طلال أرسلان

ورث الأمير طلال ارسلان زعامته عن والده الأمير مجيد ارسلان. احد رجالات الاستقلال الأبرز. وكان بين الوزراء الذين لم يتم اعتقالهم من قبل السلطة الفرنسية في العام 1943. لكنه سرعان ما انتقل مع باقي اعضاء الحكومة والمجلس النيابي إلى قرية بشامون الدرزية واعلنوا من هناك استمرار عمل حكومة الاستقلال. الأمير مجيد ارسلان ورث اتجاه زعامته الحاشدة من الدور البارز الذي قام به اسلافه في الثورة العربية عام 1925 الأمير شكيب والامير عادل ارسلان.

كان دور المواطنين الدروز في حماية الحكومة الاستقلالية كبيرًا. وخاضوا يومذاك معارك مع جيش الانتداب الفرنسي، وحموا اركان الاستقلال وسقط منهم شهداء على هذه الطريق. على كل حال المسافة الزمنية بالغة القصر بين سنة 1943 و1925 ايام الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش في جبل الدروز في سورية والذي دعي يومذاك جبل العرب نظرًا لدور الأمير الراحل سلطان باشا الأطرش المميز، مع ما يعنيه زمن الثورة من تواصل بيّن وواضح المعالم بين الجبلين، جبل الدروز السوري وجبلهم اللبناني، حيث كان يقودهم في لبنان الامير عادل أرسلان وكان من رجال الثورة المبرزين ومتكلميها البليغين.

 عاش الأمير مجيد وزيرًا شبه دائم ونائبًا محفوظ المقعد والمكانة طوال حياته في لبنان. وعاصر تغيرات هائلة في اوضاع الطائفة واحوالها، لم يكن في مكنته على الأرجح ان يحول دون تأثيرها على زعامته. كان الأمير مجيد ارسلان في عز سطوته حين برز الجنبلاطي الشاب زعيمًا للحزب الجنبلاطي في المختارة. كمال جنبلاط منذ بداياته كان زعيمًا لامعًا، وسرعان ما احتل موقعًا مميزًا في الوسط السياسي اللبناني وتحول إلى احد اركان السياسة فيه. لكن زعامة جنبلاط لم تقتصر على حدود طائفته، فهو ايضًا كان زعيمًا لبنانيًا كبيرًا وله موقع في العالم العربي بالغ التأثير وعالي الشأن، وكان صاحب صلات قوية بالاشتراكيات الدولية من الاتحاد السوفياتي إلى الهند. ومع كمال جنبلاط خبا وهج الزعامة اليزبكية وبدا لبنان بأسره وليس الطائفة الدرزية فحسب يحسب لهذا الزعيم المثقف ألف حساب.

بعد اغتيال كمال جنبلاط عام 1977 آلت مقاليد زعامة الجنبلاطيين إلى ولده وليد، الذي تمرس في السياسة والقيادة في ظروف بالغة الصعوبة، استمر فيها على الدوام لاعبًا اساسيًا من لاعبي السياسة اللبنانية. من قيادته للحركة الوطنية في مواجهة الدخول السوري إلى لبنان بين عامي 1977 و1979، إلى الاحتلال الاسرائيلي عام 1982، وصولًا إلى حرب الجبل ضد القوات اللبنانية وحكم امين الجميل واسقاط اتفاق 17 ايار وانتهاء بمعاركه ضد ميشال عون ودوره في اتفاق الطائف.

كرس وليد جنبلاط زعامة هائلة في جبله. وكانت الزعامة في قمة توهجها يوم تسلم الأمير طلال دار خلدة وارثًا والده صاحب الإرث الكبير والزعامة التي فقدت القها بالتقادم وكبر السن وبتأثير الجنبلاطية المتوهجة. وجد الأمير طلال ارسلان نفسه في وضع صعب. فبعد وفاة والده كان يحتاج إلى اثبات كفاءته في القيادة خصوصًا ان اخاه البكر فيصل كان قد استقر في دارة الوالد في عاليه في حين ان الاميرة خولة ارسلان زوجة الامير مجيد حملت ابنها طلال إلى دار خلده ومن هناك ساعدته بقوة حضورها وقدراتها المشهودة وعلاقاتها على تثبيت زعامته على البيت اليزبكي والانطلاق في عالم السياسة اللبنانية الشائك. أطل الأمير على المشهد السياسي اللبناني العام في وقت كانت فيه الإدارة السورية تحكم قبضتها على مجمل الوضع السياسي العام في لبنان وتمسك برقاب ومفاصل قواه الأساسية.

