جميل السيد والحريري
غير ان المعركة الحقيقية لجميل السيد كانت مع الرجل الأهم في لبنان منذ العام 1992 وهو رفيق الحريري.
نعم....
كان رفيق الحريري هو خيار حافظ الاسد وفق روزنامته التي أشرنا اليها سابقاً، إلا ان طبيعة الحريري وقامته وحجمه الشخصي والمالي وكفاءاته وطموحاته وعلاقاته العربية والدولية ورسوخ شعبيته السياسية والمذهبية في لبنان خاصة وسط الطائفة السنّية كانت تقلق كثيرين حول حافظ الاسد الذي كان يدرك كل هذا، لكنه كان يدرك ايضاً قدرته على ضبط الحريري وعلى ان الحريري لن يخرج عن الخط الذي يرسمه له حافظ الاسد مهما كبر وتوسع وتعمقت جذوره الطائفية في لبنان.
نعم....
كان هناك في دمشق من يخشى حجم رفيق الحريري الكبير عربياً ودولياً، اقتصادياً وسياسياً، طموحاً وجموحاً، والأهم من هذا هو التطلع الاسلامي السنّي لشخصه باعتباره قادراً على تمثيل طموحات السنّة السياسية في ظل المعادلات المحلية التي اظهرت ان لكل مذهب وطائفة في لبنان مرجعية واكثر: شيعة ودروزاً وموارنة وارثوذكساً.. أما السنّة فإن شوكتهم انكسرت قبل الحريري، في ظل انكفاء قياداتهم او ضعف امكانياتهم وامكاناتهم وفي ظل استهدافهم بالتفتيت والتشتيت وشراء واستحداث بعض الدكاكين والشراذم خاصة في بيروت تحت اسماء حركية او تجمعات او جمعيات او جماعات دينية وحزبية نجحت الاستخبارات السورية واللبنانية في الهيمنة عليها مثلما فعلت استخبارات ياسر عرفات سابقاً.
وكان حجم رفيق الحريري يكبر محلياً وعربياً في سوريا وخارجها كلما ظهر خلل عربي او سقط حاكم عربي من ياسر عرفات الى صدام حسين، وفي ظل انكفاء مصر بعد جمال عبدالناصر عن أي دور قومي طليعي ورائد، وفي ظل الهجمة الصهيونية التي تذبح الشعب الفلسطيني وقواه وطموحاته ومساعيه للحرية والاستقلال وتقرير المصير وبعد ذلك وحتى الآن في ظل حصار العراق ثم احتلاله وإسقاط صدام حسين وتراجع التمثيل العربي السني في العراق لمصلحة التحالفات الايرانية – الاميركية – الكردية التي نصبت جماعاتها في هذا البلد العظيم.
كان كبر حجم رفيق الحريري من طبيعته ومن ظروفه الذاتية والموضوعية عامل قلق في سوريا بالدرجة الاولى وفي لبنان عند كثيرين.
والمشكلة في الحريري انه بالنسبة لخصومه كان شراً لا بد منه، ولأنه كان يعرف حجمه فإنه كان يعمل ويتحمل ويعاني ويصمت في كثير من الاحيان، وإذا ما عاند لفترة – وهو مشهود له بالعناد السلبي والايجابي – فإنه كان يقف عند حدود الخط الاحمر في سوريا ويتراجع بطلب من عبدالحليم خدام او حكمت الشهابي او غازي كنعان، ودائماً عندما كان حافظ الاسد يطلب منهم البحث عن تسوية لخلاف للحريري مع الآخرين (الياس الهراوي، نبيه بري، حزب الله ثم ودائماً اميل لحود..).
واجه الحريري معاركه الكبرى مع اميل لحود، لكنه ايضاً عاش معارك لا تنتهي مع الياس الهراوي وفي معاركه مع الرئيسين كان الحريري يعرف انه يواجه جميل السيد مباشرة او تحت جنح الظلام.
