الغارة على ليبيا

في تلك الفترة بدأت الأسئلة تتكاثر عن سورية وليبيا وأبو نضال ، وحول دعم ليبيا للعمليات الإرهابية .

وكان إبراهيم يرسل الأجوبة : لا علاقة لليبيا وسورية بالإرهاب لتثير الولايات المتحدة ضد هاتين الدولتين . فالاستخبارات الإسرائيلية ترتبط بعلاقات تعاون وتنسيق أمنى مع المخابرات المركزية
( سى. آى . إيه ) بمعلومات مغلوطة حول علاقة المنظمة بالعمليات الإرهابية وهو أسلوب اتبعته الموساد سابقاً مع بعض المخابرات الأوروبية . ومن خلال هذا التعاون تقدم معلومات تضليلية، الغرض منها إثارة الولايات المتحدة ضد العرب، والحصول على أكبر كمية من المساعدات والأسلحة ونسف أي تقارب عربي – أمريكي أو فلسطيني – أمريكي . فقد بحثت الموساد في فترة سابقة عن عدد الخبراء السوفييت في بعض بلدان المنطقة . وهي  ليست احتياجات إسرائيلية بقدر ما هي احتياجات أمريكية، كما أنها تزود المخابرات الألمانية الغربية إذ بذلت جهدها من أجل منع أي تقارب بين بون ومنظمة التحرير، ولجأت إلى أسوأ الحيل، نشرت معلومات مضللة حول تعاون المخابرات الإسرائيلية والألمانية في اغتيال بعض القيادات الفلسطينية، كما في قضية أريكا تشامبرز ( سيلفيا رافائيل ) المتهمة بالاشتراك في اغتيال أبو حسن سلامة ، قائد " القوة 17 " في بيروت عام 1979 .

وقد سعت  الموساد  إلى مد جسور مع الاستخبارات الألمانية . ورغم الشك الذي سيطر على الاتصالات الأولى التي أجريت بين الطرفين ، فقد استطاعت تخطى مرحلة الحذر وبناء روابط قوية أدت فيما بعد إلى إجراء مفاوضات سرية مع الحكومة الألمانية من أجل تزويد الجيش الإسرائيلي ببعض المعدات والأسلحة المتطورة . غير أن همزة الوصل بدأت تتعمق ، بعد أن قامت الموساد بتزويد المخابرات الألمانية المسؤولة مقابل هذا التعاون حق استجواب العرب الذين تعتقلهم السلطات الألمانية . والواقع أن  الموساد مارست هذا الحق  منذ 1973 رغم مخالفته القوانين المحلية . على أن العلاقات بين الموساد والمخابرات المركزية الأمريكية هي الأقوى، فقد حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن في أول زيارة قام بها إلى الولايات المتحدة في تموز1977، إبراز  فضل  المخابرات الإسرائيلية على المعلومات التي تملكها دوائر وزارة الدفاع الأمريكية في ما يتعلق بالأسلحة السوفيتية، بغية التأثير على سياسة الرئيس السابق جيمي كارتر حيال الشرق الأوسط، إذ قدم بيغن إلى كارتر لدى وصوله إلى البيت الأبيض ملفاً مليئاً بالأوراق والوثائق طلب منه الاطلاع عليه بالتفصيل . وضم الملف لائحة بالمعدات العسكرية التي استولت عليها إسرائيل منذ العدوان على سيناء عام 1956 وقدمتها إلى الخبراء العسكريين الأمريكيين من أجل فحصها ودراسة نقاط ضعفها .

