جميل السيِّد يتذكر
الجزء التاسع والأخير
هل راودتك فكرة السفر الى خارج لبنان؟
- يُمكن أن أسافر وأعود لدواعٍ خاصة. وقد سافرت الشهر الماضي لمدة اسبوع.
هل يُساورك قلق من مجيء حكم يُريد أن يصفي حساباته معك؟
- اذا كانت هنالك مآخذ قانونية عليّ فليس عندي مشكلة. امّا اذا كانت المسألة مجرد انتقام، فأعتقد انه سيصيبهم ما اصابنا اذا فعلوا، لانهم بذلك يؤسسون لمنطق سيرتد عليهم. شخصياً، لم انتقم من احد اثناء وجودي في المسؤولية. حتى عندما أقصي الرئيس الحريري في بداية العهد كان معظم اركانه يحضرون اليّ واتهمت باحتضانهم، من ميسرة سكر الى عبد المنعم يوسف وغيرهما...
اليوم وبعد مغادرتي الأمن العام صدر مع الأسف ما اعتبره قراراً انتقامياً قضى بوضع 14 ضابطاً بالتصرف. وكُلّف عسكريون عاديون بتفتيش أمتعتهم عند مغادرتهم مكاتبهم. هذا تصرف معيب لم يحصل مطلقاً في تاريخ لبنان. هؤلاء الضباط يجب تصحيح وضعهم لأنهم كانوا يقومون بواجبهم، ومن كان عليه مأخذ حيال أي منهم فليحاكم، ولكن لا يجب ان يدفعوا أي ثمن بحجة الانتقام من جميل السيد.
هل وصلتكم في الأمن العام معلومات عن «القاعدة»؟
- في لبنان تيارات من مختلف الاتجاهات السياسية والدينية، ومن الطبيعي ان يكون للقاعدة في لبنان بعض المحبّذين والانصار في الاوساط الاسلامية، لكن طبيعة التركيبة الشعبية اللبنانية لا تتيح كثيراً نمو الحركات الاصولية سواء داخل بيئتها ام خارجها.
هل تُشكل «القاعدة» خطراً في المرحلة المقبلة؟
- حالياً دخلنا في حقبة عوامل الخطر فيها أكبر من قبل. أولاً، القرار 1559 البلد مرشح للانتقال من استراتيجية الى أخرى، فيما الأمن سيضعف نتيجة انقضاض السياسة عليه وفقدانه الحماية المعنوية وتعدد الولاءات الشخصية. والأمن معنويات قبل أن يكون رواتب وامتيازات. عنصر الأمن هو عسكري براتب قليل ومعنويات مرتفعة، وحين يبقى الراتب ضئيلاً مع معنويات ضعيفة تصبح البندقية في يد عنصر الأمن بفعالية المكنسة، الامن معنويات قبل اي شيء آخر. اليوم، في لبنان، ونتيجة التطورات والمشاحنات التي اعقبت اغتيال الرئيس الحريري، كلمة الأمن أصبحت تهمة، فيما أراها أنا مفخرة وتضحية وشرف كبير لا يدعو للخجل. نحن في خطر نتيجة انتقال البلد من استراتيجية الى أخرى، ونتيجة الاضعاف المتعمد للأجهزة والمؤسسات الأمنية في لبنان واخضاعها لمنطق المحاصصة، سواء تكلّمنا عن خطر اصولي أو عن خطر آخر اكبر منه.
هل تنكّر لك نواب ووزراء كانوا يأتون اليك في مكتبك بعد الأحداث الأخيرة؟
- كان بابي مفتوحاً للجميع، وكون صلاحية الامن العام تتركز على الامن السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره، فإنّ سياسة الابواب المفتوحة تتيح التعرّف بصورة أشمل على الوضع ومعطياته. حتى في عزّ المناحرات السياسية بين السلطة والمعارضة كنت أتلقى اتصالات وزيارات من الطرفين، وكنت أزور وأُزار. اليوم، وبعد استشهاد الرئيس الحريري، كبرت المسافات بين الاطراف وباتت العلاقات محكومة بمنطق الانتقام والحقد المتبادل. لدي معارف وصداقات كثيرة، هل تنكّر بعضهم لي بعد ترك الوظيفة؟ أجيب بالاجمال ان كثيرين اخذوا جانب الحذر خوفاً من الإضرار بمصالحهم، وآخرون كثيرون ايضاً ثابروا على النمط القديم بالعلاقة، وأنا اتفهّم مواقف الناس عند الحشرة.
