كتب شاكر في تقريره أنه لم يضيع وقتاً في القاهرة. بل شرع في الحال في ممارسة عمله بصدق ... وكون صداقات عديدة مع رجال ونساء من فئات مختلفة من رواد الملاهي والبارات. وأهم صداقاته كانت مع ضابط مصري يدعى (م. ش. أ) تعرف عليه بأحد الفنادق. وأغدق عليه بكثير من الهدايا دون سؤاله عن أي شيء حتى لا يثير مخاوفه.
وكان التقرير الذي سلمه شاكر لضابط الموساد متخماً بالمعلومات التي أذهلت الضابط ... فأرسله بدوره إلى تل أبيب ... وجاءت الأوامر العاجلة بضرورة سفر شاكر لإسرائيل.
وتأكيداً لإخلاصه للموساد وافق شاكر بدون مناقشة، وتسلم جواز سفر إسرائيلي باسم (موشي إبراهام) ... وطار بطائرة العال الإسرائيلية إلى مطار (اللد)... ليجد الضابط هيدار بانتظاره... وكانت إقامته بتل أبيب في إحدى الشقق المعدة لأمثاله من الخونة .. وهي في العادة مجهزة بأحدث ميكروفونات التنصت والكاميرات الدقيقة.
وكعادة المخابرات الإسرائيلية لكي يضمنوا السيطرة على الجواسيس ... صوروه عارياً مع مديرة المنزل .. وهي فتاة في الثانية والعشرين خمرية اللون قالت له إن جذورها عربية. وأقامت معه الفتاة إقامة كاملة لخدمته ولراحته.
وفي مبنى المخابرات الإسرائيلية، اجتمع به عدة ضباط وخبراء ناقشوا معه التقرير المفصل الذي سلمه في قبرص، وكان بينهم الضابط هيدار ... وضابط آخر اسمه أبو يوسف ... وآخر مسؤول عن التجسس في لبنان، وبعد مناقشات طويلة، قال له كبير الخبراء:
Ø لقد سعيت إلينا بنفسك في قبرص، والآن .. نريد أن نتأكد من إخلاصك للموساد .. وأنك لست ضابط مخابرات مصري مدسوس علينا ... وهذا ليس ببعيد على المخابرات المصرية التي زرعت خبراء لها في جهازنا مرات عديدة.
صراخ شاكر محتجاً، وأكد لهم أنه لا يعرف أين يقع مبنى المخابرات المصرية، وأنه بالفعل ذهب بنفسه إلى سفارتهم في قبرص... رغبة منه في إثبات أهميته ووجوده بعدما أحاطه الفشل من كل جانب... وأيضاً ليحصل على أموال كثيرة تعينه على مجابهة أهله ومعارفه في مصر.
قال هيدار:
Ø أنت هنا في تل أبيب لتثبت لنا ذلك، ولكي نعمل معاً بأمان، فسنفحصك بواسطة "جهاز كشف الكذب".
ولم يحتج شاكر هذه المرة... بل أبدى رغبة جادة في تأكيد "إخلاصه" لهم بكل الطرق التي يرونها.
وأخضع بالفعل للفحص بواسطة الجهاز الأمريكي.. الذي أكد صدق خيانته لوطنه وانتمائه للموساد قلباً وعقلاً.
عند ذلك... ابتدأ تدريبه على أيدي أمهر ضباط المخابرات... الذين صنعوا منه جاسوساً خبيراً بفنون التصوير، وتشفير الرسائل، والكتابة بالحبر السري، ومسح الأراضي "الطوبوغرافيا" وكيفية التعرف على الأسلحة الحربية برية وبحرية وجوية، وتحديد قدرة تسلحها وطاقتها ومداها المجدي، وأعطى عنواناً في روما ليبعث برسائله المشفرة.
ومن المعروف أن المخابرات الإسرائيلية تخصص لكل جاسوس يعمل لحسابها شفرة خاصة به .. باستخدام "رواية" عربية معروفة أو أجنبية متداولة... تكون أساساً للإشارات الرمزية المتبادلة بينه وبين المخابرات الإسرائيلية .. ويجري تبديل هذه الرموز بين آن وآخر.
أيضاً تحدد المخابرات الإسرائيلية نوعية الحبر السري لكل جاسوس، فلكل حبر سري ميزات خاصة تؤكد أن مسكر الرسالة هو العميل نفسه المسلم إليه الحبر.
خريج الموساد في القاهرة
بعدما حصل شاكر فاخوري على دورات في التجسس، عاد ثانية إلى نيقوسيا ثم إلى القاهرة. وبدأ في الحال جمع معلومات وافية عن الجيش المصري والقوات الجوية بالذات .. وكذلك عن النشاط السوفييتي في مصر والخبراء العسكريين السوفييت، والأحوال عامة بعد غارات إسرائيل المستمرة على ضواحي القاهرة، وكان يستقي معلوماته من أفواه العامة من الناس ... على المقاهي وفي المواصلات العامة والنوادي الليلية في شارع الهرم .. حيث ترتادها كافة المستويات.
أما المعلومات العسكرية وأخبار الاستعدادات الحربية، ونشاط الخبراء السوفييت فكان يحصل عليها من العسكريين الذين يمتون إليه بصفة القرابة أو الجيرة. وأيضاً من خلال الضابط (م. ش. أ) الذي حمل إليه بعض الهدايا من قبرص على سبيل الذكرى.
