الفصل السابع
اغتيال زهير محسن
بعد عملية السفارة المصرية في أنقرة جرت اتصالات حثيثة بين الموساد ومخابرات دولة ... للتنسيق بينهما بهدف اغتيال زهير محسن .
في أوائل تموز عام 1979 أرسل طارق إلى الموساد البرقية التالية : سيسافر زهير محسن إلى منروفيا، وفي 23 تموز سيكون في مدينة نيس الفرنسية .
اختير زهير محسن رئيساً للوفد الفلسطيني في اجتماعات مؤتمر الوحدة الأفريقية الذي انعقد في العاصمة الليبيرية منروفيا، لمناقشة الوضع في جنوب أفريقيا والصحراء والشرق الأوسط وحرب أوغندا وتشاد وقمة دول عدم الانحياز التي عقدت فيما بعد . ولعل أهم ما في مؤتمر منروفيا آنذاك حضور السادات له، فقد كلن بحاجة ماسة إلى دعم أفريقيا له نظراً للمقاطعة التي يعيشها نظامه مع الدول العربية. وقد وصل السادات إلى منروفيا وسط حراسة مشددة جداً لم تشهدها العاصمة الليبيرية في تاريخها. وكان رجال المخابرات المصرية قد سبقوا السادات إلى هناك، إذ وصلت في السابع عشر من تموز 3 طائرات عسكرية مصرية محملة بهم، وكان السادات يدرك جيداً أنه سيواجه حالة عداء من بعض الرؤساء الحاضرين الذين يناهضون اتفاقيات كامب دايفيد .
كانت مهمة رجال المخابرات المصرية تنحصر في اتجاهين :
1. حماية الرئيس السادات .
2. ومراقبة الجهات المناهضة له .
في افتتاح القمة، أشار الرئيس وليام تولبار في خطابه إلى أن أفريقيا لا يمكنها أن تقبل في أي حال من الأحوال بوجود إسرائيل فوق الأراضي العربية المحتلة بقوة السلاح. كذلك أشار الرئيس الحال موسى تراورى إلى الوضع المقلق في منطقة الشرق الأوسط وصرح بأن اتفاقيات كامب دايفيد الجزئية هي السبب في زيادة حالة التوتر .
في اليوم التالي للمؤتمر، وعندما نهض الرئيس السادات لالقاء خطابه، خرج معظم رؤساء الوفود من القاعة، كرؤساء وفد تونس والجزائر والمغرب وليبيا وموريتانيا والصومال وجيبوتي ومدغشقر وبنين وموزمبيق وأنجولا، وانتهى القمة صباح الحادي والعشرين من شهر تموز في وجود معاد للسادات واتفاقية الصلح المنفردة مع إسرائيل إذ صدر قرار عن القمة يندد بالمعاهدات المنفصلة واعتبرها عقبة تمنع الشعب الفلسطيني من تحقيق طموحاته الشرعية في تقرير مصيره واستعادة وطنه بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، قائده الشرعي والوحيد، كما استطاعت القمة الأفريقية تلك عزل كامب دايفيد تماماً في أفريقيا. وواجه السادات عزلة خانقة. فهو لم يكن قد زار أية دولة سوى الولايات المتحدة وإسرائيل.
أما زهير محسن فقد حقق لمنظمة التحرير الفلسطينية انتصاراً سياسياً كبيراً في أفريقيا على هذا الصعيد .
ولم يكن يدرى أن هناك رقابة خفية تحصى عليه أنفاسه، علماً بأنه شعر بها، لكنه عزاها إلى الاحتياطات الأمنية التي اتخذتها ليبيريا لحماية الوفود . والى الحماية التي يوفرها جهاز الأمن الفلسطيني المرافق له .
مصيدة كان
من منروفيا توجه زهير محسن برفقة زوجته إلى مدينة كان في فرنسا مباشرة حيث استأجر هناك شقة شفى بناية " جرى دالبيون " في حي لاكروازيت باسم مستعار، فقد كان ينوى الإقامة مدة شهر كامل .
وصار يقضى النهار مع زوجته علية الشاهد في الأسواق والمتنزهات وزيارة الأماكن السياحية في تلك المدينة الناعمة .
ومساء الثلاثاء 24 تموز خرج زهير محسن من الشقة وحده ليتعرف على ليل هذه المدينة. وطالت سهرته حتى الفجر فعاد إلى " جرى دالبيون " وضغط على جرس الشقة، فظهرت لزوجته صورته على شاشة الجهاز المتصل بجرس الباب ففتحت له ليصعد إليها، وما كاد يطرق باب الشقة حتى ظهر شخص كان مختبئا على درج العمارة . التفت إليه زهير محسن بسرعة فانطلق الشخص النار على زعيم " الصاعقة " لتخترق الرصاصة القاتلة جبينه، منفجرة في رأسه . فسقط على الفور قتيلاً أمام عيني زوجته وصراخها ، لتكون هي الشاهدة الوحيدة على عملية اغتيال زوجها .
