جميل السيِّد يتذكر

الجزء السابع

في هذه الحلقة يتحدث المدير العام السابق للامن العام اللبناني اللواء الركن جميل السيد عن عملية تخدير العميل أحمد الحلاق في الشريط الحدودي ومحطات أخرى.

وهنا نص الحلقة السابعة:

هل لك ان تروي لنا قصة استدراج العميل أحمد الحلاق من الشريط المحتل وإعدامه؟

- كما تعلم في اواسط التسعينات كان وضع الجنوب اللبناني محتدماً بين الاحتلال والاعتداءات الاسرائيلية من جهة وعمليات المقاومة من جهة اخرى، وكانت اسرائيل تقوم بعمليات في العمق اللبناني، منها بالقصف الجوّي ومنها بالسيارات المفخخة والاغتيالات عبر عملاء لها. احمد الحلاق كان عميلاً سرياً للمخابرات الاسرائيلية، كُلف باغتيال احد مسؤولي المقاومة بواسطة سيارة مفخخة في الضاحية الجنوبية من بيروت، ثم فرّ الى منطقة الاحتلال في الشريط الحدودي. التحقيقات التي قمنا بها حينذاك كمديرية استخبارات أدّت الى التعرف على هويته. كانت لدينا مصادر معلومات قوية جداً في الشريط المحتل، جميعهم مواطنون لبنانيون متبرعون لمساعدة بلدهم ومن مختلف القرى والطوائف. أفادتنا تلك المصادر ان احمد الحلاق يتواجد باسم مستعار في منطقة مرجعيون – القليعة وكنّا قد عمّمنا صورته سابقاً. أقمنا خليّة عمل بين مديرية الاستخبارات واستخبارات الجنوب حينذاك برئاسة المقدم ماهر الطفيلي. جرى التنسيق مع مجموعات تابعة لنا في الشريط المحتل، وبعضهم من آل نهرا، على اساس دعوة احمد الحلاق الى العشاء في احد المنازل، ولمّا كان معروفاً عنه كثرة شرب الكحول، فقد كانت الخطة ان يتم تخديره ونقله بصندوق سيارة الى المنطقة المحررة. الصعوبة كانت ان الطرقات المؤدية في الشريط الحدودي الى المناطق المحررة كانت عليها حواجز اسرائيلية وحواجز لقوات الجيش الجنوبي المتعامل مع الاحتلال، إضافة لعناصر استخبارات اسرائيلية. كان علينا اختيار المعبر الأسهل والاقل تعريضاً، فوقع الاختيار على منطقة جزين واقتضت الخطة بأنه فور تخدير احمد الحلاق ونقله باتجاه المعبر، تقوم بعض القوى العسكرية من جهتنا بعملية اطلاق نار على مراكز مجاورة لتوتير الاجواء وإلهاء الحواجز المواجهة بحيث ينصرف اهتمامها عن تفتيش السيارات لتواجه الوضع العسكري. وهكذا كان حيث استطاعت مجموعة الداخل العاملة مع الاستخبارات اللبنانية تمرير احمد الحلاق مخدراً على المعبر المذكور، وأودع موقوفاً لدى مديرية المخابرات، وكانت مفاجأته صاعقة عندما استفاق ووجد نفسه بين ايدينا. لاحقاً احيل الى القضاء وجرت محاكمته وصدر عليه حكم بالإعدام نفّذ فيه لاحقاً.

قوات الاحتلال الاسرائيلي اكتشفت ما حصل بعدما كان أُعلِن من قبلنا استدراج احمد الحلاق وتوقيفه، فقامت بحملة اعتقالات في المنطقة وأوقفت الكثير من المواطنين. وأبقت على احدهم من آل نهرا لسنوات عدة في سجونها لاتهامه بالتواطؤ معنا في العملية. لاحقاً وخلال عملية تبادل الاسرى بجثث الجنود الاسرائيليين الذين اسرتهم المقاومة أفرج عن المواطنين اللبنانيين وبينهم المواطن المذكور الذي حاز على وسام تقديراً لتضحياته.

الى متى بقيت في البقاع؟

- الى موعد انتخاب الرئيس الياس الهراوي في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989. انتخب الرئيس الهراوي في شتورة وكان مخيّماً على الجميع جو اغتيال الرئيس رينيه معوض.

لم يظهر شيء من اغتيال معوض؟

- كان مركزي في البقاع حينذاك، واطلعت كما جميع المواطنين على حادثة الاغتيال من وسائل الاعلام.