كان الحريري ينتظر، كلما بلغه لقاء جميل السيد مع الياس الهراوي، معركة مع الاخير، وكانت معارك الهراوي مع الحريري قياساً بمعارك الحريري بعد ذلك مع لحود سهلة ومحتملة وثمنها معروف، وكان المال وسيلة مهضومة وفعّالة لحل أي مشكلة مع الهراوي، او تعيين قريب او محسوب بغض النظر عن كفاءته او امكاناته.
ومع ان الهراوي جاء برجل مشهود له بالآدمية هو ريمون روفائيل لرئاسة جهاز الامن العام، وكان ابو اسعد واسطة خير دائماً مع الحريري يعاونه اول الامر شقيق زوجه والمستشار السياحي عند الحريري فؤاد فواز وهو الآن المستشار السياحي لنبيه بري الا ان الهراوي كان يبعد روفائيل عن خط الحريري عندما يريد مشكلة معه فيكلف جميل السيد وهو يعرف ان السيد مؤذ ويجيد ترتيب الخوازيق لحكومة الحريري، ويجيد تسريب ما يريد ضده شخصياً، وكان هو أي جميل يتولى تحريض بعض الصحافيين لكتابة معلومات لا اساس لها من الصحة في بعض الصحف ضد حكومة الحريري وشخصه (مثلما يكتب هؤلاء الصحافيون معلومات اخرى غير صحيحة ضد الهراوي نفسه عندما يشتبك معه جميل). كان جميل السيد نائباً لمدير المخابرات في الجيش وقد نجح مع قائد الجيش المعين اميل لحود في تشكيل ثنائي متناغم ضد الهراوي والحريري، وفي جعل الجيش جزيرة معزولة وكان يتعالى على السياسيين دون استثناء حتى الذين ينتظرون اشارة منه لشتم الحريري او الهراوي او بري وكان يجعلهم ينتظرونه على باب مكتبه في وزارة الدفاع بالساعات وهو جالس في غرفته مع صحافيين يلقنهم درس اليوم لينشر تالياً في صحف الصباح تحليلات في الصفحة الثانية او اخباراً صغيرة فيها او على صدر الصفحات الاولى).
كان الحريري يدرك ان الهراوي يريد منه شيئاً فيصعد اليه الى بعبدا ويتناقشان والحل دائماً على الطاولة يناوله الحريري للهراوي فتنتهي المشكلة ويرتاح الهراوي فيغضب جميل السيد.
كان الحريري في حالات يتجاوز فيها الهراوي حدوده وتزداد مطالبه كفرن تلتهم ناره كل ما تضعه فيه، يصعد الى القصر الجمهوري ليفجرها مع الهراوي او ليوقفه عند حده، وكان الهراوي اللماح والذكي يدرك غضب الحريري فيتداركه بنكتة او طرفة تجعل الحريري يستلقي على ظهره ضحكاً وفرقعة، تجعله ينسى كل ما جاء من اجله.
كان الحريري يعتبر ان جميل السيد مزروع سورياً وأحياناً كثيرة من قبل غازي كنعان شخصياً للحرتقة عليه، لابتزازه، وفي احيان اقل لحساب قائد الجيش اميل لحود اول الامر وأيضاً لحساب جميل الشخصي، وكان يريد ان تكون له عين داخل جهاز الاستخبارات العسكرية فطلب تعيين العقيد محمد فرشوخ نائباً لرئيس المخابرات فرفض لحود حتى رفع الامر الى حافظ الاسد فتم تعيينه في هذا المنصب دون صلاحيات لكن الحريري كان يشحنه معنوياً كي يؤدي دوراً له داخل الجيش لتخفيف الحرتقة عليه، فإذا به يقول بعد عدة اشهر من تعيين فرشوخ: ((مثل قلتها)).. فلم يشكل فرشوخ أي قوة مع الحريري بل بات الحريري نفسه يتدخل لحمايته من حرتقات خصومه.