الى جانب ثقافته وقدرته على الاقناع وجلَده على العمل وصبره وقدرته على تركيب الافخاخ وتفكيكها، وحذره الموصوف ومسايرته لكل الامواج حتى ركوبها دون خوف او وجل او خجل، وحزمه وعزمه ونجاحه منقطع النظير في جعل جهاز الامن العام الاكثر فعالية واجراءاته اكثر انسيابية وقطع أي فرصة للرشوة او استخدام النفوذ الشخصي (عدا الامني والسياسي طبعاً) فإن لجميل السيد نقطتي ضعف قاتلتين:
النقطة الاولى: هي تألهه او نرجسيته الشديدة التي تكون جزء منها من معرفته والتقاطه المعلومات عن الجميع سياسيين واعلاميين ومثقفين ورجال دين ودنيا ومجتمع واقتصاد وأعمال وفنانين كان يهوى جمع كل معلومة ولو صغيرة عنهم بما اتاح له ان يعرف نقاط ضعف الجميع وكان بهذا يقارن بينه وبينهم فيجد انهم ضعفاء ولا يملكون ما يهددونه به بينما هو يملك هذا ولا يتورع عنه، فضلاً عن حاجة الجميع اليه، حيث كان يتأخر في تحديد موعد لنائب او وزير لمدة شهر بينما كان على استعداد لأن يفرغ نفسه للقاء صحافي من أجل بث معلومة او كتابة خبر او تحليل ضد فلان او فلان فيأتوه صاغرين تائبين مستعدين للرضوخ وتنفيذ ما يريد.
النقطة الثانية: شهوة وشبق للسلطة لم يكن يتصور يوماً ان يكون خارجها او قرارها.
كان جميل السيد يعرف ان الياس الهراوي عقد ثلاث قمم مع الرئيس حافظ الاسد لخلعه ولم يستطع، وكان يعلم ان الحريري عقد خمس قمم مع الرئيس حافظ الاسد وأيضاً لخلعه او نقله ولم يستطع وكان يعلم كم حاول اميل لحود ايضاً تأديبه.. ولم يفلح.
اشتبك جميل السيد مع الرؤساء الياس الهراوي، ونبيه بري ورفيق الحريري واميل لحود وسليم الحص.. وظل هو مكانه بينما كان الآخرون بين مد وجزر.
لم يقف سياسي في وجهه في الحياة المدنية، مثلما لم يقف ضابط خاصة إذا كان شيعياً في وجهه في مؤسسة الجيش والامن العام وكان حريصاً على ابعاد أي ضابط متفوق او طموح، او يلزمه ان يكون تابعاً له متابعاً له كظله حتى لو كان مغموراً، مع حرص على معاقبة أي ضابط يعرف انه توجه الى مصيلح للقاء الرئيس نبيه بري، وتعددت اشتباكاته مع اللواء لطفي جابر واللواء عصام عطوي والعميد ابراهيم عباس، وعندما جاء الى الامن العام ابعد مجموعة كبيرة من الضباط المجازين بالحقوق وجاء بمجموعاته ولم يكن أي منهم قد تجاوز دراسته الثانوية فاقتلع الاكفاء وجاء بالموالين.
كانت علاقة جميل مع السوريين هي المقياس، وعندما دعت الحاجة الى تمتين هذه العلاقة وجدها من خلال اللقاء الاسبوعي مع نجيب ميقاتي وشقيقه طه حتى اذا عزز وجوده في قصر المهاجرين توقف هذا اللقاء بحجة انشغال جميل الدائم.
لم يكن يقف في وجه جميل السيد الا اللواء غازي كنعان وكان جميل يحسب له الف حساب ويأتيه دائماً من تحت اما مع رستم غزالة فكانت العلاقة ندية جداً.
قصر سيادة اللواء
اشترى – أو بادل – جميل السيد شقة له في بيروت مع وعد بدفع مبلغ من المال لآل مبارك الذين كان أحدهم بنى قصراً لم يكتمل في رياق فسجله جميل باسمه وحوله إلى قصر منيف.