متى تعرفت على الرئيس الهراوي؟

- كنت اعرفه قبل انتخابه وكنا نتبادل الزيارة حين يحضر الى البقاع، وكان نائباً عن منطقتنا. وفي الوقت نفسه كان عضواً في تجمّع النواب الموارنة المستقلين. وكنا نتداول في الوضع العام. بعد انتخابه رئيساً طلب ان أكون مسؤولاً عن أمنه.

أمضينا بضعة ايام في بارك أوتيل في شتورة ثم انتقلنا الى منزلي في أبلح لأن مقر قائد المنطقة العسكرية لم يكن جاهزاً. سبب الانتقال السريع هو صعوبة ضمان الأمن في فندق. لهذا انتقل الرئيس الى مقر إقامتي في بيوت الضباط في أبلح حيث أمضى عشرة ايام بانتظار استكمال تجهيزات مقر قائد المنطقة. بقيت مسؤولاً عن أمنه لشهور عدة.

أعلى الصفحة

كيف تم الانتقال، وهل صحيح انه ارتدى بزة عسكرية خلال انتقاله؟

- حين تكون مسؤولاً عن انتقال شخصية كبيرة عليك القيام بما يسمى مناورة أمنية. يجب ان تفترض ان احداً ينتظره وسيحاول اغتياله. هذه هو الأمن اللصيق الذي دفعني الى تسجيل مآخذ على الأمن اللصيق للرئيس الحريري بعدما أجرينا تقويماً لعملية اغتياله. الأمن اللصيق يجبر الشخصية المعني بسلامتها على التزام قواعد معينة. هناك تدابير ملزمة اسمها المسلك المعتمد ونوع السيارات وتغيير الطرق والخروج من مكان محجوب والتوقف في مكان محجوب. على المسؤول عن الأمن الشخصي ان يعتبر بعد كل عودة سالمة للشخصية التي يتولى أمنها انها نجت من محاولة اغتيال. اذا اطمأن المسؤول يصبح الخطأ وارداً. التدابير تتخذ في كل مرّة وكأن محاولة اغتيال يمكن ان تحدث. وخلال تنفيذ المناورة الامنية ينبغي ان تنسب الى المتربص كل انواع الذكاء كي تقوم باقصى درجات الحيطة.

بالنسبة الى الزي العسكري، نعم ارتدى الرئيس الهراوي زياً عسكرياً وانتقل معنا بسيارة جيب من دون ان يلحظ خروجه أحد، بمن فيهم عناصر الامن المنتشرون في الفندق، حتى ان بعضهم اعتبره مفقوداً صباح اليوم التالي. الرئيس الهراوي كان متجاوباً. سيارة جيب ومن دون مظاهر او صفارات. قبل الوصول الى الثكنة تعطل الدولاب بسبب ثقب اصابه. أخذها الرئيس بروح مرحة، وقال: ( بدأنا عهدنا بدولاب مثقوب  (

لنعد الى غازي كنعان، هنالك ضجة انك اختلفت معه قبل ان يغادر لبنان؟

- عندما صرت رئيساً لفرع الاستخبارات في البقاع صار من الطبيعي ان يكون التنسيق مع ممثل سورية هناك. أمضينا أياماً ممتازة وعملنا الكثير لتسهيل الامور وهناك ايام لم تكن جيدة. حصلت لاحقاً خصومة بيني وبينه قبل مغادرته لبنان وامتدت نحو ستة اشهر. كانت لديه عادة وهي سرعة الانفعال والتجريح ثم الندم. بلغني انه جرّح بي في غيابي وبحضور بعض الاشخاص الذين أخبروني. اعتبرت ان من حقه ان يناقشني في الأمن والسياسة لكن التجريح الشخصي يجعل الأمر مسألة كرامة. تفاعل الموضوع وحصلت قطيعة انتهت قبل مغادرته.

هل حاول إزاحتك من موقعك؟

- نعم حاول ذلك، وأوفد مندوباً الى الرؤساء الثلاثة يطلب منهم مقاطعتي فتجاوب اثنان، لكن الرئيس لحود لم يتجاوب وكذلك الوزير جنبلاط.

الاتهام والانتقام

تناولك بعضهم باتهامات عن تحقيق مكاسب شخصية خلال وجودك في منصبك.