هل صحيح أن علاقتك لم تكن ودية مع وزير الداخلية السابق الياس المر؟
- لم يقع أي اشكال بيننا خلال فترة توليه حقيبة الداخلية. للمر طريقته الخاصة في العمل. وكانت العلاقة طبيعية بيننا ولم يحصل أي «كباش». والحق يُقال أن الوزير المر لم يُحاول التدخل في الأمن العام لتلبية طلبات شخصية، لعلمه بأن لا حصص طائفية لدي. ولو كان عندي حصص لطلب، فآل المر بيت سياسي.
هل راودتك فكرة الترشح للانتخابات النيابية؟ وهل لديك هواجس أبعد من ذلك؟
- أملك حقاً قانونياً في الترشح لكنني منطقي وموضوعي، وظروفي الحالية ليست موآتية للترشح. بعد 37 سنة من الخدمة في الدولة، غير مسموح لك ان تغامر مجاناً بسمعتك اذا كنت تحرص عليها. بالنسبة الي، وبعد درس معمق لمختلف المعطيات وجدت ان الافضل لكرامتي ألا اترشح للنيابة.
هاجسي الاساسي اليوم هو: الى متى يستطيع هذا البلد ان يستمر بالعيش من دون استخلاص العبر من مآسي الماضي؟ والى متى يتجاهل القيّمون على هذا النظام الطائفي بأنهم يكتبون نهاية البلد بايديهم طالما لم يلجأوا الى اصلاح جذري والى الغاء النظام الطائفي من جذوره؟ اليوم لبنان والمواطن فيه محكومان بالاعدام سلفاً في هذا النظام.
نظامنا الطائفي غير قابل للحياة، ويحمل في نفسه بذور انفجاره كل مرة، ويسمح بتسويات خاطئة، وعندما يكون القرار الصحيح جاهزاً يواجه ألف مشكلة. وهذه المشكلة ليست جديدة بل تعود الى ما قبل الاستقلال. تاريخ البلد يتكرر ولا احد يستخلص العبر للتصحيح، تاريخنا كله عبارة عن ازمات وتسويات مرحلية. يتغيّر مناخ اقليمي او دولي فتحصل ازمة مصيرية في لبنان بالنظر الى هشاشة النظام ورغبة هذه الطائفة او تلك بالانضمام الى المناخ الجديد في مقابل رفض طائفة اخرى. تحصل الازمة وينتظر البلد حصول تسوية لمعالجتها. احياناً لا تتوفر ظروف دولية او اقليمية للتسوية فيطول عمر الازمة وتتحول من ازمة سياسية الى ازمة مسلحة أو حرب اهلية الى ان تتوافر ظروف تسوية برعاية عربية وغربية. وهكذا دواليك: تغيّر مناخ خارجي ثم ازمة ثم تسوية أو حرب يعقبها تسوية، ثم تغيّر مناخ مجدداًً ثم... ثم... ثم.
باختصار، لبنان بلد غير مستقرّ حتى في عز استقراره، والسبب هو في النظام الطائفي والفساد الذي ينتجه مضافاً اليه انعدام الولاء للوطن والدولة بقدر ما يتجه الولاء للطائفة والمذهب والزعيم. هذا سلوك متخلّف لا ينتج وطناً ولا يُحيي دولة.
هل تحتقر السياسيين؟
- ليس احتقاراً لأن ذلك سيكون تكبراً مني. السياسيون يصلون الى مواقعهم من خلال نظام طائفي غير صالح. المشكلة فيهم ان معظمهم لا يريد ان يعي بان البلد بهذا النحو يسير الى الخراب والناس نحو الهجرة. تتساءل متى هذا الوعي؟ تتساءل في بلد طائفي ونظام طائفي، من ينهض بهذا الوعي؟ اذا قام به مسلم استنفر مسيحيون، وإن دعا اليه مسيحي استُنفر مسلمون. اذا قامت ثورة من تحت تحوّلت حرباً اهلية، وان قامت ثورة من فوق تحوّلت حصصاً ومغانم. باختصار لم تسنح فرصة للبنان ليحكمه ديكتاتور عادل، كما حصل في معظم البلدان التي شهدت اوضاعاً مماثلة في الماضي.
انت معجب بفكرة الديكتاتور العادل، صحيح؟
الرئيس الراحل الحريري مجتمعاً مع الوزيرين حمود وكرم والسيد في السراي الحكومي. - أريد أن أطرح سؤالاً: من صنع فرنسا الجديدة؟ وضع نابوليون قانونها المدني وأنشأ مؤسساتها الجامعية والقضائية والتنظيمية. من صنع المانيا الحديثة ووّحدها بعد حروبها الداخلية؟ بسمارك. من وحّد اسبانيا بعد 40 سنة من الحرب الاهلية؟ فرانكو.
