سليمان فرنجيّة
يتحدر الوزير سليمان طوني فرنجية من عائلة سياسية مارونية شمالية. جده لابيه سليمان بك فرنجية رئيس جمهورية لبنان بين عامي 1970 و1976، وفي عهده اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية. واخو جده هو حميد فرنجية ابرز رجالات الاستقلال الموارنة ومرشح الرئاسة الأبرز لخلافة اول رئيس استقلالي بشارة الخوري، والذي نازعه على المنصب الرئيس الراحل كميل شمعون. ووالده طوني سليمان فرنجية وزير الاتصالات في حكومة عهد فرنجية الأولى ومؤسس لواء المردة الذي شارك إلى جانب الكتائب والأحرار في الحرب اللبنانية. والذي اغتيل عام 1978 على يد مجموعة من القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع الذي اصيب في تلك الحادثة. نجا سليمان فرنجية من تلك الحادثة وتربى في كنف جده سليمان وورث عنه زعامة العائلة بعد وفاة الرئيس الجد عام 1992. ويمكن تحديد نقطة انطلاق تاريخه السياسي مع بدء استتباب السيطرة السورية على لبنان واستوائها فاعلة ومقررة في المؤسسات الرسمية اللبنانية واحكام سيطرتها على القوى السياسية اللبنانية كافة. وريث الزعامة السياسية العائلية لم يخالف الخط الذي اختطه جده الراحل في التحالف مع سورية، وفي المحافظة على زعامة حاشدة في منطقته تشق عصا الطاعة عن شبه اجماع مسيحي على معارضة سورية وسياساتها في لبنان.
لا شك ان جريمة اغتيال طوني فرنجية لها اثر في خيارات فرنجية الحفيد، فالجريمة نفذت على ما يقول قائدها رئيس حزب القوات اللبنانية المحكوم بالسجن المؤبد في لبنان الدكتور سمير جعجع، بقرار من بشير الجميل وارث زعامة آل الجميل على حزب الكتائب، اقوى الاحزاب السياسية المارونية في ذلك الحين والذي كان يشكل عصب القوة المسيحية التي شاركت في الحرب الأهلية والتي اقامت علاقات مع اسرائيل في ما بعد كان من نتيجتها ان انتخب الشيخ بشير الجميل رئيسًا للجمهورية اللبنانية في ظل الاحتلال الاسرائيلي لبيروت. ومنذ استتباب الأمر للسيطرة السورية على لبنان عمدت الإدارة السورية إلى تصفية جهاز القوات اللبنانية العسكري والأمني، وهذا مما يثلج صدر الزعيم الشمالي على المستوى الداخلي اللبناني، حيث يزاح من طريقه عقبة كأداء تمثلت في قائد القوات اللبنانية نفسه الذي كان قد بدأ بإرساء زعامة شمالية تجاور معقل آل فرنجية في اهدن وزغرتا في شمال لبنان، وتقيم توازنًا بين القصبتين الكبيرتين: بشري مسقط رأس جعجع واهدن مقر آل فرنجية الصيفي.
لكن الثارات التي تعصف بأحوال العائلات السياسية في لبنان لا تلخص الأمور جميعًا وتختصرها. فالحفيد سليمان فرنجية والى جده على الخطى التي اختطها للزعامة. والجد الذي كان قوي الشكيمة وشديد البأس كان يرى من جهة ثانية ان علاقة لبنان بالداخل العربي ليست شانًا عارضًا وينبغي الانصراف عنه كلما لاحت لنا الفرصة. والحق ان الجد هو الذي دافع عن القضية الفلسطينية في مجلس الأمن في خطاب شهير عام 1970، وهو الذي دعم سورية في حرب اكتوبر العام 1973، وهو الذي ارسى دعائم ومبررات الدخول السوري إلى لبنان رئيسًا لجمهوريته، صيف العام 1976 لنجدة المسيحيين من احتمال هزيمتهم امام قوات الحركة الوطنية بزعامة كمال جنبلاط والمتحالفة والمدعومة من قوات منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة الرئيس الراحل ياسر عرفات.
