداية 1995، مع قرب انتهاء فترة ولاية الرئيس الهراوي في 1995، كانت المناكفات السياسية والاهتراء السياسي بلغت حدوداً قصوى في البلد. وبالتالي كان السؤال من هو الماروني الذي يمكن ان يحل في مكان الرئيس الهراوي. تلقائياً، فالأمور لا تحتاج الى ايعاز من أحد في تلك الفترة، كان الجيش نقطة مضيئة في سجل ما بعد الطائف. لذلك ومن دون ترشيح، صار العماد لحود المرشح.
ألم تجروا استطلاعات؟
- الاستطلاعات تحصل بالطبع. ولكن كنت أشير الى نقطة، لماذا صار العماد لحود مهيئاً ليكون مرشحاً جدياً للرئاسة ومنافساً وحيداً عليها في مواجهة الرئيس الهراوي؟ كان ذلك بسبب الانجاز الذي تحقق في الجيش. هذا الانجاز نقله الى دائرة الضوء. تقول لي: صارت هناك «رتوش» معينة وكان هناك سياسيون واعلاميون تحمسوا له. هذا طبيعي. فإذا كان هناك مشروع ناجح تقوده أنت أتذهب الى الآخرين أم هم الذين يأتون اليك؟ أتى كثيرون وقتها وصار هناك جو (لمصلحة لحود). يأتي فرقاء كثيرون يتذمرون من التركيبة القائمة وينظرون الى من لديه أوفر الحظوظ والى الأبرز (بين المرشحين المحتملين)، فينتج عن ذلك ما يشبه الحملة التي تضم متبرعين. لا يحتاج الأمر الى ايعازات.
في العام 1995، ألم يقنع الرئيس الحريري سورية بالتجديد للرئيس الهراوي في إطار جهده لمنع وصول مشروعكم؟
- كان الرئيس الحريري من أبرز المتحمسين لبقاء الرئيس الهراوي في السلطة. هذا صحيح. هو وفريق كبير من السياسيين الذين كانوا يرفضون مجيء رئيس من الجيش، لا يحبون الجيش في السلطة.
الوزير جنبلاط كان من هؤلاء؟
- الوزير جنبلاط طوال عمره لم يحب البزة (العسكرية). عنده حساسية رهيبة تجاه كل ما هو عسكر، تاريخياً.
ما كان موقف الرئيس بري في تلك المرحلة؟
- في 1995 كان قريباً من اتجاه العماد لحود.
من حسم إذاً موضوع التمديد للرئيس الهراوي في 1995؟ العماد حكمت الشهابي وعبدالحليم خدام؟
- اعتقد بأن تلك المرحلة شهدت مفاوضات سلام وحصلت اجتماعات في واشنطن بين 1994 و1995، وأذكر ان وفداً من قيادة الجيش اللبناني شارك في تلك الاجتماعات وكنا نحن من يرسله من مديرية الاستخبارات، وكان السفير سهيل شماس يرأس وفد لبنان. واعتقد بأن وفداً سورياً ذهب ايضاً الى المفاوضات برئاسة العماد حكمت الشهابي. كل ذلك الوضع أوجد مناخاً مفاده اننا في مرحلة مفاوضات وان من الأفضل التمديد للرئيس الهراوي. كانت الحجة اقليمية أكثر مما هي داخلية.
ولكن يمكن القول ان الرئيس الحريري حرم العماد لحود من الرئاسة في 1995؟
- لا نستطيع ان نقول انه حرمه من الرئاسة عام 1995. هو كان يرغب ببقاء الرئيس الهراوي، وجاءت ظروف المفاوضات الاقليمية لتخدم التمديد كمرحلة انتقالية.
في 1998 كان الوضع تغيّر؟
- لم يكن هناك أي ظرف اقليمي او دولي او محلي يمنع ذلك (وصول لحود الى الرئاسة).
هل حاول الرئيس الحريري أيضاً في 1998 ان يحول دون وصول لحود؟
- كانت هناك محاولة جديدة للتمديد للرئيس الهراوي.