في لبنان ديكتـاتوريات طائفية. في كل طائفة ديكتاتور يحكم طائفته ولا يقبل الثنائية فيها. ديكتاتوري في طائفته وديمقراطي مع الطوائف الاخرى. اذا كنت في بلد بـين خيارين: ان تحكمك ديكتاتورية مؤلفة من ستة ديكتاتوريين عن الطوائف، او تحكمك ديكتاتورية واحدة هي الدولة فأيهما تفضل؟
شخصياً افضّل ديكتاتورية الدولة العادلة على ديكتاتوريات الطوائف في الدولة إلى ان يتغيّر النظام الطائفي وتقوم دولة القانون والعدالة والمساواة والديمقراطية.
هل لديك علاقة خاصة مع «حزب الله»؟
-هناك علاقة ثقة مبنية على حماية المقاومة وهي أحد عناوين السياسة العامة التي تبنتها الدولة علناً في السياسة والامن، هذا بالاضافة الى قناعتي الشخصية بهذا الموضوع. حسن الممارسة يولد الثقة، وهذا ما حصل مع الحزب. حيث عالجنا بصورة مشتركة عدة ملفات شائكة في الجنوب وخارج الجنوب، وأوجد ذلك مناخاً من التعارف العميق والثقة.
ما نوع هذه الملفات التي تعاملتم بها؟
- كان هنالك ملف المفاوضات حول الانسحاب الاسرائيلي في العام 2000، ولم يكن ذلك ليحصل لولا تضحيات المقاومة، كان هنالك ملف تبادل الأسرى في أكثر من مناسبة، وصدف انني عُيّنت من قبل الدولة في هذين الملفين بالاضافة الى التنسيق بين الدولة والمقاومة وقوات الطوارىء الدولية.
بعد القرار 1559 يطرح بقوة موضوع تجريد المقاومة من سلاحها؟ ألا يصبح وضع سلاح المقاومة محرجاً فيما لو انسحبت اسرائيل من مزارع شبعا؟
- اعتقد بأن كثيرين يطرحون هذا الموضوع بصورة خاطئة، الجميع تقريباً يطرحون اسئلة عن سلاح المقاومة ومصيره وغير ذلك. اعتقد بأن السؤال الصحيح ينبغي ان يكون عن جدوى المقاومة قبل ان يكون عن سلاح المقاومة. السؤال الصحيح هو: هل لبنان في حاجة الى استمرار المقاومة؟ وعلى ضوء الاجابة عن هذا السؤال سلباً او ايجاباً، عندها يتحدد مصير هذا السلاح. فالسلاح هو نتيجة المقاومة وليس المقاومة هي نتيجة السلاح. إذاً فليكن النقاش الوطني حول هل نحن في حاجة الى مقاومة لا ان يكون نقاشاً تقنياً مستنداً الى حساسيات داخلية او ضغوط خارجية.
لكي نعرف الجواب الصحيح عن جدوى المقاومة، سواء انسحبت اسرائيل من مزارع شبعا أم لم تنسحب، ينبغي ان نقرأ الوضع الاقليمي حولنا ونسأل: هل السلام العادل والشامل قريب في المدى المنظور؟ هل هنالك مبادرات سلام في الأفق؟ هل يوجد حل لموضوع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان؟ هل تقبل اسرائيل بعودتهم؟ هل ستقوم دولة فلسطينية في الاراضي المحتلة؟ هل يمكن ان يحصل توازن عسكري بين جيشنا والجيش الاسرائيلي؟ هل هذا وارد؟ وطالما ان ذلك مستحيل، من يستطيع ردع اسرائيل عن الاعتداء ساعة تشاء؟ هل الضمانات الدولية تمنعها؟ هل الامم المتحدة تمنعها؟ هل استمرار وجود المقاومة في الجنوب يخلق توازناً رادعاً لاسرائيل يدفعها للتفكير مئة مرّة قبل المبادرة الى أي اعتداء، في غياب التوازن بين الجيوش؟ واذا نزع سلاح المقاومة فأي سلاح يبقى للبنان في دفاعه بوجه اسرائيل في غياب السلام؟ اعتقد بأن في اطار هذه الاسئلة فقط، وليس في اطار الحساسيات والضغوط، ينبغي ان تبحث مصلحة لبنان ومقاومته وسلاحها.