لكن المسيحية السياسية في لبنان كانت تريد من سورية ان تدعمها في حربها الداخلية ثم تعود لتسليمها الحكم مثلما كانت عليه الحال من قبل اندلاع الحرب. فأصلت القوات السورية التي دخلت لبنان حروبًا صغيرة كانت القشة التي قصمت ظهر بعير العلاقة المتينة بين زعامة آل فرنجية وزعامات بيروت والجبل المارونية في الحرب اللبنانية. ادار فرنجية ظهره لحلفاء الأمس واحتكم إلى منطق الجغرافيا الذي يربط شمال لبنان ببوابة وحيدة هي بوابة الداخل السوري. والحق ان الحفيد شب عن الطوق في السياسة ليجد زعامته محكومة بهذا التحالف المنطقي إلى حد بعيد. كان الأمر بالنسبة له لا يعدو كونه استجابة لظروف قاطعة الوضوح، فالزعامة المارونية الشمالية لا تستطيع ان تقطع صلات الرحم مع الزعامات السنية في طرابلس وعكار، وهذا يبدو من بديهيات التحالفات السياسية في لبنان. فأخو جده حميد فرنجية تحالف مع عبد الحميد كرامي في الانتخابات النيابية التي جرت في لبنان قبل الاستقلال ضد اميل اده الذي كان يدعو إلى بقاء الانتداب الفرنسي في لبنان، والذي كان يتزعم موارنة جبيل وقضاءها المجاورة لمعقل آل فرنجية. ولم يشذ خلفه في الزعامة عن قاعدة هذا التحالف إلا في فترة وجيزة من فترات الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1976. لكن العلاقات الوثيقة بين العائلتين استمرت مع الورثة، وما زال الوزير سليمان فرنجية يقيم تحالفاته الانتخابية والسياسية مع حليفه السني الشمالي عمر كرامي ابن عبد الحميد الاستقلالي ووارث الزعامة من اخيه رشيد الذي تم اغتياله بتفجير طوافته عام 1987 واتهم سمير جعجع بتنفيذ العلمية يومذاك.
ولاء آل فرنجية لسورية له تاريخ وحيثيات. تاريخ طبيعي يتعلق بطبيعة المنطقة التي يتزعمون موارنتها، وتاريخ شخصي يتمثل بعلاقات الصداقة مع رجال الحكم السوري في عهد الرئيس حافظ الاسد كما في عهد خليفته بشار. فثمة صداقة شخصية كانت تجمع بين الرئيسين سليمان فرنجية وحافظ الأسد تطورت لتصبح صداقة عائلية، هذا فضلًا عن علاقات العائلة بمعظم القيادات السورية ولعل ابرزهم العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري التاريخي وصديق الرئيس السوري الراحل على مر العقود. ومن دارة فرنجية في اهدن اعلن العماد طلاس استمرار صداقة سورية دولة وشعبًا للوزير سليمان فرنجية، ووالاه فرنجية بالتأييد لسورية وخطها الوطني. وهذا التعبير الذي تحول مجالًا للتندر في اوساط المعارضة اللبنانية، هو تعبير سليمان الحفيد الأثير. فكثيرًا ما يردد عبارة "الخط" قاصدًا من ذلك التحالف والولاء مع سورية وخطها "الوطني والقومي في المنطقة".
في مناطق جبلية كالتي يقيم فيها آل فرنجية تتخذ صفة الوفاء بعدًا حاسمًا. فالوفاء هو الصفة الأبرز التي تقام التحالفات العشائرية والعائلية على اساسها. فلا وزن للمصالح المباشرة او الانقسامات الاجتماعية في هذا الضرب من العلاقات. لكن ولاء آل فرنجية لسورية ليس وليد هذه الصفة ما قبل التاريخية بالتحديد. بل ان الوفاء يصبح تنويعًا اهليًا على مصلحة سياسية بالغة الأهمية. حيث ان زعامة آل فرنجية في الشمال الحاشدة والوثيقة العرى في ما بينها تحتاج حاجة ماسة لأن ينوب التماسك العائلي والمناطقي المتنوع المشارب والطوائف عن حجم الموارد الذي يجعل من هذه الزعامة قادرة على التأثير في مسالك واحوال الطائفة المارونية وزعاماتها في بيروت والجبل، وحتى في جبيل القريبة من اهدن. وتأثير القوى الطائفية لا يقاس ابدًا بحجم عديدها وقدرتها على الحشد في المناسبات الكبرى، بل ايضًا