والحقيقة أن التعاون الإسرائيلي – الأمريكي في مجال التجسس يعود إلى الخمسينات . فقد كان المقر التابع لوكالة الاستخبارات الأمريكية يضم قسماً على درجة عالة من السرية ، وكانت مهمة هذا القسم تنسيق العمليات المشتركة مع الموساد وكان على رأسه حينئذ جيمس أنغلتون الذي كان معروفاً بعدائه الشديد للسعودية والسوفييت . ومن أجل كسبه إلى جانبها بدأت الموساد تتحين الفرص لإسداء خدمة تساعده على دعم مركزه داخل الاستخبارات حتى كانون 1956 حين نجحت المخابرات الإسرائيلية بفعل وجود عدد من اليهود الروس داخل أجهزة الحزب الشيوعي في موسكو، في تسريب بعض الخطاب السري الذي ألقاه الزعيم السوفييتي السابق نيكيتا خروتشوف في ذلك الخطاب معارضته الشديدة لسياسة سلفة ستالين، كما حذر من وجود تمرد شعبي في عدد من دول أوروبا الشرقية. كما استطاع أنغلتون بمساعدة الموساد إنشاء جهاز مخابرات قوى وهو السافاك . واتسع التعاون بين الموساد والمخابرات المركزية، إذ عمد الجهازان إلى دعم التمرد الكردي في المناطق الشمالية المحاذية للحدود الإيرانية. وفي الفترة التي أعقبت سقوط أنغلتون بسبب تورطه مع الموساد في الإعداد للانقلاب العسكري الذي أطاح بنظام الرئيس الليندي ي تشيلى ، بدأت وكالة المخابرات المركزية منذ 1975 عهداً جديداً في ظل رئيسها في تلك الفترة جورج بوش، فقامت بغية عرقلة الموافقة على طلبات الأسلحة التي تقدمت بها إسرائيل بتصوير الوضع أمام المسؤولين الأمريكيين على أن إسرائيل متفوقة عسكرياً على العرب . وعمدت إلى نشر بعض المعلومات المتعلقة بالقنبلة النووية الإسرائيلية .

وكانت إسرائيل تخفى بعض تحركاتها الإقليمية عن واشنطن، وتعمل سراً على التخلص من الأصوات المنادية داخل الولايات المتحدة بإجراء حوار مع الفلسطينيين . وطلب رئيس الاستخبارات أسحق هوفى من الحكومة الضوء الأخضر لمعاقبة هؤلاء المتشددين ضد المصالح الإسرائيلية. وجاءت الموافقة الفورية من بيغن . وتم بعد ذلك التركيز على سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة أندرو يونج بسبب تصريحاته الإيجابية إزاء الفلسطينيين، التي أزعجت الدوائر المسؤولة في تل أبيب. وابتداء من 1979 قامت الموساد بتسجيل بعض محادثات يونج في نيويورك، عندما كان يجتمع من وقت إلى آخر بممثل منظمة التحرير زهدي الطرزي وقد عمدت بعد تسجيلها الحديث الذي دار بين يونج وطرزي إلى تسريب مضمونه إلى مجلة نيوزويك الأمريكية، الأمر الذي أحدث ضجة في الأوساط الأمريكية الرسمية وأدى إلى استقالة يونج من منصبه. وخلال آذار وأوائل نيسان كانت المخابرات الإسرائيلية تبحث عن علاقة ليبيا سورية بالعمليات الإرهابية. واستطاعت التضليل من خلال معلومات مغلوطة عبر افتعالها حادث تفجير ملهى " لابيل " في برلين واتهام ليبيا وأبو نضال بتدبيره على الرغم من أن كل التحقيقات أثبتت أن لا علاقة لليبيا بالعملية . وقد أرسل أبو محمد عبر إبراهيم ووسائل أخرى، معلومات إلى الموساد تنفى علاقة ليبيا أو سورية بالحادث . وأرسل إبراهيم ما مفاده أن " لابيل " يمتلكه شخص إيطالي، ووضع قنبلة في الملهى الذي يرتاده الجنود الأمريكيون كما يرتاده الآخرون ، إنما وضعت لأسباب عديدة . فقد يكون صاحب الملهى الإيطالي قام بالعملية للحصول على مبالغ من التأمين، وقد يكون السبب تصفية حسابات بين عصابات المخدرات، وأنه لا أسباب سياسية وراء الحادث. وكانت إشارة واضحة إلى أن الموساد هي التي افتعلت العملية، كي تنفذ أمريكا تهديد ضد ليبيا .

الغارة الأمريكية

 وكان لدى إسرائيل ما يشير إلى أن الغارة الأمريكية على ليبيا باتت مؤكدة . وقبل الغارة بيوم جرى اتصال هاتفي بين جون وإبراهيم فهم الشاب خلاله بالرموز أن هناك عملية ضد ليبيا ، وطلب منه جون أن يكون حذراً كما سأله عدم السفر خلال هذه الفترة . وكانت التساؤلات المطروحة : هل تنفذ أمريكا الغارة ؟ ولكن المعلومات التي كانت في حوزة الأجهزة الفلسطينية أشارت إلى أن الهجوم وشيك . وقبل الغارة بست ساعات فقط، أرسلت هذه الأجهزة تنبيهاً إلى الجهات الليبية توقعت فيه أن الطائرات الأمريكية آتية.