أما بواب العمارة فقد شاهد شخصين أحدهما ملامحه أوروبية والآخر أسمر البشرة، ينطلقان في سيارة كانت متوقفة على مقربة من العمارة. وكانت علية قد وصفت الشخصين للشرطة الفرنسية التي توصلت إلى أن القاتل ألماني الجنسية يعمل قاتلاً محترفاً أما السائق الذي كان يرافقه ... الجنسية، وكانا قد توجها قبل يومين من حادثة الاغتيال إلى شقة زهير محسن التي استأجرها باسم صديقه السفير اللبناني السابق في بلجيكا بحجة البحث عن عمل، فتعرفت عليهما الخادمة من صورهما .
وحمّلت سوريا إسرائيل مسؤولية اغتيال زهير محسن في بيان رسمي أما ياسر عرفات فقد أشار بعد تشكيله لجنة تحقيق ضمت كلا من " أبو الزعيم" وماجد محسن ومحمد دغمان و" أبو السعود " إلى ضلوع مخابرات دولة عربية في اغتيال زعيم " الصاعقة " الذي شيعت عشرات الألوف جنازته من " مستشفى المواساة " في دمشق إلى " مقبرة الشهداء " في مخيم اليرموك وكان الرئيس حافظ الأسد في مقدمة المشيعين .
قبل الاغتيال
قبل تنفيذ العملية كانت الموساد تلح على طارق وخليل بالسفر خارج بيروت إلى أية عاصمة أوروبية، فاختارا الإمارات، لكن خليل طلب أن يكون السفر إلى قبرص فقط لأن الدانمارك غالية وبعيدة، وقد يشك فيه رؤساؤه، وبالرغم من أن طارق أعطاه ألف ليرة لبنانية إلا أن خليل طلب من " أبو على " 500 ليرة قائلاً له أنه يريد أن يرتاح عدة أيام في قبرص.
سافر خليل إلى قبرص بمفرده، ثم لحق به طارق في 20 تموز قبل حادثة الاغتيال بخمسة أيام فقط، فقد أرادت الموساد أن تؤكد نجاح العملية وتبعد هذين الاثنين عن بيروت وأن تورطهما أكثر لا.
في ردهة الصالون في فندق " كينيدي " في نيقوسيا التقى طارق بصديقه النقيب خليل فتحادثا وشربا معاً .
ثم نهض طارق واتصل بالسفارة الإسرائيلية حيث ترك خبراً لضابط الموساد زكى وعاد إلى الحديث مع النقيب خليل :
Ø هل تعرف يا خليل مع أي مخابرات تعمل ؟
Ø ورد خليل : طبعاً أعرف مع مخابرات حلف الأطلسي .
Ø فقال طارق وهو يبتسم : لا .
Ø هز خليل كتفيه وهو يقول : لا يهم أي مخابرات والسلام .
انزعج طارق من برودة صديقه وعم مبالاته فقال : انك تعمل مع المخابرات الإسرائيلية .
ولاحظ طارق أن خليل لم يكترث ولم يرف له جفن ، انهم يدفعون باستمرار ويدفعون جيداً .
في المساء اتصل زكى بطارق مرحباً وسائلاً :
Ø هل أحضرت صديقنا معك ؟
Ø نعم . انه شفى الحجرة المجاورة لحجرتي ، وهو يجلس الآن بجواري .
Ø برافو عليك ، هل أستطيع أن أتحدث معه ؟
Ø قدم طارق السماعة إلى خليل قائلاً : انه يريد أن يتحدث معك .
Ø من هو ؟
Ø جورج .
Ø كانت الأوراق دائماً تصل إلى خليل موقعة باسم " جورج " فتناول السماعة وهتف .
Ø ألو أهلاً بالأخ خليل ، إن شاء الله مرتاح في نيقوسيا ؟
Ø ورد خليل بشكل معتاد : الحمد لله .
Ø غداً سنراك أظن الساعة الخامسة ؟
إن شاء الله .
في صباح اليوم التالي سمع طارق وخليل خلال الإذاعة خبر اغتيال زهير محسن شفى فرنسا في الوقت الذي كانا يتجهان لمقابلة ضابط " الموساد " . كان خليل يخشى في قرارة نفسه أن ينتقم منه الإسرائيليون لأنه جندياً حارب في إحدى الجبهات العربية 1973 إبان حرب تشرين الأول فقال لطارق :
Ø اسمع يا طارق : إذا سجنوني أو اعتقلوني قم بإبلاغ منظمة التحرير الفلسطينية وقل لهم أنهم خطفوني بالقوة . وإياك أن تتفوه بأي شيئاً عما قمنا به .
لكن زكى سرعان ما أراح بال خليل إذ استقبله بترحاب كبير وهو يقول :
Ø يا عيب الشوم يا حضرة الضابط، هل نحن بلا مبدأ ؟ أنت ضابط وأنا ضابط مثلك ، ونحن نحترم الزمالة ولا ننتقم من أفراد . نحن عداوتنا مع دول وننتقم من دول . أما أنت معنا ونحن في خندق واحد .