من كان المرشح البديل: جان عبيد؟
- كان المرشح الأول بقاء الرئيس الهراوي، والمرشح الثاني الوزير جان عبيد وآخرون. تم التداول بأسماء عدة. ولكن كان المرشح الأبرز غير الرئيس الهراوي والعماد لحود دائماً الوزير جان عبيد كمرشح أوفر حظاً بعدهما.
هل حسم بشار الأسد كفة العماد لحود في الرئاسة في 1998؟
- بشار الأسد لم يكن رئيساً آنذاك، كان والده الرئيس رحمه الله. لم يكن في إمكانك الدفاع عن التمديد في 1998، وكان حجم الخلل الداخلي ضخماً الى درجة ان الرئيس حافظ الأسد وجد ان الوضع اللبناني بات عبئاً متراكماً ومتزايداً على سورية، فالعلاقة مع سورية سقف استراتيجي، ولكن ما هي أعمدة هذا السقف؟ الداخل اللبناني هو هذه الأعمدة التي تحمل هذا السقف. الداخل اللبناني بين العام 1990 و1998 لم يستطع انشاء دولة مؤسسات، وكان على وشك الانهيار، وبانهياره كان سينهار السقف الاستراتيجي. الرئيس الاسد كان على بيّنة عام 1998 من ان الأعمدة الداخلية اللبنانية أصبحت هشة الى درجة انها اصبحت تهدد السقف الاستراتيجي بالسقوط في لبنان. لذلك ومن خلال الاستحقاق الرئاسي في تلك السنة، فقد وجد بأن الفرصة مؤاتية للتغيير واعادة تثبيت الاعمدة اللبنانية للسقف الاستراتيجي فكان تفضيله للعماد لحود على اساس انجازاته في الجيش التي حازت ايضاً على رضى اللبنانيين حينذاك، فكان ان توافرت له ظروف الرئاسة اكثر من سواه.
هل قابل الرئيس لحود الرئيس الأسد قبل انتخابات الرئاسة في 1998؟
- لا، كان ما زال قائداً للجيش.
ألم يقابله؟
- قيل وقتها ان اجتماعاً سرياً حصل في هذا الموضوع. ولكن الواقع انه عندما كان الرئيس لحود يذهب الى الشام كان يذهب بزيارة رسمية بدعوة من الأركان. دائماً عندما يكون في الشام كان يدعوه الرئيس الأسد – مثلما يفعلون حتى اليوم مع العماد ميشال سليمان، مثلاً. من الثوابت السورية ان عندهم لياقة استثنائية في الأمور البروتوكولية. هذا أمر متعارف عليه.
المرة الأولى التي قابله فيها كانت في 1993 – 1994، كان مجلس الوزراء اتخذ قراراً...؟
- أعرف اننا رافقنا الرئيس لحود في زيارة رسمية لسورية وفي إطار الزيارة قابل الرئيس الأسد. ولكن مقابلة كبار المسؤولين في السلطة وخارجها هو منهج سوري تقليدي، شمل الرئيس لحود وكل قادة الجيش الذين زاروا سورية.
العماد عون؟
- نعم ذهب بزيارة رسمية الى سورية واستقبلته هيئة الاركان ورئيسها.
عندما كان قائد جيش؟
- نعم، عندما كان قائد جيش.
هل التقاه الرئيس الأسد وقتذاك؟
- لا أذكر وقتها إن كان قابله أم لا. ولكنه ذهب في زيارة رسمية وذهبنا نحن معه. كنت وقت ذاك رئيس فرع استخبارات البقاع.
ماذا عن محاولة الاغتيال التي تعرضتم لها في الثمانينات في البقاع؟
- كان ذلك عام 1987 وكنت آنذاك رئيس فرع الاستخبارات في البقاع.
