سكن الهراوي وعائلته مقر الرئاسة المؤقت (هو الآن مكاتب جريدة المستقبل، احدى وسائل الاعلام الحريرية في لبنان) لكنه ظل ايضاً تحت حماية جميل السيد، وكانت اوامر جميل حاسمة وأرادها ان تشمل الهراوي وعائلته ومرافقيه المدنيين والعسكريين ومستشاريه رجالاً ونساءً.. حتى ضاق الحال بالسيدة منى الهراوي، واشتكت لبعلها اوامر جميل السيد كما اشتكت ايضاً مستشارته الاعلامية مي كحالة، فاستغاث الهراوي كأول استغاثاته من جميل السيد بالرئيس حافظ الاسد وضاق الهراوي ذرعاً بمضايقات جميل الامنية وأوامره بل وتدخله في كل كبيرة وصغيرة حتى انه قال للرئيس الاسد في دمشق يا سيادة الرئيس جميل السيد بيلحقني عالحمام ببيتي..!! وهي احدى الاساليب التي يلجأ اليها الهراوي اذا كان يريد امراً آخر كبيراً وكان يخلط المزاح بالجد وحين يردد انه بعد كل زيارة خارج القصر الرئاسي المؤقت في الرملة البيضاء يستقبل من اهل بيته بالقول ((حمداً لله على السلامة))!!
كانت عين الهراوي على قصر بعبدا ليتخلص ايضاً من نفوذ رفيق الحريري عليه كما نفوذ جميل السيد ليقطن في منطقة مسيحية وفي منتصف الطريق تقريباً الى البقاع وتحت حماية الجيش اللبناني، وألح بالشكوى حتى امر حافظ الاسد بتأهيل قصر بعبدا لينتقل اليه الياس الهراوي، بعد ان كان جميل السيد استقر في مديرية المخابرات نائباً لقائدها.
استقر الهراوي في بعبدا وظل جميل السيد في الرملة البيضاء انما في منـزل كبير يقول الهراوي انه طلب من رفيق الحريري، ان يشتريه له.. ولم تكن هذه هي الهدية الوحيدة التي قدمها الحريري لجميل السيد، فقد سبق له ان قدم قبلها منحتين دراسيتين حصل عليهما اثنان من اشقاء جميل للدراسة على حساب مؤسسة الحريري احدهما اصبح طبيباً معروفاً والآخر مهندساً؟!
ومع ان الهراوي استقر سعيداً في بعبدا وقد انهالت المساعدات الشخصية العربية وأهمها من رئيس دولة الامارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله لتأهيل القصر الرئاسي لكنه كان دائم الشكوى من نفوذ جميل السيد خاصة عندما كان يقرأ في بعض صحف الصباح اللبنانية اخباراً او تعليقات تزعجه وكان يدرك ان جميل السيد وراءها، وهو ككثيرين يعلمون ان جميل كان لا يكتفي بتلقين بعض الصحافيين تحليلات تنشر في كثير من الاحيان في الصفحات الثانية من بعض صحف الصباح، بل وأيضاً كان جميل السيد كاتباً بارعاً بلغة سياسية راقية مليئة بالوقائع – حقيقية او مبهرة او مزورة – تنشر في بعض الصحف دون توقيع طبعاً، ودون اسم ابداً واحياناً تحت عنوان المحرر السياسي او كاتب سياسي او ..
ولعل بعض رفاق جميل السيد يعلمون ان الرجل كانت له أمنية، ان يكون صحافياً ومحللاً استراتيجياً قبل ان تتملكه نزعة الرئاسة من مجلس النواب الى ما هو اكبر ويقول عارفوه ان السيد كان يكتب مقالاً او تحليلاً او تقريراً بلغة عربية سليمة ودون أي خطأ بل انه لا يشطب أي كلمة خلال كتابته حتى لتظنها مطبوعة ومصححة!.
كان الهراوي – وما زال – عصبي المزاج يغلب عليه طابع الزحلاوي في استسهال التعابير المباشرة التي تخدش الحياء احياناً، ومع انه كان يعتبرها مفتاح احاديثه مع الرئيس حافظ الاسد الذي كان يستلقي على كتفيه ضحكاً من قفشات ابو جورج الا انه سرعان ما يضع الهراوي عند حده وهو يطلب – في ثلاث قمم طلبها الهراوي ليشكو فيها من السيد – ان يتوقف عن الهجوم على جميل السيد، ((فهذا ضابط كفؤ ويساعدك يا ابو جورج، ولديه مهمات عديدة في لبنان تحتاجونها جميعكم، ولا تستطيعون الاستغناء عن جميل)).
وعندما كان الياس الهراوي يظهر ألماً من مقالات في الصحف تتناوله من صحافيين معينين يسميهم الهراوي بالاسم في الصحف المحلية كان الاسد يطمئنه الى انه سيطلب من غازي كنعان ان يوقف هؤلاء الصحافيين عند حدهم وكان الهراوي يعلم ان هؤلاء الصحافيين يتلقون اوامرهم من جميل السيد وانهم قد يتوقفون لفترة عن انتقاده ثم يعودون اليه بطلب من السيد نفسه.
ولم تكن إملاءات جميل الصحافية على صحافيين في صحف يومية معروفين هي الأسلوب الوحيد لتعامله مع الوسط الإعلامي، بل ان هناك صحافيين تحدوا جميل السيد لاقوا منه المر والملاحقة والتهديد.
