دور بيروت أثناء حصار الصليبيين لعكا

(858-587هـ/1189-1191م)

ولَّى صلاح الدين الأيوبي، على بيروت، الأمير سيف الدين المشطوب (1)، ثم ولَّى عليها الأمير أسامة بن منقذ (2)، وفي أيامه كانت بيروت هي قاعدة الأسطول البحري الشامي. وكان صلاح الدين قد أرتكب خطأً كبيراً، عندما ترك الصليبيين يجتمعون في مدينة صور التي أشتد اهتمامهم بها وحصَّنوها، فتحولت إلى قاعدة لاسترداد ما فقدوه، ومركزاً للإمدادات الصليبية القادمة من الغرب. وكانت صور بمثابة الثغرة التي نفذ منها الصليبيون ليحاصروا عكا من جهة البر، في حين حاصرتها الأساطيل الأوروبية من جهة البحر سنة 585هـ/1189م. وتعتبر عكا موقعاً استراتيجيا هاماً، فإذا تمّ الاستيلاء عليها صار الطريق إلى بيت المقدس مفتوحاً أمام الصليبيين. وقد لعبت بيروت دوراً بارزاً في مساعدة المسلمين المحاصرين في عكا، حيث كان يوجد على سواحلها، في مكان يُسمَّى الديب أو الذئب {لعله جل الديب على ساحل بيروت الشمالي}، طائفة من المسلمين يجهَّزون السفن الداخلة إلى عكا، ويقطعون الطريق على المراكب الصليبية بين طرابلس وصور. وكان للأمير أسامة غزوات كثيرة في البحر، ضد مراكب العدو المارة ببيروت في طريقها إلى عكا، فغنم مغانم كثيرة. ويُحكى عنه أنه استولى على خمس سفن من أسطول ملك أنكلترة ريتشار قلب الأسد، كانت مملوءة خيلاً ورجالاً ونساء وأموالاً.

وأشتد حصار السفن الصليبية لعكا، ومنع دخول المراكب الإسلامية إليها، فازدادت حاجة الأهالي المحاصرين إلى المواد الغذائية والسلاح، خاصة بعد تأخر السفن المصرية عن موعدها المحدد لإيصال المعونة والمساعدة لعكا. ففكَّر صلاح الدين الأيوبي بحيلة، وكتب إلى متولي بيروت الأمير أسامة، فجهَّز سفينة كبيرة {بطسة} (3) كان قد غنمها من الفرنج، وكانت راسية بساحل بيروت. وبعد ترميمها، ملأها بالشحوم واللحوم، وأربعمائة غرارة غلة، وأحمال من الناشب والنفط. وركب في السفينة جماعة من أهل بيروت، تزّيوا بزي الفرنج، فحلقوا لحاهم، وعلَّقوا الصلبان مثل الرهبان، ووضعوا الخنازير على سطح السفينة بحث ترى من بعيد. وتوجهت السفينة نحو عكا واختلطت بمراكب الصليبيين، فلم يشك أحد بأمرها عندما أعترضها الحراقات (4) والشواني (5). ثم تابعت سيرها ودخلت عكا. وبعد ذلك بقليل وصلت ثلاث سفن مصرية، فاخترقت مراكب العدو وأغرقت سفينة له، ودخلت ثغر عكا أيضاً. وكانت فرحت أهالي عكا عظيمة بوصول تلك السفن.

وقد ظهرت بطولات عديدة، أثناء مساعدة أهالي عكا المحاصرين، منها بطولة الضفدع البشري عيس العوّام، الذي كان يشد على وسطه الرسائل والذهب، ثم يغوص ليلاً في البحر على غرة من العدو ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو، ويدخل عكا حيث يسلّم الرسائل إلى رجال الحامية، بينما كان الذهب يصرف نفقة للمجاهدين. وأبرز البطولات قام بها يعقوب الحلبي،، الذي خرج من بيروت على رأس سفينة كبيرة، بطسة، مشحونة بالآلات والميرة والرجال، لإمداد حامية عكا، فاعترضه ملك انكلترة ريتشارد قلب الأسد، وحاصره بأربعين سفينة، فقاتلهم المسلمون قتالاً عنيفاً، وحتى لا يستولي الفرنج على سفينة المسلمين، قال المقدم يعقوب : {والله لا نقتل إلا عن عز، ولا نسلم إليهم من هذه البطسة شيئاً}، ثم حطَّم المسلمون جوانب البطسة بالمعاول حتى فتحوها، فامتلأت بماء البحر، وغرق جميع من فيها، ولم يظفر ريتشارد قلب الأسد منها بشيء.