هل صحيح ان المحاولة قامت بها مجموعات على علاقة ﺒ»حزب الله»؟
- لم يكن الموضوع مرتبطاً بـ «حزب الله» بخلاف ما أُشيع في حينه. كانت عمليات ثأرية محلية. المشكلة بدأت في العام 1983 مع الشيخ صبحي الطفيلي، وهو من البقاع. في تلك الفترة كان العميد ابراهيم شاهين قائد اللواء وكنت ضابط أمن. العماد ابراهيم طنوس كان قائد الجيش في بيروت. يومها، كما أذكر، حصل حادث كبير (تمثّل) في قصف الضاحية الجنوبية في منطقة غاليري سمعان من قبل الجيش اللبناني، وهو ما أدى لاحقاً الى الاطاحة بالعماد طنوس. ذلك القصف الذي استهدف الضاحية سبب دماراً كبيراً وأدى الى سقوط ضحايا، الأمر الذي أدى الى رد فعل في البقاع، باعتبار أن أهل الضاحية هم مزيج من شيعة الجنوب وشيعة البقاع. سبّب هذا الحادث في سقوط ثكنة الشيخ عبدالله (للجيش اللبناني) في بعلبك بايدي مسلحين بقيادة الشيخ صبحي الطفيلي. أُبلغ ابراهيم شاهين، كون قيادتنا في أبلح وفي رياق، أن منطقة بعلبك محظورة على الجيش اللبناني «المجرم». العميد ابراهيم شاهين كان عنده برامج تدريبات ورمايات يشمل اجراء رمايات بالمصفحات والدبابات في حقل رماية الطيبة المجاور لثكنة بعلبك. علمَ جماعة صبحي الطفيلي هناك أن الجيش سيأتي لإجراء الرمايات فأرسلوا خبراً للعميد ابراهيم شاهين ان لا تأتي الى الرماية، واذا أتيت ستحصل مشكلة. العميد شاهين شخص عنيد، عسكري شجاع، وأصر ان يذهب. أخذ القافلة الى الرماية وذهب برفقتها. كنت في تلك الفترة أتابع دورة «استعلام تكتيكي» في بيروت. فنصبوا كميناً عند مفترق بريتال في بعلبك، وكان الطقس ممطراً وغائماً، فقُتل ستة عسكريين وضابط في الكمين، واصيب ابراهيم شاهين في صدره بطلقات عدة لكنه نجا من الموت بأعجوبة. وقُتل من المسلحين عدد آخر أيضاً. عمّقت تلك الحادثة الشرخ بين الجيش وجماعة صبحي الطفيلي، فكان ان تلتها عمليات اغتيال ثأرية طاولت ضباطاً من قاعدة القوات الجوية في أبلح بينهم سليمان مظلوم وميشال زيادة وإميل حنا. ابراهيم شاهين في البداية استُهدف وهو شيعي، وبعده استُهدف مسيحيون، وكان الهدف فرط الثكنات وفرزها طائفياً. كنت اصبحت حينها مديراً لمخابرات البقاع وثابرنا على سياسة الصمود مع استمرار موجة الاغتيالات، وبعد آخر اغتيال تعرض له العميد الشهيد ميشال زيادة ابلغتنا قيادة الجيش بترحيل العسكريين المسيحيين الى المنطقة الشرقية من بيروت. يومها اعددت تقريراً للعماد عون قائد الجيش شرحت فيه ان تنفيذ البرقية سيؤدي الى هجرة المدنيين المسيحيين من المنطقة، واعدادهم بعشرات الآلاف، ومما قلته في التقرير الذي لا ازال احتفظ بنسخة عنه، ان المسلّحين اذا يئسوا من صمودنا سيتحولون الى اغتيال الضباط المسلمين لتنفيذ مخططهم. وأضفت في التقرير بأنني اعتقد سأكون الهدف الاول.
العماد عون وبعد تلقيه التقرير المذكور أمر قيادة الجيش بالابقاء على العسكريين المسيحيين في المنطقة. بعد التقرير بثلاثة اشهر كنت اوّل من تعرض للاغتيال فقتل مرافقي الى جانبي المرحوم الرقيب احمد العربوني وأصيب مدني كان معي، سامي السيّد احمد، فيما نجوت بأعجوبة.
