كريم بقرادوني
يصعب على كريم بقرادوني رئيس حزب الكتائب اليوم ان يتحول رجلًا اول. وقد يكون ترؤسه لحزب الكتائب يعبر صراحة وجهارًا عن كون هذا الحزب قد تحول من حزب أول إلى حزب ثان او ثالث من حيث المرتبة والوزن والقدرة. حين يترأس بقرادوني حزبًا ويكون رجلًا اول فيه فهذا يعني ان هذا الحزب يعاني من زمن انحطاط وأزمات كبرى. بقرادوني رجل شهير في لبنان، ما زال في واجهة الأحداث منذ اوئل السبعينات، بل منذ ان كان طالبًا في الجامعة اللبنانية. رجل نشيط ولا يخالطه اليأس او يضربه حيال مستقبله. عمّر طويلًا اكثر مما يجب واكثر مما يحتمل عالم السياسة وزمنها في لبنان. والأرجح ان رجالًا على شاكلة بقرادوني يؤرخ لمواقفهم منذ لحظة سقوط احلامهم وتهاويها. فبقرادوني يقاس بنسخته الأخيرة دائمًا، النسخة التي وجد عليها حين تم ضبطه معزولًا وخاسرًا. تقلب في المواقف والاتجاهات، ولم يترك دربًا إلا وسارت فيه قدماه يتقدمهما رأسه ولسانه.
كان في حزب الكتائب معروفًا بعلاقته مع الفلسطينيين. العلاقة التي اقتصرت سبلها على لقائين او ثلاثة عابرين مع ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في منتصف السبعينات في بيروت. وهو ايضًا معروف بعلاقته بزعيم ومؤسس حركة امل الشيعية الإمام السيد موسى الصدر. ايضًا كانت اللقاءات عابرة وسريعة. لم يكن ممكنًا اصلًا في ذروة الانقسام الأهلي في سبعينات القرن الماضي ببيروت ان يلتقي ضدان متنافران غير لقاءات عابرة. لكن ذلك لم يمنع الكتائب ان تعتبر بقرادوني رجل الحوار مع الطرف الآخر. هذا يشي بمدى عمق الأزمة بين اللبنانيين يومذاك. فحين يكون منطلق الحوار عابرًا وسيارًا يدرك المرء ان الحوار مستحيل وان لا شيء مشترك يمكن الانطلاق منه. بعض المجاملات ربما، وتحقيق هدنات ليتسنى للمحاربين ان يجددوا قواهم. لم يكن رجل حوار بقدر ما كان رجل فك اشتباك، رجل تحقيق هدنات، عند اجتماع خصمين على حقيقة انتهاء جولة وابتداء اخرى.
لكن هذه الصلات نفسها هي التي جعلت بقرادوني ينجو من اهوال السياسة اللبنانية ولا يحرق كل اوراقه حتى اليوم. كان في الكتائب، وحين سئل ان كان يريد الالتحاق ببشير الجميل مؤسس القوات اللبنانية التي تغذت من اجسام القوى السياسية في المنطقة الشرقية من بيروت اثناء الحرب اللبنانية قال انه غير مقتنع بما يفعله بشير. لكنه ما ان اشار إليه بشير للالتحاق حتى اتى متحمسًا. اصبح واحدًا من اركان القوات اللبنانية، وبعد اغتيال بشير الجميل ناور وراوغ ووالى القادة الذين اتوا بعده. من فادي افرام إلى فؤاد ابو ناضر فإيلي حبيقة فسمير جعجع. والى لكنه ايضًا شارك في كل الانتفاضات. انتفض حبيقة وجعجع على ابي ناضر وكان بين المنتفضين، وانتفض حبيقة على جعجع وكان بين انصاره، ثم انتفض جعجع على حبيقة وكان من مدبري الانتفاضة. وفي عهدة سمير جعجع امضى بقرادوني جل نشاطه السياسي. لم يكن سياسيًا بالمعنى الفعلي، فزمن سمير جعجع كان زمنًا حربيًا بامتياز. انقلب الرجلان على حبيقة لأنه وقع الاتفاق الثلاثي، وما ان استتبت الأمور لجعجع حتى اخذ بقرادوني يجري اتصالاته بسوريا. كان يريد تطمين سوريا بدفع من جعجع ايضًا، إلى ان المسيحيين والقوات اللبنانية لا تضمر العداء لها.