وصبيحة 16 نيسان 1986 قامت الطائرات الأمريكية بقصف طرابلس وبنغازي مستهدفة مقر الرئيس الليبي وبنغازي مستهدفة مقر الرئيس الليبي معمر القذافي عادت المنطقة إلى دوامة جديدة من العنف الذي تثيره باستمرار المخبرات الإسرائيلية .

ومع مطلع أيار1986 وردت إلى إبراهيم أسئلة مختلفة تبحث عن نوع من التنسيق بين بعض الجهات الفلسطينية وجهات أمريكية مماثلة. وتردد أن القنوات السياسية على هذا الصعيد لم تنقطع منذ السبعينات عندما كان جورج بوش مديراً للمخابرات المركزية، وقد تمت الاتصالات مع أبو حسن سلامة، قائد القوة 17 ، لكن  الموساد نسفت هذه الاتصالات واغتالته في  كانون الثاني  1979 .

وخلال 1986 وإزاء تصاعد العنف ضد المصالح الأمريكية، ونجاح التنسيق الأمني بين بعض الجهات الفلسطينية ومثيلاتها في فرنسا وأسبانيا بشكل خاص، وأوروبا بشكل عام، إذ وصلت العلاقات إلى مستوى جيد، ظهرت بوادر حول تنسيق مماثل مع الولايات المتحدة . وخلال الفترة ذاتها أجرت الشبكة التلفزيونية الأمريكية " ان. بي. سى " حديثاً مع أبو العباس هدد فيه المصالح الأمريكية داخل الولايات المتحدة وأن من الظلم أن تتحمل أوروبا تبعة الصراع مع أمريكا . وقد أثار هذا التصريح الولايات المتحدة، واستغلته  الموساد أفضل استغلال، فأثارت المخابرات المركزية مجدداً ضده ممات حمل الرئيس رونالد ريغان في قمة طوكيو للبلدان الصناعية على شن حملة من التهديدات . وفي الوقت نفسه أصدرت الموساد تعميماً

على سفاراتها ضمنته ضرورة تحديد مكان أبو العباس وموعد سفره والطائرة التي تقله ورقم الرحلة .

وكانت معلومات الموساد تقول أن أبو العباس في الجزائر وسيسافر إلى أبو ظبي .

وقد عرف إبراهيم فيما بعد أن التعميم الذي صدر إلى سفارات إسرائيل في العالم، حمل إشارة خاصة به وأرسل إلى السفارة الإسرائيلية في باريس . وكانت  الموساد  تتوقع أن يستخدم أبو العباس طائرة سوفيتية في سفراته لأن اختطاف هذه الطائرة من قبل الموساد إلى الولايات المتحدة يعتبر أمراً مستحيلاً .

وقد وردت الإشارة في التعميم المرسل إلى إبراهيم عبر سفارة إسرائيل في باريس من خلال عبارة " الرجل رقم واحد " في حين كانت مؤكدة لتوجيه ضربة إلى سورية مع عدم تدخل أمريكي مباشر .

وحسب قول جون فان " أمريكا لديها الثقة الكاملة في قدرتنا على ضرب سورية بمفردها " .

أبو موسى وباريس

وحاولت الموساد  بشتى الوسائل عرقلة أي تقارب سوري – فلسطيني، من خلال بث أخبار كاذبة وتنفيذ تفجيرات واغتيالات . ففي أواخر أيار 1986 وردت برقية عاجلة إلى إبراهيم من الموساد تطلب فيها  معلومات عاجلة للغاية حول أبو موسى ومهدى بسيسو ( أبو علي ) مع أوصاف مادية لأن إبراهيم يعرف الرجلين معرفة شخصية، وكانت الاحتياجات تؤكد أن الموساد تخطط لأمر دموي . وفي الوقت نفسه وردت معلومات إلي المخابرات الفلسطينية من قبرص قالت أن أحد اللبنانيين كانت لديه مجموعة من المقاتلين يعملون معه قد اجتمع بضابط من الموساد وتم الاتفاق على اغتيال أبو موسى في دمشق. إلا أن الأجهزة الفلسطينية قامت بإبلاغ أبو موسى عبر معلومات وصلت متأخرة . وفعلاً، بعد أقل من أسبوعين، تسلل ذلك المقاتل اللبناني وجماعته إلى سطح العمارة التي يسكن أبو موسى في شقة في آخر طابق فيها .