وآل مبارك كانوا يعملون في سياسة الخيل عند آل فستق في رياق، وخلال الحرب رحلوا معهم وقبلهم إلى باريس لمتابعة هذا العمل وهو هواية لآل فستق وبعد فترة هاجر الجميع إلى أميركا وهناك استقل آل مبارك بأعمالهم ونجحوا نجاحاً كبيراً دفعت أحدهم ليعود إلى بلدته رياق لبناء هذا القصر الذي اشتراه أو بادل به جميل السيد ولم يكن قد اكتمل بعد فعمد جميل إلى بنائه على الطريقة السورية بالضخامة وفخامة الأرض الزراعية حوله (60 ألف م2) والديوانية الكبيرة المفتوحة إلى جانب القصر.
بلغ اللواء كنعان ان الناس تطلق على منـزل جميل السيد اسم القصر فإتصل هاتفياً بالمكان فإذا عامل الهاتف يجيب قصر سيادة اللواء السيد نعم، فانهالت شتائم كنعان على اللواء وقصره وخادمه، ثم قرر خلع جميل السيد عام 2001، فوسّط جميل كل معارف كنعان وأصحابه لمنع هذا النقل حتى تجاوز المسألة.
أما حين اختلف جميل السيد مع رستم غزالة وبدأ كل منهما يتحدث عما سرقه الآخر وارتكبه من إساءات مشينة ومسائل لا أخلاقية (في هذه المسألة تحدث جميل السيد عن زيجات وعلاقات رستم النسائية المتعددة، وتحدث رستم عن الغرفة المحصنة التي أقامها جميل السيد داخل مكتبه في الأمن العام لعلاقاته الخاصة) فإن غازي كنعان كلف نجيب ميقاتي ان يصالح الاثنين، فدعاهما أبو ماهر إلى غداء عنده فحضر رستم وغاب جميل دون اعتذار، فلما عرف أبو يعرب حرض نجيب ميقاتي على جميل قائلاً: ولو يا نجيب انت وزير كيف بيغيب موظف عندكم عن دعوة غداء في منـزلك ولا يعتذر؟!!
أياً يكن الأمر
فإن جميل السيد وقادة النظام الأمني اللبناني – السوري الذي حكم لبنان منذ العام 1989 وأفقده استقلاله والأمل بخلاص شعبه وتقدمه، حتى جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14/2/2005 وانفجار انتفاضة الاستقلال التي أعادت الأمل للبنانيين بالخلاص مع انسحاب القوات السورية واستخباراتها وفكفكة هذا الجهاز، دفعوا غالياً ثمن هذه الممارسات التي أساءت للبنان كله وسوريا كلها وشعبيهما والعلاقات العظيمة التي كانت بينهما والتي كان يمكن أن تكون لخيرهما جميعاً.
وبالنسبة لجميل السيد فقد ترك هذا الرجل انطباعاً عاماً عند الجميع انه حاد الذكاء وحيد عصره وزمانه، من خلال نجاحه بإيصال إميل لحود إلى الرئاسة والجميع يعرف ان هذه المسألة هي قرار سوري لا مرد له، لكن النهاية التي وصل إليها عهد إميل لحود بل وكانت نتائجه كارثية خلال ست سنوات، دلت على ان هذا الذكاء إما انه لم يكن يستخدم في مكانه وإما انه وهم تؤكده نسبة وفداحة الأخطاء التي ارتكبت خلال السنوات الست الماضية، هذا فضلاً عن ان جميل السيد نفسه لم يستطع حماية جميل السيد صاحب صاحبه. كان البعض يعتقد ان جميل السيد كان يدفع إميل لحود إلى ما أسماه هو الخطأ المقصود لتوريطه ثم الدفاع عنه ليظل تحت سيطرته، وهذا التعبير استخدمه جميل نفسه عندما دخل منـزل الحريري بوساطة من اللواء غازي كنعان ليفسر لماذا اقتحمت عناصره وزارة المالية واعتقلت مديرة مكتب الوزير فؤاد السنيورة عندما كان إميل لحود قائداً للجيش.
غير ان المسالة ليست جميل السيد وحده، بل هي النظام الأمني اللبناني – السوري كله، الذي نظر إلى لبنان كله بشعبه ومقوماته ومكانته ودوره كمجموعات مسلحة يمكن ان تهدد هذا النظام في لبنان وفي سوريا أيضاً، فكان التركيز دائماً على بناء أجهزة استخبارات تكاثرت وكبرت وتعززت مادياً وبشرياً مقابل تحطيم كل مؤسسات الدولة اللبنانية، وبهدف واحد دائم هو تدمير بنية النظام السياسي اللبناني، بقتل الحياة السياسية فيه تماماً كما تم في سوريا خلال 30 سنة من عهد حافظ الأسد و5 سنوات من عهد بشار الأسد.
