لحود حاكماً والسيّد مديراً
جاء الثنائي إميل لحود وجميل السيد إلى السلطة عام 1998 الأول رئيساً للجمهورية والثاني مديراً عاماً للأمن العام مع كامل الصلاحيات.
وإذا كان صحيحاً ان إميل لحود ليس طائفياً ولا يهمه طائفة أو مذهب أي موقع في لبنان حتى لو كان المديرية العامة للأمن العام، فإن الصحيح أيضاً ان اختيار السيد كان سورياً بالدرجة الأولى، لا بل لعل جميل السيد هو الذي عمل لإيصال إميل لحود نفسه إلى الرئاسة بطلب سوري مباشر وصريح وحاسم.
فتنازل لحود الطائفي والمذهبـي هو سياسي أيضاً باختيار السيد مديراً عاماً للأمن العام، وقد خدم لحود السيد بتوسيع جهاز وملاك وصلاحيات الأمن العام مثلما فعل تماماً الرئيس الراحل سليمان فرنجية في مطلع عهده عام 1971 حين اتفق مع الزعيم الراحل صائب سلام على تصفية المكتب الثاني اللبناني يومها – أي استخبارات الجيش حالياً – ووزع ضباطه سفراء ومبعدين وملاحقين، واستعاض عنهم بتعزيز مكانة وصلاحيات وإمكانات الأمن العام اللبناني مع تعيين المقرب منه اللواء انطوان الدحداح مديراً عاماً للأمن العام فزاد ميزانية المديرية وعززها بالعناصر، وكان قربه من فرنجية يسمح له أن يكون الحاكم الأقوى أمنياً وعسكرياً في لبنان.
ولم يكن جميل السيد ليرضى بهذا الموقع إلا وفق المعطيين الأساسيين وهما:
q أن يكون هذا الخيار سورياً وبالمطلق ولخدمة مشروعها في لبنان، وهو يعرف هذا تماماً قادماً بالإرادة السورية ولاستهداف معين يخدم فيه سياستها ومشروعها في لبنان، مثلما يخدم طموحه اللامحدود رئيساً لمجلس النواب إلى زمن تتغير فيه الأحوال ليصبح بإمكانه أن يكون رئيساً للجمهورية فعلاً!؟
q صلاحيات مفتوحة على كل الطاقات والافعال المناسبة يريدها موازية لطموحه المهني – وقد برع فيه جداً – والشخصي وقد ((تأله)) حتى لم يبق عنده كبير، وكان هو يردد وعلناً ((والله نحنا قصة كبيرة)) نحنا البلد!!
وكانت الصلاحيات في المديرية العامة للأمن العام والميزانية والعديد والسلطة والهيبة كلها مكونات توافرت بعوامل موضوعية بقرارات من السلطة وذاتية بقدراته الشخصية الكبيرة حقاً.
أما الأهم
فهو ان جميل السيد، وهو الخبير العارف بمكانته الكبيرة وأهميته داخل جهاز الاستخبارات العسكرية، لم يكن ليرضى أن يتخلى عن إدارة جهاز مسؤول عن 50 ألف عسكري ضباطاً وجنوداً ومديريات وعتاداً ومهمات واستراتيجيات ليقبل جهازاً للأمن العام تكاد أفضل مهماته تكون في إصدار جوازات السفر وتصاريح استقدام السيريلانكيات وكتابة تقارير عن هذا وذاك..
كانت السواعد الأقوى مع جميل السيد في مديرية الأمن العام هي في تجيير مدعي عام التمييز عدنان عضوم لخدمة موقعه بالقانون والمؤسسات.
كان جميل السيد يدرك انه يتخلى عن موقع نائب مدير الاستخبارات العسكرية حيث ليس فقط مسؤولية50 ألف عسكري بل وأساساً حيث المؤسسات الفائقة الأهمية العظيمة الصلاحيات، سواء في الضابطة العدلية أو المحكمة العسكرية والقضاء العسكري والشرطة العسكرية وصلاحيات التحقيق وقبول الإخبار والتحقيق فيه.. وقد وفر هذا كله انسجاماً كاملاً مع النيابة العامة التمييزية كانت في عهدة عضوم خاتماً في إصبع جميل السيد ودائماً بوصاية ورعاية وأمر سوري حاسم، وكم من الملفات الكبيرة فبركت في مناخ هذا الانسجام.
وكان أمراً مثيراً للسخرية ان يلجأ السيد إلى هذه النيابة العامة التمييزية مدعياً على نفسه – إخباراً عنه وعن زملائه الذين لم يكلفه أحد منهم بذلك وهم قادة أجهزة – في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري يوم 14/2/2005.