- دعني أقول لك اولاً ان المناصب الاساسية في لبنان، في السياسة والادارة تلزم شاغليها قانوناً بتقديم تصريح عن ثروتهم عند التعيين في المنصب وعند الخروج منه، وقد انطبق عليّ ذلك كمدير عام للأمن العام وقدمت تصريحاً عند تسلم الوظيفة وبعده.

الأمر الثاني، بالنسبة الى استغلال منصب، في الامن العام، اللبنانيون عامة، معارضة وموالاة، كما السفارات الاجنبية في لبنان، كما بيان مجلس المطارنة الموارنة الذي وصف الحال الرديئة لمؤسسات الدولة، كما تقرير الامم المتحدة عن الفساد وأداء المؤسسات الرسمية في الشرق الاوسط للعام 2004، كلهم أجمعوا على ان ادارتي للأمن العام اللبناني انتجت مؤسسة كانت الافضل أداء ونظافة وانتاجية. وأنت تعرف ان المؤسسات تصلح من رأسها او تفسد من رأسها وليس العكس.

اما بالنسبة الى الاتهامات فأسهل شيء الاتهام المجاني الهادف الى التشهير او الانتقام، والرد على ذلك يكون بالقول ان كل من لديه ملف او اثبات او شهود عن أي منفعة او مقايضة، فليذهب الى القضاء وأنا اليوم خارج السلطة. اما اللجوء فقط الى التشهير الاعلامي فأمر لا يتعدى الفولكلور، وعلى كل حال، ليست الجريمة في ان تملك مالاً او شيئاً، الجريمة قد تكون في مصدره.

أعلى الصفحة

الرئيس الهراوي حاول إزاحتك لدى الرئيس الاسد؟

- نعم. الرئيس الهراوي ليست لديه اسرار ويخبرك حتى لو لم تسأله.

هل جاءتك الحماية من الرئيس حافظ الاسد؟

- أنا تركت مقر القصر الجمهوري الموقت الذي وضعه الرئيس الحريري في تصرف الرئيس الهراوي، بعد الرئيس رينيه معوض، بسبب اجواء ضاغطة في المقر.

هل لك ان تحدّثنا عن تلك الضغوط؟

- الحقيقة ان الرئيس الهراوي كان يعتقد بأن اقامته في المقر الموقت في الرملة البيضاء ستكون قصيرة وانه سينتقل سريعاً الى القصر الجمهوري في بعبدا. حدث بطء في حسم موضوع العماد ميشال عون الذي كان مقيماً في قصر بعبدا. بدأ عدد من المحيطين بالرئيس الهراوي التشكيك في نيات السوريين. مشكلة العمل مع اي رئيس هي وجود فريقين دائماً حوله، مع ما يمكن ان يعنيه ذلك من تجاذبات. هناك فريق كان يقول للرئيس لماذا يتأخر السوريون في الحسم، ولقي كلامهم صدى لديه؟ كانت وجهة نظري ان الموضوع ليس بهذه البساطة، ثم أين المنطق في ضرب الجيش اللبناني فتسيطر القوات اللبنانية ويتحول رئيس الجمهورية رهينة لديها في بعبدا كما حدث للرئيس الياس سركيس مع بشير الجميل؟ كنت اقول له ان الظروف الموضوعية للحسم غير متوافرة. طبعاً لم اكن أتوقع الاجتياح العراقي للكويت. كنت أقول للرئيس الهراوي ان الظروف المناسبة غير متوافرة فيعتبر انني أبلف أو أغش. كنت أقول انه لا يكفي ان تكون لدينا ورقة الطائف ليحصل الحسم ضد عون، لا بد من عناصر اضافية. بدأ الرئيس الهراوي في التأفف. ذات يوم أحد أعواني المقدم محمد فرشوخ، مساعد مدير الاستخبارات لاحقاً، وكان مقرّباً من الرئيس الحريري، اصطدم مع مي كحاله المستشارة الاعلامية للرئيس. جاءت مي بوفد دنماركي لتصوير «يوم في حياة الرئيس» فيما كان القصف قائماً. احتج فرشوخ واختلف مع مي. كان الرئيس الهراوي في طريقه الى مكتبه وحين التقى فرشوخ قال له: «أنتم أمن معي أم عليّ». أنا كنت رئيس الجهاز الامني الرئاسي، وكنت أستعين بثلاثة ضباط من دورتي هم محمد فرشوخ ورياض مزهر وحسين شاهين. هذا الجهاز موقت. أتيت بعسكر معي من أبلح وكنت محتاجاً الى ضباط مقيمين في بيروت لهذا تمنيت على الثلاثة، وأنا أثق بهم، العمل في هذا الجهاز. كنت جالساً مع رياض مزهر حين دخل فرشوخ مضطرباً وقال: «بهدلني الرئيس». ونقل لي عبارة الرئيس «أنتم أمن معي أم علي». قلت له: المقصود أنا وليس أنت.