بقائي حيّاً سمح بالمتابعة لمعرفة الفاعلين، ولكن جاء قانون العفو لاحقاً ومسح القضية.
هل تعاطيت مع قضية العماد عون وبقائه في الخارج؟
- كلا، لم يكلفني أحد بموضوع العماد عون في الخارج، وبعد عودته الى لبنان لم تتوافر فرصة للتواصل. خدمت بأمرته كقائد جيش ويعرفني جيداً منذ ذلك الحين، ووردتني عنه بالواسطة عبارات تقدير عندما كان في الخارج حول اعجابه بالطريقة التي أدير فيها الامن العام كمؤسسة منظمة وحديثة ونظيفة. ما عدا ذلك فإن بعض أركانه هم رفاق سلاح.
ألم تهنّئه بالعودة؟
- لقد عاد الى لبنان في ظروف استثنائية بالنسبة الى استقالتي، لذلك لم أبادر الى التهنئة حتى لا تُفسّر على غير حقيقتها، كمحاولة للتقرب.
هل كنت شريكاً في أحداث 7 آب (اغسطس) 2001 التي شهدت قمعاً للطلاب، وهل كنت شريكاً في قرار اغلاق محطة “أم تي في”؟
- قبل 7 آب شهد لبنان سلسلة من التظاهرات ذات طابع طلابي. تظاهروا ضد سورية والحكم في لبنان. قسم من تلك التظاهرات، وللمرة الأولى، كان يتوجه في اتجاه المراكز السورية في لبنان. وكنا في كل مرة يحصل ذلك “نمسك قلبنا بأيدينا” خشية ان يدخل أحد في هذه التظاهرة أو تلك ويطلق النار، مما سيؤدي الى مجزرة. كان مثل ذلك الحادث سيؤدي الى عواقب لا أحد يعرف مداها. وبالتالي كان مجلس الأمن المركزي يجتمع في وزارة الداخلية في كل مرة تصدر دعوة الى التظاهر، وكان الوزير المر في ذلك الوقت وزيراً للداخلية. كان الاجتماع يضم ممثلين عن الجيش والأمن العام وأمن الدولة والأمن الداخلي ويُضاف اليهم مدعي عام التمييز للمشورة القضائية، ومحافظ بيروت كون معظم التظاهرات كانت تحصل في نطاق المحافظة، وأحياناً كان ينضم الدفاع المدني اذا كانت هناك ضرورة. كان مجلس الأمن المركزي يجتمع في كل مرة تحصل دعوة الى تظاهرات يُتوقع ان تشهد تفاعلات، ويتم خلال الاجتماع توزيع المهمات: كان الجيش عادة يتسلم الطوق البعيد، وقوى الأمن الداخلي بلباسها العسكري تتسلم الطوق الأقرب، والأمن بلباسه المدني يكون موجوداً بين المتظاهرين. العناصر الأمنية بين المتظاهرين كان ممنوعاً عليها ممارسة الأمن بل كانت مهمتها الدائمة هي المراقبة والافادة لا سيما اذا لوحظ وجود أسلحة بين المتظاهرين. هذه تعليمات موجودة في كل مظاهرة.
هذا الأمر كان يحصل بشكل منهجي كلما حصلت دعوة الى التظاهر، بما في ذلك تحديد أماكن سير المتظاهرين وأماكن تجمعهم.