وعندما هم المسؤول الفلسطيني بدخول منزله، ومع مرافقه الخاص ابنه محمد، كان اللبناني يلقى عليهما قنبلة يدوية ويفر هارباً، فأصيب محمد بجراح وصمم دائم في أذنيه ونجا أبو موسى ، وقد تمت هذه العملية بقصد توسيع الخلاف بين رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات وأبو موسى وبين المنظمة وسورية بعد أن برزت بوادر لإعادة العلاقات إلى حالتها الطبيعية في تلك الفترة .

وخلال حزيران 1986، عادت الموساد إلى البحث عن أبو العباس، فوردت أسئلة حول عملية محددة كان يحضر هو لها داخل الأراضي المحتلة. وكانت هذه العملية الفدائية تستهدف الكنيست الإسرائيلي. لكن خللاً طرأ على العملية عندما قبضت المخابرات الإسرائيلية على شاب من جبهة التحرير الفلسطينية أثناء قيامه بشراء كمية من الأسلحة من أحد اليهود الإسرائيليين . وخلال الشهر ذاته طرحت على إبراهيم أسئلة سياسية دقيقة تقول:

Ø     من يدعم منظمة التحرير الفلسطينية في الحكومة التونسية ؟ وما هي تطورات العلاقات التونسية – الفلسطينية ؟ كما وصلت برقيات أخرى تطلب منه السفر .

وفي منتصف تموز سافر إبراهيم سلمان إلى تونس، وكالعادة اتصل هاتفياً بضابط  الموساد جون . وفي اليوم التالي ظهراً اتل به مرحباً وحدد له موعداً الساعة الثامنة ليلاً في الشقة. وعند السابعة خرج من الفندق، وتوجه إلى الشقة وقام بالإجراءات الأمنية كاملة وبشكل دقيق، حتى وصل إلى الباب في الموعد المحدد بالضبط ، فرن الجرس . ومرت لحظات قبل أن يفتح جون الباب، فرحب بإبراهيم قائلاً :

Ø     أهلاً بك .. تفضل وادخل !

فدخل الشاب إلى الشقة حيث كان في قاعة الجلوس رجل لم يره من قبل، أسمر البشرة، نحيف ومتوسط القامة ، يضع نظارات طبية على عينيه، فسلم عليه وقدمه جون باسم الدكتور شلومو. وبدأ الحديث عادياً ولكن إبراهيم كان مشغولاً بهذا الشخص الذي أمامه وبقى صامتاً يستمع إلى الحوار الدائر بينه وبين جون وفي الحقيقة، تل أبيب تشكرك على خدماتك، وأنت اليوم الرجل رقم واحد بالنسبة إلى الموساد ولا أخفى عليك أن تل أبيب تراهن عليك وتكن لك معاملة خاصة، ومستقبلك كبير معنا. ولقد أثبتنا أننا صادقون معك، فكل المبالغ المستحقة وصلتك وأرسلت إليك. أليس كذلك ؟ وأية نفقات إضافية تطلبها نحن في الخدمة .

ولم يكن هذا الحديث مطمئنا لإبراهيم الذي ظل يستمع فيما شلومو يراقب بطريقة خفية . فواصل جون حديثه :

Ø     لقد قررت تل أبيب زيادة راتبك إلى 1500 دولار شهرياً، وهو مبلغ لا تدفعه الموساد إلا لأناس على مستوى كبير. وأنت أحدهم وهم قلة.

Ø     فقاطعه إبراهيم قائلاً: ولكن أسئلتكم كبيرة ومتعبة، فقد وصلت إلى مرحلة لم أعد معها قادراً على الحصول على أجابا. ألا توجد إجازات في العمل ؟.

Ø     رد جون : في الفترة الماضية، كانت احتياجات تل أبيب كبيرة. وفي المرحلة المقبلة ستغدو الاحتياجات أكبر والعمل متواصلاً .

Ø     ثم ألقى على شلومو نظرة ذات معنى وقال لإبراهيم : هل حدثتك سابقاً عن أنك يجب أن تخضع لامتحان ؟ قال إبراهيم بدهشة : أي امتحان ؟.

Ø     فابتسم جون وقال : جهاز كشف الكذب .