هذه الأعمال وأمثالها تبرز لنا الدور الذي قامت به بيروت من شجاعة وتضحية ضد عدو صليبي يفوقها قوة وكثرة في ميدان البحر. لهذا اعتمدت في مقاومة، كما اعتمدت البحرية الإسلامية، في ذلك الوقت عنصري المفاجأة والحيلة مع صدق العزيمة.

ومع ذلك سقطت عكا بيد الصليبيين، ويتزعمهم ريتشارد قلب الأسد مملك أنكلترة في 17 جمادي الثانية 587/12 تموز 1191م.

بيروت وصلح 21 شعبان 588هـ/2 أيلول 1192م :

بعد سقوط عكا، اشتد الصراع بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد، واستمرت الحروب بينهما حتى عقدا الصلح سنة 588هـ/1192م، وهو بمثابة هدنة بين الفريقين، مدتها ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، تبدأ اعتبارا من 21 شعبان سنة 588/ أول أيلول 1192م، وعلى أن تكون المدن الساحلية حتى يافا في الجنوب للصليبيين، باستثناء صيدا وبيروت وجبيل، فيحتفظ بها المسلمون، مع إباحة حرية الحج للمسيحيين. وبعد عقد الصلح توجه صلاح الدين الأيوبي إلى القدس، وزار نابلس وطبرية وصفد وتبنين، ثم قصد مدينة بيروت التي أقام بها عدة أيام، حيث أستقبله واليها الأمير أسامة في شوال 588هـ/1192م. وفي هذه الأثناء زاره بيمند الفرنجي صاحب طرابلس وأنطاكية. وبذلك يكون صلاح الدين الأيوبي قد حضر إلى بيروت ثلاث مرات، الأولى سنة 578هـ/1182م عندما فشل في استردادها من الصليبيين، والثانية سنة 583هـ/1187م عندما دخلها صلحاً، والثالثة بعد عقده الصلح مع الصليبيين سنة 588هـ/1192م. ومن بيروت توجه صلاح الدين إلى دمشق بعد أن تعهد هذه المدن التي بقيت تحت سيطرته، وأمر بإحكامها وتحصينها، لكن المنية وافته سنة 589هـ/1193م ودُفن هناك ومعه سيفه. 

(1) سيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكاري، تُوفي في 588هـ1192م، كان اميراُ جليل القدر، ومقدم الجيوش في سلطنة الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، له مواقف في الحروب الصليبية حضر مع أسد الدين شيركوه فتح مصر ولازم صلاح الدين إلى آخر عمره وأسره الصليبيون ففدى نفسه بخمسين ألف دينار وسُمَّي المشطوب لشطبة في وجهه من أثر طعنة في إحدى غزواته وأقطعه صلاح الدين مدينة نابلس كلها وقد تُوفي فيها وكان يُلقّب بالأمير الكبير.

(2) أسامة بن منقذ : هو عز الدين أسامة بن منقذ وهو غير مؤيد الدولة أبو المظفر أسامة بن منقذ الكنعاني المتوفي في 584هـ/1188م.

(3) البطس : جمع بطسة وهي مراكب كبيرة الحجم كان تتكوَّن من عدة طوابق وكانت تزوَّد بعدد كبير من اللقوع يصل أحياناً إلى أربعين قلعاً وكانت تستخدم لنقل الأزواد والميرة كما كانت تستخدم لنقل جموع كبيرة من المحاربين قد يصل عددهم إلى سبعمائة.

(4) الحراقات أو الحراريق : جمع حراقة، وهي مراكب حربية يعبِّر أسمها عن وظيفتها في إحراق سفن العدو بالنفط وكان يجدَّف فيها بما يقرب من مائة مجداف.

(5) الشواني : مفردها شيني أو شونة، وهي مركب كبير وطويل يجدف بمائة وأربعين مجدافاً ويحمل المقاتلين والجدافين وهو مزود بأبراج وقلاع تستخدم للدفاع والهجوم.

عودة للفصل الثاني

عودة للباب الثالث

عودة للصفحة الرئسية