ولا يخفى على كل ذي نظر ان الجنبلاطية ليست مأمونة الجانب بالنسبة للنظام السوري، والقادة السوريون كانوا ما زالوا في مواقعهم منذ المعركة التي قادها كمال جنبلاط ضد سورية. لكن الجنبلاطية كانت وازنة في الشارع وفي المشهد السياسي الأعم، ولم يكن من المستحسن اصلاءها نار العداوة الحامية، خصوصًا ان وليد جنبلاط كان قد عقد احلاف وصداقات مع كبار المتنفذين في النظام السوري يومذاك: اللواء حكمت الشهابي رئيس الأركان التاريخي، ونائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام. لم يكن ثمة منفذ آخر امام الأمير الشاب الذي يعمل ضمن طائفة ينم وضعها الديموغرافي والثقافي عن تعقيدات لا تحصى. فلا يستطيع القائد الدرزي ان يستقل برأي وموقف بقوة طائفته وحدها وينجح في فرضه على اللبنانيين عموما. والحال فإن خيارات الامير الأرسلاني بدت ضيقة إلى حد واضح. فهو وريث الزعامة الأرسلانية العروبية الاستقلالية. في حين كان اسلاف كمال جنبلاط إلى هذا الحد او ذاك، وخصوصًا الست نظيرة جنبلاط، على علاقة ود ووئام مع الحكم اللبناني في ظل الانتداب الفرنسي.

ويمكن القول، على وجه الإجمال، ان الأرسلانية ممثلة بزعاماتها الكبرى كانت صاحبة خيار عروبي لا شائبة فيه، اما الزعامة الجنبلاطية فكانت رجراجة في هذا المجال خصوصًا في الزمن الذي سبق كمال جنبلاط، لكن وليد جنبلاط كان رقمًا صعبًا واساسيًا في معادلة العروبة السورية المتحكمة في رقاب اللبنانيين. لم يأت الأمير الأرسلاني امرًا أدًا حين اختار ان يلتحق بهذا الجانب دون ذاك، مع علمه ان زعامة آل جنبلاط المنافسة تحظى بعناية كبيرة في دمشق. لكن الخيارات معدومة على مستوى الإرث وعلى مستوى الوقائع ايضًا. فلم يكن ثمة من ينافس سورية في الهيمنة على لبنان او يملك مشروعًا بديلًا له قدر من النفوذ الفعلي في الواقع السياسي.

هكذا احتل الامير طلال موقعه في السياسة اللبنانية رديفًا. كان يشبه لاعب الاحتياط الذي يطمح لأن يحل محل الهداف. والحق ان وليد جنبلاط كان هداف الخطة السورية بلا منازع في الأعوام التي سبقت اتفاق الطائف وكان الفزاعة التي يرفعها نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام في وجه كل معارضي الاتفاق من المسحيين المجتمعين في الطائف.

لكن الإدارة السورية كانت تدرك ان جنبلاط ليس مواليًا على طول الخط. فالملمح الاستقلالي في زعامة آل جنبلاط بالغ الوضوح. والده كان عروبيًا واستقلاليًا في الوقت نفسه. بل كان يحمل مشروعًا اكبر من قدرات طائفته وبلده على احتماله.

كان زعيمًا كبيرًا حكمت عليه الأقدار ان ينتمي إلى وطن صغير محدود الموارد. كما ان الإرث الذي ورثه وليد عن اسلافه يتيح له انشاء علاقات وثيقة مع القوى التي تخشى المدى العربي. والحال فإن جنبلاط كان يستطيع الغرف حين يشاء من البئر التي تناسب مصالح طائفته وبقائها فاعلة في السياسة اللبنانية. على هذا لم تجد الإدارة السورية بدًا من محاصرة الزعيم الدرزي المتقلب. فرأت في تنمية ورعاية الزعامة اليزبكية موردًا من موارد القضم من الزعامة الجنبلاطية. مثلما انها شجعت ورعت الحزب القومي السوري الاجتماعي العلماني الذي نافس جنبلاط في درزيته وعلمانيته على حد سواء.

كانت الإدارة السورية تسعى لاستكمال الحصار، وكانت الزعامة الارسلانية المنسجمة مع تاريخها والمستحكمة الخلاف مع الزعامة الجنبلاطية تجد في الدعم السوري مصلحة عميمة. هكذا خيضت المعارك الانتخابية ضد جنبلاط بإدارة سورية على الدوام. والحق ان الأخير لم يكن قليل الانتباه فكان يسرع حين يستطيع او يجد سبيلًا لضرب المرتكزات السورية في الجبل او في قلب الطائفة. بدءًا من تحالفاته المفاجئة مع زعامة دير القمر المارونية إلى علاقاته التي لم تنقطع بالأحزاب اليسارية التي لم تلتحق بسورية، وصولًا إلى علاقاته بالرئيس الحريري التي سمحت له تثبيت زعامته على اقليم الخروب السني الذي يقع في قلب الجبل.