واساسًا بحجم مواردها التي تتمتع بها في العمران والاقتصاد والثقافة والاجتماع المديني والتي تجعل من هذه الطائفة او غيرها جزءًا اساسيًا ولا غنى عنه في انتقالها من الحيز البيولوجي المتمثل في العدد إلى الحيز الثقافي المتمثل بالدور. وحيث ان الشمال كان ولا يزال على الدوام مهمشًا في الاقتصاد والثقافة والمؤسسات اللبنانية، وحيث ان زعامة آل فرنجية بعيدة نسبيًا حتى عن طرابلس عاصمة الشمال ذات الطابع السني، لا يبقى لها إلا التضامن العائلي وحسن ترتيب التحالفات مع الزعامات القريبة، والاحتكام إلى منطق الجغرافيا حصرًا ومن دون اي تعديل. ففي حين تلعب الأدوار الاقتصادية المتغيرة على الدوام والتي تؤثر فيها رياح الخارج كثيرًا وعميمًا دورها البالغ الاهمية في تغيير التحالفات المحلية والخارجية، فإن فقدان الدور او تضاؤله يجعل العائلة او الطائفة محكومة بأحكام الجوار الجغرافي لا اكثر ولا اقل. لهذا يبدو الاحتكام إلى احكام الموقع الجغرافي اساسيًا في تجربة الوزير سليمان فرنجية وتثبيت زعامته الشمالية، وربما تجدر الإشارة إلى ان ابرز رموز المعارضة اللبنانية اليوم سمير فرنجية، وهو ابن حميد فرنجية زعيم آل فرنجية بلا منازع ورجل الاستقلال الذي فاضت زعامته عن حدود منطقته إلى لبنان برمته، لم يستطع ان ينافس حفيد عمه في الزعامة المحلية. ذلك ان ابن حميد فرنجية يتحدث بلغة لا يفهمها منطق التحالفات العائلية، والأرجح انه كان على طول الخط يحاول تجاوز الزعامة العائلية نحو دور سياسي على مستوى الوطن ككل. مما جعل زعامته للعائلة تضمر من دون ان يوقف ضمورها اي شيء.
من جهة ثانية لا يبدو التحالف مع فرنجية من جهة الادارة السورية وفاء لصديق قديم صاحب دور بارز. فالوزير سليمان فرنجية هو اثقل زعماء الموارنة وزنًا في الضفة الموالية لسورية وسياساتها في لبنان, وبغيابه عن الصف الماروني العريض المعارض لسورية يمنع هذا الصف حكمًا من ادعاء اجماع الموارنة على رأي وموقف واتجاه. الأمر الذي لا يستطيع تأمينه غيره من القيادات المسيحية الموالية لسورية. ليست زعامة آل فرنجية تفصيلًا نافلًا في زعامات البلد بل هي زعامة راسخة وتستطيع ان تحشد وتمثل وتعطل حين يكون التعطيل ممكنًا.
ليس سليمان فرنجية متكلمًا فصيحًا ولا تتدفق افكاره وتتدفق معها الفاظه. وهو إلى ذلك ليس مساجلًا بارزًا. لكنه حين يعتصم بأهله وعزوته يستطيع ان يواجه بكركي ويطعن في تمثيلها. والراجح انه بين الزعامات المارونية، يكاد يكون الزعيم الوحيد الذي تحكمه الجغرافيا إلى هذا الحد. لهذا ليس مستغربًا ان ينزل إلى المظاهرة الحاشدة التي قادها حزب الله مدججًا بأنصاره. فانفكاك هذا الزعيم عن احكام الجغرافيا المقيدة لا يتم إلا باحتمال من اثنين:
الأول ان يتحول شمال لبنان بفعل خطة تنموية طموحة ورشيدة إلى جزء اساسي ومقرر في ثقافة البلد واقتصاده وعمرانه. والثاني ان تضعف سورية إلى الحد الذي تصبح معه ساحة لأدوار خارجية كما كانت حال لبنان طوال العقود الثلاثة الأخيرة. وقد يكون انضواء فرنجية تحت راية حزب الله الذي يقود اليوم شطرًا اساسيًا من اللبنانيين اول تعبيرات واشارات الخروج الزغرتاوي - الاهدني من اسر الجغرافيا والدخول في الشأن اللبناني العام من بابه العريض. لكن هذا الدخول يحصل اليوم وسورية ضعيفة. ذلك يعني ان الاحتمال الأول القاضي بضم الشمال إلى لبنان الثقافي والاقتصادي والعمراني هو المطلب الحقيقي ليكون لبنان حقًا وطنًا لكل اللبنانيين وآل فرنجية في القلب منهم.
عودة لصفحة رجال لبنان السوريون
[ أعلى الصفحة]