اعتبرت سؤال الرئيس الهراوي سؤالاً غير مسموح بحد ذاته ان يصدر عنه باتجاه امنه، فهذا كمن يسأل زوجته: هل انتِ مخلصة لي ام لا؟ الطلاق افضل من طرح السؤال، هذا السؤال تهمة.

أعلى الصفحة

كان يوم خميس. وضعت كتاب اعتذار قلت للرئيس فيه ما معناه: «أتمنى ان يكون حرص الذين يشيرون عليك في اتجاهات اخرى بنفس حرصي». أرسلت الكتاب وغادرت الى مقر عملي الأصلي رئيساً لفرع استخبارات الجيش في البقاع.

بعد يومين فوجئت بالعميد غازي كنعان يتصل بي ويقول: «مرّ الرئيس الهراوي، في طريقه الى الشام، وشكا انك أرسلت اليه كتاباً وتجرّأت فيه عليه»، اجبته: «أنا لم أتجرأ. انه رئيسي وقبل ذلك كان صديقي. انا مخلوطة عندي حقوق الرئاسة وحقوق الصداقة وغلبت الاخيرة ولهذا غادرت. أنا لا أريد لصديقي ان يخطىء. وأنا لا يمكن ان أغشه».

قال كنعان: «نحن سنشعر بالحرج حين تكون بيننا وبينك صداقة ويكون الجو بينك وبين الرئيس على هذه الحال إلاّ اذا طيبت له خاطره ورجعت لعنده». أجبت: «انه رئيس الجمهورية وأنا مستعد للذهاب اليه والاعتذار اليه رسمياً لكن لا أستطيع ان أبقى. حين يسأل هل أنتم أمن معي أم عليّ، فهذا يعني انني يجب ألا أكون موجوداً هناك». قال: «نحن سيكون لنا موقف».

نزلت بعد ايام وزرت الرئيس الهراوي وقلت له: «غادرت كصديق وها أنا أرجع اليك كرئيس لاعتذر وأغادر». أجاب: «نحن أهل وأولاد منطقة وأحباب». وقام الرئيس وقبّلني وأهداني ربطتي عنق. وعلى رغم وجود مكتبي وبيتي في أبلح-البقاع فقد بقيت ستة أشهر من دون ان أزور عنجر، كوني لا اريد ان احرجهم تجاه الرئيس الهراوي.بعدها بمدة اتصل بي مساعد كنعان وأصلح الامور.باختصار الرئيس الهراوي اختارني لأمنه، وانا غادرت بسبب حرب المستشارين التي دفعته لطرح سؤال اعتبرت انه من غير الجائز طرحه.

من هم أطراف هذه الحرب؟

- معروفون. ماشي الحال.

معروف أن الرئيس الحريري كان ينفق من جيبه على رئاسة الجمهورية المقيمة في مبنى يملكه في الرملة البيضاء؟

- الرئيس الهراوي انتخب رئيساً لدولة غير موجودة. المقر الموقت في الرملة البيضاء يملكه الحريري. شركة «اوجيه» التي يملكها تستطيع تنفيذ الأشغال سريعاً. طبعاً الرئيس معوض اقام في المبنى نفسه قبل اغتياله. حين جئنا مع الرئيس الهراوي وجدنا ان اجراءات الأمن حول المبنى تقتصر على تلال رمل حوله مباشرة. من يحاصر نفسه بهذه الطريقة وبحيث يعجز عن رؤية ما هو قريب منه؟ جرفنا المحيط وعبدناه بالاسفلت ووضعنا خطة أمنية حول المقر. الرئيس الحريري أخذ على عاتقه هذه الأعباء في تلك الفترة بما فيها أعباء الأمن والحراسات. كنا نعطي للعسكر مبلغاً يضاف الى رواتبهم، اذ أن معظمهم من البقاع. كان الرئيس الهراوي يعطينا مبلغاً نوزعه وكان في حدود مئة دولار للعسكري، انطباعي أن الحريري كان يتحمل هذه الأعباء.

أعلى الصفحة

أنت مسؤول الأمن وتقول انطباعي؟

- قصدت من استخدام كلمة انطباع انني لم أتسلم شخصياً حقائب مالية من الرئيس الحريري لمصلحة الرئيس الهراوي.