بعد الطائف وفي عصر الرئيس الحريري، القي جعجع في السجن، حكم عليه بالمؤبد في جرائم اغتيال، ابرزها جريمة اغتيال داني شمعون. ظل بقرادوني طليقًا وان كان يشعر يومذاك ان اجنحته مقيدة. في الصراع الذي خاضه الاتحاد العمالي العام في منتصف التسعينات ضد الحكومة الحريرية والذي تحول سريعًا إلى صراع سياسي ضد سوريا اجتمعت قيادات على طاولة الميريلاند على شاطئ بيروت من الجهتين، الكتلة الوطنية بزعامة الراحل ريمون اده إلى جانب الحزب الشيوعي، وكريم بقرادوني إلى جانب كريم مروة.
كان جعجع في السجن حين اخذ بقرادوني يظهر في اجتماعات عامة للتنسيق والتشاور مع ممثلي "المردة" وهو التيار الذي اغتيل زعيمه طوني فرنجية في عملية قادها سمير جعجع في اهدن من اعمال شمال لبنان، المردة والكتائب تتكاتف مع رابطة الشغيلة. ما اضيق العيش لولا فسحة الأمل!
من هناك، ايد المحامي اللامع ترشيح اميل لحود لرئاسة الجمهورية. مراهنة ام حسن تقدير؟ الله اعلم. لكن الكتائبي العتيق الذي ذهب إلى القوات ثم عاد إلى الكتائب امينًا عامًا فنائبًا للرئيس كان يعرف ان جدرانًا صفيقة تقف حائلًا امام استمراره على قيد الظهور السياسي. لم يترك مناسبة إلا ظهر فيها محاولًا الظهور بمظهر الرجل المنفتح على الحوار. وهذه وسيلة لدوام الاشتغال بالسياسة في لبنان من غير شغل حقيقي. هذا بلد تعصف به الأزمات على الدوام والحوار مطلب ملح في كل لحظة لكنه عسير المنال. الحوار الممتنع خبز هذا البلد اليومي وعليه تنشأ طائفة من المتكلمين كل مرة تتبادل المجاملات والتهاني لكنها لا تقدم ولا تؤخر.
كان بقرادوني في حيرة من امره. عاد اهل الكتائب وورثتها الأصليين إلى المطالبة بإرثهم. الرئيس امين الجميل عاد من منفاه زعيمًا والكتائب اصبحت شقين. شق يحمل الوكالة القانونية وشق آخر يحمل الوكالة المعنوية. في هذه الدوامة وجد بقرادوني نفسه مضطرًا للعب دور الكتائب التاريخي، لكنه هذه المرة مقلوبًا تمامًا. الكتائب والت رؤساء الجمهورية في لبنان. كانت على ما يقول حازم صاغية حزب العهد، الخزان الشعبي لرئاسة الجمهورية. لكن العهد هذه المرة يدير سياسة مقلوبة ولا تتفق مع منبت الكتائب واسباب نشأتها. العهد السوري التام الذي تم تدشينه في خطاب قسم الرئيس اميل لحود كان يرى ان المسيحية السياسية في لبنان هزمت من جوارها العربي والمسلم، وعليها ان تسلم بالهزيمة. كانت والحق يقال فكرة وجيهة لكن ابطالها كانوا قليلي الدراية بما يفعلون. بقرادوني والى العهد، قسر الكتائب على دور لا تحسن اداءه. اراد ان تكون الكتائب سلاح العهد الشعبي، وفي ولاية لحود اصبح بقرادوني رئيسًا للحزب، اول رئيس من خارج الطائفة المارونية. والى لحود وادرك انه لا خلاص له إلا بموالاته.
