مدرسة الحقوق الرومانيّة
ومما أعطى مدينة بيروت شهرتها العالمية، مدرسة الحقوق الرومانية، التي نشأت في أواخر القرن الثاني الميلادي، وازدهرت منذ أوائل القرن الثالث حتى منتصف القرن السادس الميلادي. وربما أسس هذه المدرسة سبتيموس سفيروس {193-211م}، وخلّد ذكره في بيروت بمعبد وتمثال. ودراسة القانون هي من الشروط الأساسية لتبوأ المراكز العليا في الحكومة. وأنشأ الرومان مدارس فقهية أخرى، في رومية الإسكندرية وقيصرية فلسطين وأثينا والقسطنطينية، لكن شهرة مدرسة بيروت تفوقت على تلك المدارس جميعاً.
وأخذ المشترعون الرومانيون يدرسون في بيروت، بعد أن تحولت مدرسة الحقوق إلى مركز فكري خلاق، كما تحولت بيروت مركزاً للدراسات اللاهوتية. وأثناء الاضطهاد الكبير للمسيحية، استشهد كثير من خريجي بيروت. والأسقف غريغوريوس النازيزي الذي اصبح أسقفاً للقسطنطينية، ثم طوّب قديساً، ذهب إلى بيروت ليتابع دروسه في القانون، وقد وصف بيروت {بالمدرسة الرومانية المحضة، وبالمركز الثابت لشرائع رومية}. وقال الشاعر نونُّس {بيروت موطن الحقوق ومدينة الفقهاء ومرضعة الحياة باللين والتؤدة}، وذلك في القرن الرابع الميلادي. وقد مدح أيضاً غابات الصنوبر في بيروت.
وترك لنا زكريا الغزاوي وصفاً لحياة الطلاب في بيروت. فهذا الطالب كان مسيحياً، يذهب إلى كنيسة القيامة في بيروت ليصلي بعد انتهاء الدروس. وكان يتمشى ناحية الميناء، وكانت الدروس تتوقف منذ ظهر السبت وحتى صباح الإثنين من كل أسبوع. وكانت مدرسة الحقوق تضم طلبة من جميع أنحاء المنطقة، وتفشت بين الطلبة ظاهرة معاقرة الخمر مع بنات الهوى والمقامرة. ومع ذلك كان الطلاب يؤسسون الجمعيات والمنظمات.
وكذلك قامت كليات للآداب والفلسفة، فلم تقتصر مدارس بيروت على علم القانون فقط، بل كان طلبتها يعكفون فيها على دراسة العلوم الدبية بفروعها، كاللغة والأدب والفلسفة، فاشتهر هرميوس البيروتي في التاريخ، وطورس البيروتي في الفلسفة، ولو بركوس البيروتي في اللغويات، ومناسياس البيروتي في فن الخطابة. وأشهرهم جميعاً بروبس البيروتي الذي عني بتنقيح كتب اللغة، وصنّف كتباً عديدة في الفصاحة والبيان والخطابة وأصول اللغة اللاتينية، حتى إن بيروت عدت بفضله كحاضرة الآداب في المشرق. كما يشار بالبنان في الطب إلى اسطراطون البيروتي.