هل حصلت على جزء مما كان الهراوي يحصل عليه من الحريري؟

- كان الرئيس الهراوي يسلمنا موازنة شهرية بعدما وضعنا معايير للعلاوات التي نقدمها في جهاز الحراسة للضابط ولضباط الصف والجندي. كان الجهاز مؤلفاً من 170 عسكرياً كنا ننفق بين 23 ألفاً و27 ألف دولار شهرياً. وكان يضاف الى ذلك مبلغ 3 آلاف دولار لنسدد ضيافة الصحافيين في البوريفاج. أي كنا نتسلم مبلغاً لا يتجاوز 30 ألف دولار. السجلات موجودة.

اللقاء الأول مع الحريري

متى رأيت الحريري للمرة الاولى؟

- رأيته في أبلح بعد انتقال الرئيس الهراوي الى منزل قائد المنطقة. كانت أول مرة في حياتي التقيه. قال لي الرئيس الهراوي: «انزل الى مفرق الثكنة. هناك سيارة تقل الشيخ رفيق الحريري. اريدك أن تستقبله جيداً وترافقه الى هنا». كان الحريري جاء في طائرته الى مطار دمشق ومنها براً الى ابلح. اذكر وصل موكب سيارات. سلمت عليه ورافقته الى مقر الرئيس الهراوي وكان بصحبة الحريري شخص عرفت أن اسمه عبد اللطيف الشماع، أي انني التقيته بعد نحو أسبوعين من انتخاب الرئيس الهراوي، وهذا يعني أن ذلك كان في بداية كانون الاول (ديسمبر) 1989. ثم التقيته لاحقاً في حفر الباطن في السعودية عندما قرر الرئيس الهراوي القيام بجولة لشكر قادة دول اللجنة الثلاثية (السعودية والمغرب والجزائر) التي رعت اتفاق الطائف. استقبل الملك فهد بن عبد العزيز الرئيس الهراوي في حفر الباطن ونزلنا في ناد للضباط. كان الرئيس الحريري هناك، كانت غرفتي قرب جناح الرئيس. جاءني عسكري سعودي وقال لي الشيخ رفيق الحريري يريد أن يراك. ذهبت فوجدته يتمشى في الممر، وكان الأمير سعود الفيصل (وزير الخارجية) دخل الى الاجتماع بين الملك والرئيس. في البهو الواسع تمشينا نحو ساعة، الرئيس الحريري وأنا، وكانت بداية التعرف الفعلي. دار النقاش حول القتال الدائر في المنطقة الشرقية بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، وكانت لديه أسئلة حول «التباطؤ السوري في حسم الوضع»، كانت لديه الشكوك نفسها التي كنت اسمعها من الرئيس الهراوي حول خلفيات التردد السوري في الحسم فشرحت له اسباب تأخر الحسم العسكري على نحو ما ذكرت سابقاً، وكان غير مقتنع على غرار الهراوي. حين انتقلنا الى العشاء الرسمي أمسك بيدي وأجلسني قربه، بعدها توجهنا الى الصالون وتابعنا الحديث الى درجة أن بعض الحاضرين اعتقد أن بيننا صداقة قديمة.

ألم تكن سمعت عن أدواره السابقة في الثمانينات؟

- بلى، لكن لم تكن هناك معرفة شخصية. أنا كان مجال عملي في البقاع. المرة الأولى التي ظهرت فيها في بيروت كانت في 5/1/1990 نزلت مع الرئيس الهراوي. الرئيس الهراوي انتخب في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) بعد يومين في الفندق انتقل الى منزلي في أبلح وفي 6 كانون الاول (ديسمبر) انتقل الى مقر قائد المنطقة وفي 5 كانون الثاني (ديسمبر) نزلنا ليلاً الى بيروت. في تلك الفترة كان مجلس الوزراء يعقد في ثكنة الجيش في ابلح. والحكومة الاولى كانت برئاسة الدكتور سليم الحص.