كان الزميل سمير قصير أستاذ العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، والكاتب في جريدة ((النهار)) ذا رأي مستقل ومن أول المنتقدين في كل لبنان للنظام الأمني اللبناني – السوري، وكانت مقالاته في الصفحة الأولى في جريدة ((النهار)) صباح كل جمعة فضلاً عن محاضراته وندواته ومداخلاته عبر وسائل الاعلام الفضائية تغضب جميل السيد كثيراً وتجعله يتطير شراً من هذا الصحافي الذي يتحدى نظامه، فكان كثير التهديد له بالإلغاء والشطب، دون أن يمنع هذا سميراً من الاستمرار على نهجه، حتى قرر جميل السيد إحالة حياته وزوجه الزميلة جيزيل خوري إلى جحيم (جيزيل كانت تقدم برنامجاً أسبوعياً في ((اللبنانية للإرسال)) ثم تحولت لتقديم برنامج بالعربي في محطة العربية).
وكانت سيارة للأمن العام بعناصرها فرزهم جميل السيد لملاحقة سمير وجيزيل، مما دفع سمير للاتصال بصديقه الزعيم وليد جنبلاط ناقلاً حالته وتهديد السيد له فوضع جنبلاط مرافقاً مع سيارته تحت تصرف سمير، ولم يرتدع السيد وظل ملاحقاً للرجل وزوجه حتى ان سيارة الأمن العام لاحقت الاثنين إلى عشاء برفقة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في مطعم ((بلنيس)) في آخر الوسط التجاري لبيروت وبعد انتهاء العشاء سارت سيارة سمير التي يقودها عنصر من الحزب الاشتراكي مع موكب الحريري حتى وصوله إلى منـزله في قريطم، واقتربت سيارة الأمن العام من سيارة سمير وزوجه في تحدٍ سافر، لكن عنصر الاشتراكي نزل من سيارته حاملاً مسدساً في يده ووجهه إلى صدر عنصر جميل السيد قائلاً: أمر شو بدهم الشباب فتراجعت سيارة الأمن العام وعناصرها وتوقفت الملاحقة عن سمير بهذه الصفة ليفتعل جميل السيد مشكلة مع جواز سفر سمير العائد من إحدى سفراته فينـزع منه الجواز بحجة تجديده ولا يعاد له لأن سمير حسب رواية الأمن العام فلسطيني المولد، رغم ان جوازه لبناني منذ أكثر من عشر سنوات، إلى ان تم تسليمه الجواز بعد عدة أسابيع.
كان جنبلاط هو الفزاعة الحقيقية التي يخشاها جميل السيد مع نبيه بري، وكان الاثنان مثل جميل مقربين من دمشق مع الفارق النوعي ان جميل مقرب كموظف يؤدي مهمته، أما جنبلاط وبري فهما زعيمان كل في طائفته، وهما على الصعيد الشخصي من الأقوياء ويخيفان مئات من وزن جميل، ولا يجرؤ على مواجهتهما علناً حتى لو سرب اخباراً عبر مخبرين أو كتبة في صحف الصباح.
ولم تكن حالة سمير قصير وحيدة، بل ان الأمر نفسه تكرر بشكل أخف مع الكاتب الصحافي أيضاً الزميل جهاد الزين الذي بكّر مثل سمير ليس فقط في انتقاد النظام الأمني اللبناني – السوري بل وفي إعلان نهايته وقبل عدة أشهر، فكان عرضة لتهديد من جميل ورد لئيم، لكن الزين كتب في ((النهار)) حيث يرأس قسم صفحات الرأي رداً أكثر لؤماً لم يجرؤ بعده جميل السيد على معاودة الكرة وان كان كرهه لجهاد الزين أوغر صدره ليفش خلقه بآخرين.
وقصة سحب جواز سفر الزميلة راغدة درغام في لبنان لأنها شاركت كمندوبة ((للحياة)) في نيويورك في ندوة عقدت هناك وكان بين المحاضرين كاتب يهودي، باتت معروفة وقد صمم جميل على موقفه وهو يعلم ان ((الحياة)) مملوكة للأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز السعودي.
كذلك قصته مع رئيس تحرير جريدة ((الشرق الأوسط)) السعودية عبد الرحمان الراشد الذي منعه جميل من دخول لبنان فجاء عبد الرحمان غصباً عن جميل وفي وفد ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبد العزيز.
واسوأ توقيت اختاره الياس الهراوي ليخلع جميل السيد من منصبه حاملاً شكوى مرة الى الرئيس الاسد بذلك كان مع بدء تركيب ملف كنيسة سيدة النجاة لاعتقال د. سمير جعجع، خاصة بعد ان ذهب الهراوي الى الكنيسة بعد الحادثة وسمع كلاماً قاسياً من رجال الدين والمواطنين المسيحيين محملينه مسؤولية تدبير هذه ((المسرحية)).
طلب الهراوي موعداً عاجلاً من الاسد ملحاً عليه استقباله وعلى جدول الاعمال نقطة واحدة هي إخراج جميل السيد وميشال الرحباني من مديرية مخابرات الجيش، فرد عليه الاسد بحسم: ((يا ابو جورج الشباب الآن ماسكين اهم ملف في البلد – اعتقال سمير جعجع – وعندما ينتهي امر هذا الملف نبحث الأمر من جديد)).
انتهى عهد الهراوي رغم التمديد وما زال سمير جعجع في السجن.. وظل جميل السيد في مكانه في إشارة الى مكانة هذا الضابط عند حافظ الاسد شخصياً.
عاد الياس الهراوي الى لبنان ليشكو أمره الى المقربين وكان بينهم وزير الدفاع ميشال المر، فاخترع له هذا الاخير منصب رئيس الجهاز المشترك المسؤول نظرياً عن أمن العلاقات بين الجيشين اللبناني والسوري لكنه ظل في موقعه ليضبط حركة الهراوي الذي كثيراً ما حاول التفلت لكنه كان يرد على عقبيه دائماً.