ومصطفى حمدان
جاء إميل لحود على حصان أبيض كان جميل السيد يضع قماشة سوداء على عينيه وكان لجامه الحقيقي في يد غازي كنعان لكن لحود أصعد خلفه على الحصان مرافقه الشخصي بطوله وعضلاته العقيد – العميد مصطفى حمدان.
ومثلما ابتدع السوريون – كسابقة فرنجية المختصرة – صلاحيات وإمكانات وتوسعاً وتجييراً قضائياً للأمن العام ابتدع إميل لحود – وكما فعل صدام حسين في العراق – عديداً وميزانية وصلاحيات وإمكانات للحرس الجمهوري بقيادة مصطفى حمدان ليوازن به حركة وقوة الآخرين وخاصة جميل السيد، (ما هذه المفارقة ان يتجسد أسوأ ما في النظامين البعثيين السوري والعراقي في عهد الثنائي لحود – السيد؟)
كان لواء الحرس الجمهوري قوة مستقلة عن الجيش حتى لو كان نظرياً تابعاً لقيادة الجيش، لكن لحود لم يرض أبداً أن يكون مجرداً من السلاح.
كانت ضخامة عديد وميزانية الحرس الجمهوري المتوافرة من الصندوق الأسود في كازينو لبنان – كغيره من المصادر الأخرى غير المرئية، والتي تبلغ عشرات ملايين الدولارات سنوياً (الكازينو يوفر وحده 78 مليون دولار يوزع هذا المبلغ كما مبالغ المصادر الأخرى أيضاً على عديدين في لبنان وسوريا) تشكل عنصر توازن قوة للحود مع جميل السيد تحديداً أو أية جهة لبنانية أخرى يريد لحود إرعابها أو تطويعها، ألم يكن الصاروخان اللذان اطلقا على ((مرئية المستقبل)) عام 2001 رسالة واضحة الى رفيق الحريري؟
وكان أول من استوعب رسالة قوة الحرس الجمهوري هو سفير اميركا السابق في لبنان (نائب مساعد وزيرة الخارجية الاميركية حالياً) ديفيد ساترفيلد عندما حضر بصفته الاولى العرض الذي قدمه الحرس الجمهوري في ((عيد الاستقلال)) عام 2000 وحضره الى جانب لحود رفيق الحريري بصفته رئيساً للحكومة الثانية في عهد لحود الاولى له في هذا العهد.
((تمتع)) حضور العرض بالمعارك اليدوية وبالسلاح الابيض بين عناصر الحرس الجمهوري ليلتفت ساترفيلد الى وزير المالية فؤاد السنيورة قائلاً له: ((مستر سنيورة هذه رسالة من مصطفى حمدان إلى رفيق الحريري، فهل هو مستعد للمنازلة؟)).
سمعت النائبة السيدة بهية الحريري هذا السؤال من السفير الاميركي فردت قائلة: ((على الرئيس الحريري الآن توفير الامكانات لأبي طارق (الشهيد يحيى العرب المرافق الشخصي للحريري وسقط معه يوم 14/2/2005) لكي ينازل مصطفى حمدان)).
بدأ عهد لحود على الضفة السورية بهذه التركيبة الثنائية ليبعد عن نفسه صفة الأول او الثاني مع جميل السيد، فجاء بمصطفى حمدان وعزز وضعه ليحكم هو بثنائية من تصوره أي ثنائية السيد - حمدان.
ومع ان جميل السيد متزوج من ابنة عم مصطفى حمدان السيدة سوسن وشقيقها فؤاد الآن مدير عام الاتصالات – اوجيرو. الا ان عقلية جميل واستعداداته العملية للمبادرة والابداع وتمرده الداخلي الخادم لمصلحته الشخصية وهي في نفسه فوق أي اعتبار وقدرته على فعل الشيء ونقيضه وكتابة التقرير ونقيضه واقناعك بالشيء ونقيضه، تختلف تماماً عن عقلية مصطفى حمدان الموظف المنضبط شأنه شأن اعظم ابناء اقليم الخروب الذين امتهنوا الوظيفة الرسمية التي توفر الضبط والربط والدوام واحترام التراتبية في بيروقراطية مشهودة، وليس من المصادفة ان يختار اميل لحود ابرز مساعديه من بين ضباط الجيش المنتمين الى هذه المنطقة، وهم يتمتعون بكفاءة ادارية عالية وعملهم الوظيفي فوق كل اعتبار.
فإميل لحود كان يعرف ان مصطفى حمدان لن يتخلى عنه او يبيعه كما يمكن ان يتخلى عنه ويبيعه جميل السيد مثلاً. وأكثر من هذا كان اميل لحود يعرف ان مصطفى حمدان لن يكتب تقارير ضده حتى الى السوريين بينما كان يدرك تماماً ان جميل السيد مستعد ان يكتب تقارير عن اميل لحود وحتى عن جميل السيد ايضاً
فهذا الرجل – جميل السيد – مبدع في الكتابة ويستهويه قراءة خطه الذي كتبنا سابقاً انه لا يخطىء فيه بحرف، وكان يكتب موجزاً دورياً للسوريين يتناول فيه ليس كتابة المعلومات فقط بل وأساساً كتابة الاستنتاجات والتحليلات التي يتوصل اليها بناءً على هذه المعلومات، وكفاءته تسمح له بأن يكتب تحليلات ويستخرج استنتاجات مضادة بناء على معلومات مضادة ايضاً.