- عندما كنت في الجيش كانت لدينا خلاصة سابقاً بناء على تجربة أليمة حصلت معنا في الضاحية الجنوبية لبيروت سنة 1993، عندما نظّم “حزب الله” تظاهرة كبرى. حصل انذاك اطلاق نار في شارع فرعي في الضاحية من قبل دورية للجيش أطلقت النار في الهواء. كان المتظاهرون متجمعين في ساحة الغبيري، فخافوا من إطلاق النار الذي حصل في الخلف وركضوا في اتجاه جسر المطار. كانت هناك قوة على جسر المطار برئاسة ضابط، وسمعوا ايضاً اطلاق النار ورأوا الناس يركضون في اتجاههم، فاعتقدوا ان اطلاق النار يصدر منهم، فقاموا برد فعل وسقط آنذاك 14 شخصا وأصيب 70 شخصاً. كانت مجزرة آنذاك نتيجة خطأ في التقدير. لم تكن هناك أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين. حصل خطأ في التقدير على الأرض. كان ذلك في العام 1993.
فتحنا تحقيقاً في تلك الحادثة واستنتجنا الخلاصات، وكانت احدى الخلاصات انه ينبغي في كل تظاهرة ان يكون لدى القوى الأمنية مخبرون في داخلها كي تُبلغ بما يحصل بين المتظاهرين ولا تُفاجأ بما يمكن ان يحصل ويؤدي الالتباس الى اطلاق نار.
لو كان لدينا مخبرون في التظاهرة التي حصلت في الضاحية يبلغوننا بما يحصل في داخلها لكانوا ابلغونا بأن المتظاهرين خائفون من اطلاق نار لكنهم ليسوا مسلحين. ولكان الضابط المسؤول لم يقم برد فعل. تلك الخلاصة من التجربة الأليمة دفعتنا الى أن نأخذ مبدأً عاماً في كل التظاهرات وهو ان يكون في داخلها أشخاص غير معروفين يخبرون مركز العمليات بما يحصل ومركز العمليات ينقل الصورة الى المسؤولين الأمنيين الموجودين على الأرض.
وعندما أُعلنت تظاهرة 7 آب في منطقة المتحف كانت التقديرات في مجلس الأمن المركزي انه سيكون هناك ما لا يقل عن عشرة آلاف متظاهر. وعندما تقول 10 آلاف متظاهر هذا يعني انه يجب ان يكون لديك ما بين 50 الى 100 عنصر أمني باللباس المدني بين المتظاهرين. فطُلب في البداية ان يفرض الجيش طوقاً بعيداً لتخفيف المشاركة في التظاهرة، وكان ذلك نوعاً من القيود البعيدة المدى، على ان تتولى قوى الأمن الداخلي فرض طوق بجوار التظاهرة، وكلّف أحد الأجهزة الأمنية – لن اسمي هذا الجهاز ولكن أقول بالتأكيد انه ليس الأمن العام، وأنا مسؤول عن كلامي –. أقول ذلك ليس من باب ادانة وجودهم في التظاهرة، فذلك كان واجبهم.
لأي جهاز كانوا يعملون؟
- من أدبيات الأجهزة الأمنية أننا لا نسمي، ولكن أقول انهم لم يكونوا من الأمن العام. ولكن هذا لا ينفي انني كنت مشاركاً في الاجتماع الذي وضعت فيه خطة معالجة التظاهرة، من منطلق كوني عضواً في مجلس الأمن المركزي وبالتالي فالخطة وُضعت بموافقة الجميع: طوق بعيد المدى من الجيش لتخفيف الضغط (الحد من المشاركة في التظاهرة)، وطوق قريب المدى من الأمن الداخلي، وبمجموعة من المخبرين من أحد الأجهزة للمراقبة والافادة في داخل التظاهرة. ولشدة ما كانت القيود البعيدة المدى ناجحة، وبدل ان يصل الى مركز التجمع 10 آلاف متظاهر وصل 200 شخص فقط. كم مخبراً كان لدينا في وسطهم؟ قرابة المئة اي نصف المتظاهرين تقريباً.