لقد ركز شاكر كثيراً على هذا الضابط الذي استجاب له بسرعة .. وتبسط معه في الحديث وسرد الأخبار مما استتبع ملازمته لفترة طويلة طوال وجوده بالقاهرة، وعمل على منحه الدعوات المجانية للحفلات.. وبعض الهدايا الذهبية الثمينة في المناسبات المختلفة، والتي لا تتناسب وحجم علاقتهما.
كل ذلك أدى إلى تخوف الضابط المصري من سلوك الشاب، فبادر على الفور بإبلاغ جهاز المخابرات بشكوكه... ونقل إلى المسؤولين بالجهاز كل ما دار بينه وبين الشاب من أحاديث وما تسلمه منه من هدايا مختلفة.
تم عمل الترتيبات الأمنية اللازمة .. وكان هناك حرص زائد على ضبطه ومعه أدلة إدانته .. وطلبوا من الضابط أن يتظاهر بصداقته، وألا يجعله يشك في نواياه.. وأن يطلعهم أولاً بأول على مجريات الأمور.
وبعدما اعتقد شاكر أنه اشترى الضابط المصري بهداياه .. انتهز فرصة مروره بضائقة مالية "مفتعلة"، وعرض عليه إمداده ببعض المال.
وحسب الخطة وافق على طلب شاكر بجلب بعض الوثائق العسكرية... بحجة الاطلاع على استعدادات الجيش للحرب، ولبس الخائن ثياب الوطني المخلص الذي يحلم بيوم الثأر من إسرائيل، وبأن رؤية هذه الوثائق وشروحه عليها تسعده كثيراً... وتشعره بمدى قوة الجيش المصري، خاصة والطيران الاسرائيلي، قد بدأ يتساقط كالعصافير بعد اكتمال حائط الصواريخ، ولم تعد لديه الشجاعة على اختراق المجال الجوي المصري. وأمده الضابط بمعرفة جهاز المخابرات ببعض الوثائق، ولما تضخمت لدى شاكر الوثائق المعدة سلفاً حملها سريعاً إلى نيقوسيا، وامتلأت جيوبه عن آخرها بأموال الموساد، فعاد بها إلى القاهرة يحمل رغبة الموساد في تجنيد الضابط المصري، وكل مهمته منحصرة في إقناعه بالسفر إلى قبرص لعلاج ابنته، وهناك... سيتولى رجال الموساد اصطياده بالسيطرة عليه بتصويره عارياً مع عميلة إسرائيلية، وبمنحه آلاف الجنيهات.
عندما عرض شاكر على الضابط فكرة السفر إلى قبرص... تظاهر بالموافقة، وأخذ يماطله وفقاً لطلب المخابرات متحججاً بدراسة الطلب في قيادة الجيش، حيث كانت طلبات السفر خارج مصر تخضع لظروف عدة بالنسبة للضباط.
ولما طالت مدة الانتظار، أراد شاكر أن يذهب بالضابط إلى قبرص مجنداً... وترتفع بذلك مكانته في جهاز الموساد... وبالتالي يتعاظم رصيده المالي... فمنح الضابط مبلغاً كبيراً لقاء بعض الخرائط العسكرية، موضحاً عليها مواقع صواريخ "سام 6"، وكذلك المواقع التبادلية، وخرائط أخرى تبين محطات الرادار الهيكلية والصواريخ، وأيضاً خطط السوفييت لحماية المواقع الحيوية، وخطط اصطياد الطيران الاسرائيلي المتسلل إلى العمق المصري.
بل إن الخائن الذي اعتقد بالفعل أنه اشترى الضابط... طلب منه تصوير مواقع عسكرية، وإمداده بوثائق عن الخطط الدفاعية والهجومية العسكرية والأسلحة الحديثة، واستأجر الجاسوس الخائن شقة جديدة من أموال الموساد، خصصها للقاءاته مع الضابط و "تخزين" المستندات والخرائط بها.
وبعد عدة سفرات إلى قبرص بالمعلومات التي سربتها المخابرات المصرية إليه لينقلها إلى الموساد .. يعود شاكر بالأموال الطائلة، ينفق منها على ملذاته، ويشتري الهدايا للضابط ولأسرته.
وذات مساء عاد مخموراً من سهرة فسق، وعندما امتدت يده بالمفتاح إلى كالون الشقة، فوجئ بالباب ينفتح فجأة .. ويقف بالداخل عدة أشخاص كانوا بانتظاره ويترقبون مجيئه...
جذبه أحدهم إلى الداخل، وعلى المكتب رأى الأوراق التي جمعها.. خرائط .. ووثائق... وتقارير كتبها بخط يده، وصور لبعض المواقع العسكرية، وعدة أفلام خام لم يجر تحميضها..
وبينما كانت الأيدي تمسك به، ويتجه الركب إلى حيث ينتظره مصيره الذي خطه بنفسه .. أحس باندفاع بوله الدافئ بين ساقيه... وقال لمرافقيه:
Ø إلى أين ستأخذونني؟
فقال أحدهم:
Ø لتدفع ثمن خيانتك .. هذه الأرض التي تبولت عليها الآن رعباً .. منحتك الأمن والأمان فبعتها... بعتها لأقذر كلاب الأرض نجاسة وخسة .. فتعال إلى مصيرك المحتوم حيث لن ينقذك أحد من حبل المشنقة... !!