في كل هذا كان الأمير طلال ارسلان لا يملك من اوراق اللعبة إلا واحدة وحيدة وهي علاقته بالمسؤولين السوريين وإخلاصه في الولاء لهم. هكذا اشيع انه بين القلة القليلة التي استفتيت في دمشق في مسألة اختيار اميل لحود رئيسًا للجمهورية. واشيع عنه علاقات مباشرة مع ضباط المخابرات السورية، وترتيب صفقات امنية استراتيجية والمساعدة في تسهيل خطط المخابرات السورية في المنطقة برمتها من العراق إلى فلسطين فلبنان. كان الأمير في كل هذا رجلًا موثوقًا من قبل الإدارة السورية. والأرجح ان هذه الإدارة كانت تدرك انه ليس موثوقًا فحسب بل هو موثق إلى درجة يصعب الفكاك معها من اسر هذه المعادلة الخانقة.

كان الأمير يدرك انه خاسر دائمًا إذا ما احتكم إلى موازين القوى الداخلية، لهذا غالبًا ما كان يُفرض على جنبلاط، وبرغبته العميقة طبعًا، ان يترك له مكانًا شاغرًا في لوائحه الانتخابية لئلا يقع المحظور ويخسر آل ارسلان المقعد الموقوف لهم في المجلس النيابي. لكن الأمير المحشور في هذه الزاوية الخانقة لم يكن يتورع حين يجد في نفسه واحلافه القوة على مواجهة جنبلاط في ان يخوض معه معارك محدودة انما بالغة القسوة. على كل حال كان خصمه يبادله القسوة بمثلها في معظم الأحيان.

في الانتخابات البلدية الأخيرة خسر الأمير طلال ارسلان معركته ضد وليد جنبلاط في الشويفات وهو واحد من اهم معاقل الأرسلانية التاريخية. لكنه بالتحالف مع فيصل الداوود في راشيا وانور الخليل في حاصبيا ربح على جنبلاط في معقل من معاقل هذا الأخير البعيدة. لم يكن الربح في حاصبيا والخسارة في الشويفات متعادلين. فالشويفات تشبه المختارة والهزيمة فيها كبيرة معنويًا. على هذا لجأت السلطة اللبنانية إلى معاقبة جنبلاط على الربح فتمت ملاحقة مرشحه ورئيس لائحته قضائيًا بتهم غامضة، وجرى التضييق عليه إلى حد كاد ينذر بأزمة عاصفة. لكن هذه الأزمة لم تكن بعيدة في الزمن عن خروج جنبلاط النهائي على الرغبة السورية وتزعمه المعارضة المطالبة بإخراج جيشها من لبنان. فلم يتسع الوقت امام الأمير ليستفيد من انحياز السلطة القاطع ضد جنبلاط لينتزع منه ما يستطيع انتزاعه ويوسع حدود حركته.

الامير طلال ارسلان خانه الزمن مرات ومرات. كان من حظه دائمًا ان يأتي في الأوان الفائت. فهو ورث الزعامة غضًا بعد ان كان خصمه اللدود قد ارسى كل دعائمه. وهو اتى إلى سورية متأخرًا بعدما كان جنبلاط ركنًا من اركان النظام الذي تديره سورية في لبنان. وهو ايضًا وثق تحالفه مع سلطة تعادي خصمه، لكن الرياح الدولية كانت تسير في الوجهة المعاكسة لهما تمامًا. وهو أخيرًا والى سورية وهي تعيش ربع ساعة هيمنتها الاخير في لبنان. والاها حين كان الآخرون يستعدون للتفلت من نير حكمها الجائر.

ليس الرجل قليل الذكاء ولا مجهول الهوية او نكرة من نكرات السياسة اللبنانية الذين رفعتهم الإدارة السورية إلى مصاف القيادات. لكن الزمن كان عدوه في كل ما ذهب إليه. وهو الآن يعرف ان رياح سفينته هائجة، لكنه كالقبطان العاثر الحظ لا يستطيع القفز إلا بعد ان يقفز جميع الركاب.

عودة لصفحة رجال لبنان السوريون

عودة لصفحة الملف الأسود

 [ أعلى الصفحة]