في العادة تختار المخبر الذي تضعه في التظاهرة “عتعيتاً” (قوي البنية) كي لا يُضرب بسهولة اذا كُشف ويُبلغ عن أي اسلحة أو استعدادات ينوي المتظاهرون القيام بها. هؤلاء المئة وجدوا أنفسهم بين 200 متظاهر فقط وانهم قادرون عليهم. فبدل ان يدعوهم يعبّرون عن رأيهم بالهتاف والصراخ، كما يحصل في كل تظاهرات العالم، أمام القوى النظامية، اعتبروا انهم تقريباً يتساوون مع المتظاهرين وقادرون على التغلب عليهم.
الضرب بالهراوات والرش بالماء أمر مألوف في دول العالم خلال التعامل مع التظاهرات. ولكن ليس هناك مظهر مألوف ان ترى عناصر بثياب مدنية تضرب عناصر بثياب مدنية. كان ذلك هو المظهر البشع. الانجراف الذي حصل هو ان المخبرين وجدوا أنفسهم متساوين عددياً تقريباً مع المتظاهرين، وقرروا التصدي لهم قبل الوصول الى قوات الأمن.
ألم يكن هناك إذن قرار بضرب المتظاهرين؟
- فُتح تحقيق لاحقاً من قبل قيادة الجيش. لم يكن هناك قرار بضرب المتظاهرين المدنيين. ذلك قرار أحمق، لا أحد يقدم عليه. اذا اعيد التحقيق في ملف القضية سيظهر بالضبط انه لم يكن هناك أمر بضرب الناس في التظاهرة. ولكن في تلك اللحظة السياسية التي حصل فيها الحادث، لا يحتاج المعارض سوى الى مثل هذا الخطأ لاستغلاله ضد السلطة. أليست هذه هي اللعبة الدائمة (بين الحكم والمعارضة)؟ فوضعوا صورة الفتاة التي يحميها زميلها وعناصر أمن يسحبونه منها ويوسعونه ضرباً وعملوا منها قضيّة كبرى. ولكن لو وصل هذا الشاب والفتـاة الى قـوى الأمـن النـظامية الواقفة بدروعها والهراوات التي تحملها وتلقيا ضرباً من هراوات القوى النظامية لما كان ذلك سيسبب مشكلة، كون ذلك يحصل في التظاهرات عندما تحصل مواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن. 7 آب 2002 لم يكن مؤامرة، بل كان قراراً جدياً بوقف تدهور معيّن للأمور على الأرض. كانت تحصل في كل يوم تظاهرة ويمكن ان تجر الى مفاجأة. وعندما يوجد رجل أمن ومتظاهر تكون المفاجأة هي ثالثهما. أحياناً تقول ان شاء الله لا تكون المفاجأة مأسوية وتنقضي بسلام.
وماذا عن قرار اغلاق الـ “أم تي في”؟
- هذا القرار حصل على مستوى حكومي وليس على مستوى أمني. أركان الدولة لديهم بالاجمال مشاكل مع هذه المحطة أو تلك. مسؤولون كثيرون في الدولة كانوا غير متفاهمين مع محطات وصحف. “نيو تي في” كان عندها مشكلة في وقت ما وكذلك “ال بي سي” و”أم تي في”، من كل الاتجاهات. ففي لبنان، بصراحة، مثلما قال الرئيس (سليم) الحص، هناك كثير من الحرية وقليل من الديموقراطية، وبالتالي هناك اباحية لا حدود لها في بعض المرات. الشيء الذي يحصل في لبنان قسم كبير منه لا علاقة له بالحرية، عندما نتكلم عن الإعلام.
الذي حصل مع “أم تي في” هو انها كانت تأخذ نهجاً معيناً: الشاشة مفتوحة ليس للانتقاد، بل للحملات. في بلاد العالم المتحضرة الانتقاد مسموح ضمن كل الحدود ولكن لا تستطيع ان تفتح تلفزيوناً في كل يوم في نشرته الاخبارية مسّ برئيس الجمهورية وسورية والاقتصاد. في دول العالم كلها لا تقوم التلفزيونات بحملات بل تقوم بانتقادات...
كان ذلك في أيام حكومة الحريري؟
- نعم، كانوا يشنون حملات في كل صوب. مع الوقت حصل ش