هل كنتم تسجلون مداولات مجلس الوزراء؟

- لا توجد أسرار عظيمة تستدعي ذلك. أسرار الدولة اللبنانية لا تكون في مجلس الوزراء. اذا أرادوا فضح سر يطرحونه في مجلس الوزراء. كان الرئيس الهراوي يطلب مني ان نؤمن غداء للوزراء. كنت أطلب الطعام من مطعم «الاوبرج» في شتورة. في الغداء الاول قال لي: «خليك تغدى معنا». صادف مكاني قرب محسن دلول الذي كان عُيّن وزيراً للمرة الاولى في حياته وأُعطي وزارة الزراعة. الرئيس الهراوي يعرف بالزراعة. كان امام الوزير دلول صحن كبيس مشكل وأمام الرئيس الهراوي صحن مشابه. أمسك الرئيس الهراوي قطعة من صحن الكبيس وقال لدلول: «يا وزير الزراعة ما هذه؟. امسك الوزير دلول من صحنه قطعة مشابهة وأجابه: «انها بطاطا مكبوسة». وجه السؤال الي فأجبته: «هذا قلقاس». فقال الهراوي: «آخ على وزير للزراعة لا يميز البطاطا من القلقاس». كان يحب المزاح.

أعلى الصفحة

متى طلب الرئيس الهراوي ازاحتك؟

- عندما كنت مساعداً لمدير الاستخبارات في الجيش. عندما تولى الحريري رئاسة الحكومة بعد ثورة الدواليب، ضد حكومة الرئيس عمر كرامي، بدأت الفروقات تظهر بين الحكم وقيادة الجيش حول مواضيع عدة. أقام العماد لحود، قائد الجيش، سداً قوياً في وجه تدخّل السياسيين في المؤسسة العسكرية وكنّا ننفذ هذه السياسة. تعرض الرئيس الهراوي لانتقادات في الاعلام فاعتبر انني أدير اللعبة ضده. في المناسبة الرئيس الهراوي معجب بعالم الاستخبارات. ربما لو لم يفز بالرئاسة لأحب ان يكون مديراً لجهاز الاستخبارات.

الحقيقة ان الرئيس الهراوي كان معجباً بالمدير السابق للاستخبارات في الجيش اللبناني جوني عبده. اتُهم عبده بما اتُهمنا به لاحقاً لجهة تركيب حكومات وترشيح وزراء. وقيل انه دعم توزير الهراوي في عهد الرئيس الياس سركيس. بين الهراوي وعبده صداقة متينة. اكتشفت ذلك حين نزلنا معه الى بيروت. كانت علاقته بعبده حميمة.

كيف اكتشفت ذلك بالتنصت على الرئيس؟

- لا. كان يومياً يتصل به واحياناً من امامي، ويبحث معه مختلف الشؤون. الرئيس الهراوي ليس معقّداً في هذه المسائل.

كان عبده اذاً صديق الرئيس الهراوي والحريري وهذا يعني انه كان مؤثراً؟

- كان من الطبيعي ان يتحول جوني عبده، المقيم في الخارج، حالة خاصة بسبب علاقته مع الرئيسين، مع كل ما كان يمكن ان يثيره اسمه من حساسيات في ضوء تولي عبده مسؤوليات خلال الفترة الماضية، وككل مدير مخابرات يغادر موقعه في ظروف استثنائية، فإن جوني عبده وجد نفسه بعد الوظيفة امام عداوات كثيرة تستطيع الإضرار به، وصداقات عديدة لا تستطيع أو غير مستعدة لنفعه، وحالته هنا مشابهة لجميع من تولى مسؤولية امنية ثم تنحّى عنها نتيجة تطورات استراتيجية.

هل شاركت في اضطهاد جوني عبده؟

- أفضل أن توجه السؤال اليه. نحن لا تجمعنا سياسة لكن الخصام بيني وبينه ضمن أصول اللعبة.

تعرضت زوجة عبده لحادث؟

- هذه القصة يعرفها جوني. أنا ضد اللاأخلاق في الأمن. أنا مع القسوة في الامن او الشدة حين يقتضي الامر ومع من يستأهل، ولست مع الاجرام او قلة الأخلاق. الأمن يضايق الناس أحياناً. لكن ثمة فارق بين ان تضايق الناس وان تكون بلا اخلاق معهم. ال»اف بي اي» في اميركا مثلا يراقب شخصاً بمعرفته. يتابعه على مدار الساعة. هذا يضمن أمن المراقب لكن يزعجه. هناك فرق بين بعض الازعاج وقلة الاخلاق، كالاقدام على ضرب امرأة.على كل حال، وتعبيراً عن رفضي لمثل هذه الممارسة فقد بادرت الى الاتصال بالسيدة عبده في حينه مبدياً كل الادانة والاستعداد للمساعدة.

هل صحيح انك كتبت في الصحف مقالات بلا توقيع او بتوقيع آخرين، هل تكتب جيدا؟