كان كثيرون يعتبرون ان الممارسات الأمنية السورية في لبنان واستتباع الأجهزة الأمنية اللبنانية المضخمة لها هدف واحد وهو إزالة مبرر بقاء لبنان دولة مستقلة ذات سيادة ودور ورسالة لإلحاقها بالكيان السوري خطوة خطوة.. حتى ولو لم يكن الأمر رسمياً أو علنياً، لكن واقع الحال في لبنان منذ العام 1989 حتى انتفاضة الاستقلال بعد جريمة اغتيال الحريري يؤكد ان هذا الهدف كان متحققاً فعلاً.. والفضل كما قلنا لجميل السيد والنظام الأمني اللبناني – السوري الشامل.
لقد جعلت الاستخبارات العسكرية وغيرها في لبنان من نفسها مرجعاً سياسياً للمواطنين وليست جهازاً أمنياً لحماية الوطن، فحكمت الوطن والمواطنين وتحكمت بهم وبمصالحهم.. وبالغت حتى قرب موعد محاكمة قادة هذه الأجهزة هم أنفسهم.
وفقدت هذه الاستخبارات حس الدبلوماسية السرية وهي أساس نجاحها، فتعهرت ورقصت عارية على المسرح وهي ترمي الجمهور بكتل من النار فانفض عنها وخافها وترقب لحظة وصول النار إلى أركان المسرح لحرقه وتدميره بمن فيه وهذا ما حصل في انتفاضة الاستقلال.
توقفت هذه الاستخبارات عن أن تكون مرجع معلومات لصنع القرار العسكري والسياسي وهذا هو صميم عملها السري وبدل ان يفاخر الضباط الأكفاء فيها بكونهم مراجع المعلومات السرية التي تصنع القرارات المصيرية في الوطن سلماً وحرباً تقدماً وتراجعاً دخلوا مستنقع العمل السياسي تحت عناوين التأله وانعدام الثقة بالسياسيين وفقدان الكفاءة بينهم وبات الضابط الأمني مرجعاً سياسياً متخلياً عن دبلوماسيته السرية كالطبيب الذي يفشي سر مريضه.
ليس ممنوعاً على الاستخبارات ان تتصل بالسياسيين، لكن الاعلان عن ذلك هو الخطأ، والمجاهرة بمرجعيتهم لكل صغيرة وكبيرة في الوطن يجلس الهرم على رأسه فينكس الرأس وهذا ما حصل في لبنان عند زلزال جريمة اغتيال رفيق الحريري.
قراءة خاطئة
بعد ساعات من استشهاد الحريري وفي جلسة طارئة لمجلس الدفاع العسكري اللبناني وقف جميل السيد ((مطمئناً)) الخائفين في الاجتماع قائلاً في أول مرة يختصر فيها كلامه: لا تخافوا لن يستمر الغضب والحزن إلا ثلاثة أيام وبعدها يعود كل شيء إلى حاله!!
قراءة خاطئة
تماماً مثلما قال إميل لحود حين بدأ حملته الإعلامية ضد رفيق الحريري قبل انتخابات 2000 ورد على الذين أوصلوا له رد الفعل العكسي على هذه الحملة واستفادة الحريري منها: اعطوني ثلاثة أيام لتروا ان الحريري أصبح في الأرض!!
قراءة خاطئة
تماماً مثلما قال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله وقبل ثلاثة أيام من استقالة جميل السيد: بسيطة دعوه يذهب سفيراً إلى الخارج إلى ان تستقيم الأمور من جديد.
قراءة خاطئة؟
بل هي حالة الخوف والإرعاب والخنوع والانتهازية والنفاق والإغراءات التي جعلت حالة جميل السيد في لبنان كحالة النظام الأمني اللبناني – السوري المافياوي فزّاعة بل إشاعة أخافت اللبنانيين جميعاً وكانت بحاجة إلى حقيقة تفيق الناس لنبذ الإشاعة ودفنها وكانت الحقيقة هي زلزال اغتيال رفيق الحريري أفاق الناس عليها ليبدأوا منها انتفاضة الاستقلال وقيامة الوطن.