ولم تكن العلاقات دائماً ((سمناً على عسل)) بين اميل لحود وجميل السيد وما قوة او تقوية مصطفى حمدان وحرسه الجمهوري الا للتوازن مع جميل السيد ومهاراته وامكاناته، خاصة وان اسماع لحود كانت تلتقط تمرداً من جميل السيد ضده وكلاماً كبيراً حول دوره في المجيء به الى السلطة، قائلاً في احدى المرات ((نحن بذلنا الدماء كي يصل اميل لحود الى السلطة، فهل يظن نفسه انه اصبح حافظ الاسد في لبنان؟)).
وكانت تعابير الخلاف احياناً بين لحود والسيد تمر عبر مصطفى حمدان الذي كان يصدر تعليماته الى ضباطه بمنع أي منهم من زيارة جميل السيد او الاستماع الى أي معلومة او تعليمة منه، والامر كذلك كان سارياً عند جميل السيد وضباطه فكان منعهم من زيارة القصر الجمهوري او لقاء مصطفى حمدان او التعاون معه في أي حقل او ميدان.
وكانت الامور تتطور من حالة الى اخرى فينقل السيد ضباطاً من الامن العام يشك بعلاقاتهم مع الحرس الجمهوري، وينقل مصطفى حمدان ضباطاً في الحرس يشك بعلاقتهم بجميل السيد.
وكان هناك صراع المودة ايضاً اذ كان السيد وحمدان يتسابقان ويتنافسان حول من هو الأقرب الى عقل وقلب اميل لحود، وكان هذا السباق ينـزل الى الساحة اللبنانية والبيروتية خاصة، فيلجأ كل منهما الى شراذم ودكاكين وأحزاب لا قيمة لها لاحتضانها وتقوية نفوذ كل منها على حساب الاخرى ترجمة للمحبة بين السيد وحمدان وسباق الفوز بعقل وقلب اميل لحود.
وكان لحود اقرب دائماً الى طرف حمدان ليس لأنه الأقرب فقط، وليس لأنه ينفذ كل ما يطلب منه دون نقاش، بل لأنه متفق معه تماماً على ان لحود لا يدين بمجيئه الى الرئاسة الى دور جميل السيد كما كان السيد يشيع ويتباهى حتى يكون تحت وصايته بل هو يدين للسوري مباشرة في مجيئه الى الحكم عام 1998، وكان حمدان يردد ((يا فخامة الرئيس انت وجميل السيد من منبع واحد ولا فضل له عليك فالسوري جاء بكما معاً))، وكان لحود يجن جنونه عندما يصله كلام السيد ويبدأ بالسباب والشتائم ضده، بل اقسم انه لن يتركه لحظة في مكانه، خاصة بعد ان بدأ يقرأ تقارير تعد له ساعة بساعة مقالات في صحف الصباح تنتقده وتجرح في عهده وكان يعرف من اسماء كتابها انها من فبركة جميل السيد.
استدعى اميل لحود ميشال المر وارسله على عجل الى دمشق ليخلع جميل السيد، متجاوزاً غازي كنعان في عنجر فأحاله من في دمشق الى غازي كنعان فعاد المر الى المركز البقاعي الاستخباراتي فلم يجد كنعان فتوجه الى بعبدات لمقابلة لحود ونقل الرسالة السورية له فوجد عنده أبو يعرب يقول له بمودة: ((فخامة الرئيس: انت تقلع عيناً من عيني وانت تكسر يداً من يديّ ولكن اترك لي جميل السيد، فأنا لا استغني عنه، فوافق لحود شرط الا يقوم جميل السيد بأي دور امني او سياسي الآن اما بعد ذلك فيتم كل ذلك تحت اشرافه.
وهكذا عندما كان جميل السيد يختلف مع الياس الهراوي كان يجد حماية من حافظ الاسد الى اميل لحود، وحين كان يختلف مع اميل لحود فإن غازي كنعان كان يحميه، اما حين يختلف مع الحريري او بري فإنه كان يجد لحود وكنعان خلف السيد دائماً.
عكازا جميل السيد
كان جميل السيد يمشي على عكازين ثابتين حتى عندما كان يختلف مع لحود، هما العكاز السوري وعكاز حزب الله، وعكاز الاخير كان وظل وسيبقى آخر ما يمكن ان يستند اليه جميل السيد في آخرته.