صلاح الدين الأيوبي وعودة المسلمين إلى بيروت
(583-593هـ/1187-1197م)
عانى المسلمون كثيراً طيلة الاحتلال الصليبي الأول، ولمدة 77 سنة، ولم ينقذهم من هذا الاحتلال إلا صلاح الدين الأيوبي757، الذي توالت انتصاراته على الصليبيين، بعد أن أنهى حكم الدولة الفاطمية وأقام الدولة الأيوبية في مصر والشام. وحاول صلاح الدين الأيوبي استعادة بيروت سنة 578هـ/1182م، فسار إليها من دمشق، حاصرها من البر، في حين حاصرها بأسطوله البحري المصري المؤلف من ثلاثين سفينة. وفجأة ظهرت ثلاث وعشرون سفينة صليبية، فانسحب الأسطول المصري، ورفع الحصار، ليعود صلاح الدين إلى دمشق. ويرجع هذا الفشل لعدم اشتراك القوتين البرية والبحرية سوياً في الهجوم على بيروت.
صلاح الدين يحاصر بيروت ودخلها صلحاُ
بعد خمسة أعوام، بدأ صلاح الدين انتصاراته العظيمة في حطين سنة 583هـ/1187م، على قوى الصليبيين مجتمعة ومنها قوة باليان أبلين صاحب بيروت الذي فرّ من المعركة، وأستغل صلاح الدين انتصاره هذا، فاستولى على عكا ثم الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والغولة ومجدليابه ويافا وتبنين، ثم زحف إلى صيدا.
وعندما وصل خلده لاقاه جمال الدين حجي، وحاصر بيروت ثمانية أيام، ونصب عليها المنجانيق، حتى سأله الصليبيون الأمان فآمنهم، فدخل بيروت صلحاً في 29 جمادي الأولى سنة 583هـ/ 6 آب 1187م، وتوجه الصليبيون بأمانه من بيروت إلى صور.
وبعد فتح بيروت التقى صلاح الدين بأمير الغرب جمال الدين حجي، ولمس رأسه بيده قائلاً كلمته المشهورة:{{ ها قد أخذنا ثأرك من الفرنج }}. وفي 2 تشرين الأول 1187م أستسلم بيت المقدس أمام السلطان صلاح الدين الأيوبي.
والحقيقة أن البحرية المصرية تعاونت مع الجيوش الشامية، على استرداد عكا وبيروت وجبيل وعسقلان وغيرها من الثغور الساحلية. وكان صلاح الدين يهدف من احتلال المدن الساحلية، ومنها بيروت،أن يحرم الصليبيين من قواعدهم البحرية التي كانت تربطهم بالعالم الخارجي، وخاصة غرب أوروبا قلب الحركة الصليبية، فيصبحوا محاصرين داخل بلاد الشام، ويسهل بالتالي القضاء عليهم. هذا فضلاً عن أن استيلاء صلاح الدين على موانئ الشام، سوف يمكنه من تحقيق الاتصال البحري السريع بين شطري دولته في مصر والشام. لذلك أهتم صلاح الدين منذ بداية حكمه بإحياء البحرية الإسلامية، وتحصين الثغور الإسلامية، كسلاح مضاد للاحتلال الصليبي. فاستعان في بناء أسطوله بالخشب المحلي في مصر، وبأخشاب الصنوبر والأرز التي تنبت في جبال لبنان، فضلاً عن معدن الحديد الذي يستخرج من جبل قرب بيروت. كما أهتم بتقوية أجهزة الدفاع والحراسة الساحلية، كالرباطات والمحارس والمناور والمناظر الممتدة على طول سواحل مصر والشام، ومنها بالطبع ساحل بيروت. وكان على المنورين إذا ما كشفوا عدواً في البحر مقبلاً من بعيد، أن يشعلوا النار في قمم المناور أو المنائر إذا كان الوقت ليلاً، أو إثارة الدخان منها إن كان الوقت نهاراً. هذا إلى جانب استخدام الطبل والنفير لتحذير أهالي المدن المجاورة من غارة العدو. وبهذه الطريقة كان من الممكن إبلاغ القاهرة في مصر عن وقوع غارة بحرية على بيروت في ليلة واحدة أو نهار واحد.
وباسترجاع مدينة بيروت من أيدي الصليبيين، عادت الكرامة إلى المسلمين الذين بقوا في بيروت طيلة الاحتلال الصليبي. واستعمل المسلمون مبنى كنيسة يوحنا المعمدان كمسجد لهم {الجامع العمري} بعد أن خلت بيروت من النصارى ومن الصليبيين. ويذكر صالح بن يحيى أن صلاح الدين: {تسلَّم بيروت ونصب المنجق السلطاني ... وكان بها جماعة من المسلمين مستوطنين مساكين بمساكنة الفرنج فانجلت عنهم الكمدة ورأوا الفرج بعد الشدة}.
ولكن أهم ما يميز بيروت والمدن الإسلامية في عصر صلاح الدين الأيوبي، هو عودة الوحدة للعالم الإسلامي، بانهيار دولة الفاطميين، لتصبح الخلافة العباسية هي الخلافة الوحيدة التي يدين بها المسلمون بولائهم الروحي. فقضى صلاح الدين الأيوبي على آثار الحلافة الفاطمية في مصر سنة 567هـ/1171م، بعد أن استمرت مدة قرنين من الزمان تقريباً.
وقد ترك السلطان صلاح الدين الأيوبي الحرية لأهالي بيروت وغيرها من المدن التي حرَّرها من الصليبيين، في أن يبقوا فيها أو يرحلوا، فآثر معظمهم الرحيل إلى صور، حيث أجتمع كل إفرنجي بقي في الساحل. وبقي في بيروت المسلمون، الذين أخذوا يتزايدون ويرابطون في المدينة للدفاع عنها، بعد أن زال عنهم الكابوس الصليبي.