والحق انه دافع عن افكار العهد المتلجلجة كاتبًا في صحف عربية ومحاضرًا ومساجلًا. لكن ذلك لم يصل إلى اسماع احد. ليس بقرادوني من طراز الرجال الذين يقنعون احدًا بأن ما يقوله انما يصدر عن قناعة. انه رجل هدنات. كل اللبنانيين يدركون انه شخص متلون ومتقلب. هذا الوصف ليس دقيقًا، لنقل انه موال من غير انقطاع. وان تكون موال من غير انقطاع فأمر لا يصح حدوثه إلا في لبنان. ليس بقرادوني فريدًا في بابه، فثمة في لبنان موالون لكل العهود مهما اختلفت توجهاتها. ثمة من والى الفلسطينيين ووالى اعداءهم الإسرائيليين ومن ثم السوريين وصولًا إلى الأميركيين. يجدر بالسياسيين في العالم ان يتعلموا من هؤلاء حرفة التلون التي تجعل المرء مواليًا على الدوام. بقرادوني كان من هذه الفصيلة من السياسيين الذين يستطيعون ان يبدلوا اتجاه سفنهم بحسب الريح. يستند في هذا كله إلى تهويل بحدة الأزمة: قومجية مقلوبة. دائمًا يحذر بقرادوني من الهزيمة ومن الذوبان، اللحظات دائمًا حرجة وعلى المرء ان ينتبه لمواقع اقدامه جيدًا. ان يصغي للريح. لكن بقرادوني الذي يحسن الإصغاء لم يكن ربان سفينة يومًا ولم يتحول فاعلًا اساسيًا في الشأن السياسي اللبناني. على كل حال كان الرجل يدير علاقات سياسية وشخصية لا تحصى، لكنه كان في نهاية المطاف خادمًا للعهد الذي يخدم بدوره سوريا. سوري بالواسطة، من رجال لحود وهو رجل سوريا في لبنان.
الإدارة السورية باركت تحول الكتائب. هذا تنظيم يملك وكالة قانونية عن القوة الرئيسية التي حاربت سوريا وتحالفت مع اسرائيل. مثل هذا التحول يعتبر نصرًا معنويًا لسوريا وهي تباركه على الدوام. لكن رجال السوريين في لبنان تقرر عديدهم منذ زمن. حزب الكتائب القانوني مفيد لكنه ليس اساسيًا. لهذا بدا اقصى ما يطمح إليه الرجل الثاني او الثالث، كريم بقرادوني، ان يصبح خطيب العهد المفوه. ان يقضي نحبه تائبًا وليس متمردًا. كان يرى بأم العين مصائر رفاقه، سمير جعجع مسجون في اقبية وزارة الدفاع اللبنانية، ميشال عون منفي، وامين الجميل شبه منفي. هكذا حط الرجل رحاله ولم شتات حزبه المنهك والتحق بالعهد المدعوم سوريًا رجلًا ثالثًا. كوفئ بوزارة في آخر حكومات الحريري. لكن هذا اقصى ما استطاع الحصول عليه. كان الرجل في المشهد العام مثالًا حيًا عن هزيمة المشروع الذي مثله حزبه. وحين يكافأ فإنه يكافأ من باب اقامة الشاهد على ان العهد السوري في لبنان يملك من الحلم وطول الأناة ما يجعله يقرر العفو عند المقدرة.
كتائب كريم بقرادوني كانت بالنسبة للإدارة السورية مجرد دليل حي على هزيمة المشروع الكتائبي. هزيمة المشروع تعني انتصار سوريا وحلفائها. اليوم تغيرت الأوضاع، وصار لزامًا على كل الذين والوا سوريا ان يشتروا بقاءهم قيد التداول السياسي بأثمان باهظة. ثمة الكثيرون لديهم ما يدفعونه من ارصدتهم في هذا المجال. لكن كريم بقرادوني يبدو من دون رصيد. الأرجح ان الرجل سيفتش عن محراب يقبل فيه تائبًا. لكن ما يقدمه لقاء توبته ليس بالشيء الكثير. ربما وجب على حكام لبنان الجدد ان يتذكروا المثل الذي مر ذكره: العفو عند المقدرة
عودة لصفحة رجال لبنان السوريون
[ أعلى الصفحة]