كيف عملت على حل قضية «الجيش الأحمر» الياباني؟
- طلبت اليابان من لبنان حل مشكلة «الجيش الأحمر» الذي كان قد انتهى نشاطه عملياً في العالم وكان يتبقى من نشاطه اربعة عناصر في لبنان، وكان يهم اليابان طي الصفحة سياسياً، وأحيل الملف رسمياً إلي. طلبت طوكيو تسليم العناصر الأربعة، ولكن لم تكن هنالك معاهدة تبادل مجرمين بين البلدين ولم يكوّن اليابانيون ملفات قضائية. كان التفاوض سياسياً امنياً. وبعد سلسلة من المفاوضات جرى الاتفاق ان من شارك بالمقاومة يبقى في لبنان ويحصل على لجوء سياسي، امّا من لم يشارك بالمقاومة فيرحّل الى بلد ثالث غير اليابان يكون مستعداً لاستقبالهم. انطبقت شروط اللجوء السياسي على واحد منهم مهترىء صحياً وعقلياً هو اوكاموتو، وجرى ترحيل الثلاثة الباقين الى الاردن الذي وافق على استقبالهم. اوكاموتو حالياً لاجىء سياسي يعيش في لبنان كأي مواطن ويأتي أشخاص من اليابان أسبوعياً وشهرياً لتفقده في لبنان، ووضعه لا يسمح له بأي نشاط جسدي او فكري وهو بحاجة لممرض دائم.
ماذا تقرأ؟ هل تقرأ عن العظماء؟
- لا أريد أن أقول أقرأ تاريخ العظماء، لأن ذلك يُعد جواباً روتينياً. في الأمن، أكثر شيء تفعله هو القراءة التي تشكل 70 في المئة من العمل. فاذا كنت تعمل 14 ساعة في اليوم تُخصص 10 منها للقراءة. وتقرأ من داخل لبنان وخارجه من الاقتصاد الى السياسة. أُحب القراءة منذ صغري. وفي كل فترة من عمري، أنجرف الى نوع معين من القراءة. فمنذ سنة بدأت بصورة متقطعة بقراءة التوراة، بعد أن فرغت من قراءة (اناجيل) بطرس ولوقا ومتى ويوحنا ورسائل بولس. وتكمن حشريتي في العثور على تشابه مع القرآن، الأمر الذي أمضي ساعة لمتابعته يومياً قبيل خلودي الى النوم. واكثر فأكثر أكتشف، سواء في القصص أو حتى في التفاصيل الصغيرة، بأن أوجه التشابه هائلة ومتقاربة، بحيث انك عندما تنظر حولك الى الحروب والمشاحنات الطائفية والمذهبية، والتي تتم باسم الدين جهلاً بعمقه ومضمونه، تكتشف كم أن مجتمعاتنا تتخذ الدين شكلاً لا جوهراً في حياتها ومسلكها، وأقول لو ان كل انسان كلّف نفسه عناء الاطلاع على دين سواه لوجد انه الدين نفسه، ولزال التعصب من الكون.
من هو شاعرك المفضل؟
- منذ صغري، عندي شغف بالمتنبي الذي هو حالة راقية. هذا الشاعر ذو ألم عظيم ويُعَدّ خلاصة الانسانية. كلما أراجع أعماله أكتشف أن وصفه لشخصيات في زمانه، يُلائم شخصيات أصادفها. المتنبي حالة متجددة ولم يخطىء بالتسمية التي أطلقها على نفسه.
من تُحب من المطربات: أم كلثوم أم نانسي عجرم؟
- بين الأمن والطرب لا يوجد أي جسر. وفترة ممارستي للأمن لم تمنحني فرصة الاطلاع على الجيل الجديد في الفن. لكنني مستمع جيد (سمّيع) وأقدر الصوت الجميل وهناك فرق بين «الطرطقة» و «الطرب». اذا أردت الاستماع الى «صوت جميل» ألجأ الى أم كلثوم، والى صوت مخضرم فهناك ملحم بركات. واذا رغبت في صوت يناسب مزاجاً هادئاً، أستمع الى فيروز. أما وديع الصافي فلا «نشبع منه» وهو صديق كرمناه في الأمن العام لأنه لحّن نشيد المديرية.
هل هناك تقارير عن الفنانات في الأمن العام؟
- نعم. هناك قسم للفنانات. لكن نتعامل معهم في أمور ادارية خصوصاً العرب والأجانب.
اذا عشقت مطربة سياسياً، هل يأتي تقرير بهذه العلاقة الى الأمن العام؟
- في الأمن ترى «المنيح والوحيش» حتى ولو لم تستثمره. لا أرى عيباً في ان تعشق المطربة سياسياً والعكس. شخصياً لا أنصح المطربة بهذا العشق...