لم يكن خليل يتوقع مثل هذا الاستقبال فانتهز الفرصة بعد دقائق قليلة ليقول لزكى :
Ø أنا مريض جداً ، وأعاني من أمراض كثيرة في بطني وأذني وأماكن أخرى هل تعالجونني ؟
Ø بس هيك ؟ بسيطة ، في " مستشفى هداسا " سيخلقونك من جديد .
ثم دار حديث حول السفر إلى تل أبيب والطب في إسرائيل وما إلى ذلك قبل أن يتذكر خليل مصرع زهير محسن فقال :
Ø ولو كيف تقتلون زهير محسن ؟ خلاص قتلتوه ومات ؟ !
سؤال فيه الكثير من السذاجة والكثير من الغباء، علماً بأن النقيب خليل لم يكن غبياً إلى هذا الحد، ولكنه كان بحاجة نفسية لالقاء مسؤولية القتل على جهة أخرى بعيداً عنه . وكان يتمنى لو لأنه يسمع جواباً بالإيجاب ، لكن زكى قال باستخفاف :
Ø نحن لم نقتل زهير محسن. لقد قتل زهير لانخراطه في أمور مادية ودنيئة ولو أن كل قيادات الفلسطينيين مثل زهير محسن لكننا نحن حميناهم . وأنت تعرف لأننا حين نقتل واحداًُ من زعماء المنظمات فإننا ننشر الخبر ونذيعه على العالم كله .
وبالرغم من كل الأوصاف السيئة والأعمال المشينة التي نسبها ضابط الموساد إلى الزعيم الفلسطيني زهير محسن ، إلا أن الثلاثة كانوا يعرفون في قرارة أنفسهم انهم مسؤولون عن اغتياله .
وفجأة توجه زكى إلى خليل بالقول :
Ø إنني أفهم دوافع طارق للعمل معنا ، ولكنني لم أفهم إلى الآن كيف وافقت أنت على العمل معنا بهذه السرعة ؟
فقال خليل :
Ø في الواقع لو أنكم طلبتم منى أن أعمل ضد بلدي لترددت كثيراً ... ! ولكنني وافقت على العمل معكم لأن سياسة " الصاعقة " لا تعجبني ، بالإضافة ألي صعوبة حصولي على منصب كبير فيها .
شفى اليوم التالي طلب زكى من طارق أن يدفع أجرة الفندق عنه وعن خليل ويحزما أمتعتهما بعد أن يقول لموظف الاستقبال أنهما ذاهبان إلى لارنكا، على أن يأتي بجواز سفره وجواز سفر خليل وكل الأوراق الأزمة إلى مكتبه في السفارة الساعة الخامسة مساء وأن لا يحضر خليل نفسه إلى السفارة، خذ جواز سفره ودعه ينتظر في مكان عام .
نفذ طارق الأوامر بحذافيرها في اليوم التالي، وترك خليل في محل " فليبر " ليمر على زكى في الموعد المحدد الذي أخذ منه جازى السفر والأوراق التي طلبها. ثم ناول طارق جواز سفره الإسرائيلي وجواز سفر إسرائيليا جديداً لخليل وتذكرتي سفر على إحدى البواخر المنطلقة من مدينة ليماسول.
عرج طارق على خليل في محل " الفليبر " وقال له : " هيا بنا " . خرجا من المحل وأوقف طارق سيارة أجرة طلب من سائقها أن يوصلهما إلى لارنكا، فوافق السائق الذي انطلق بهما بسرعة فائقة. وفى منتصف الطريق طلب من السائق أن يأخذ طريق ليماسول ولما استفسر السائق عن السبب قال طارق :
Ø أعتقد أن ليماسول اجمل وهناك الكثير من السائحات على الشواطئ .
نوم عميق
في ليماسول نزلا أمام أحد الفنادق ونقد طارق سائق التاكسي أجرته ، وانتظرا حتى غاب عن عينهما ، ثم استقلا سيارة أجرة واتجها إلى الميناء . في الطريق سال طارق خليل :
Ø هل يصيبك دوار البحر ؟
Ø فرد خليل : لا طبعاً ، شو مفكرني أنا ضابط بحرية أساساً ؟
Ø ابتسم طارق وهو يقول : عظيم إذن .
عند حاجز الأمن، قال طارق لضابط التفتيش وهو يسلمه جوازي سفرهما " صديقي لا يجيد غير اللغة العربية " هز الضابط رأسه بلا اكتراث وسمح لهما بالدخول، فجلسا قرابة الساعة على الرصيف أمام الباخرة قبل أن يعبر زكى ويصعد إلي ظهر الباخرة مشير لهما بأن يتبعاه وهو يحمل جواز سفره بيده .
فهم طارق الإشارة وتقدم من رجل الأمن على مدخل الباخرة حيث قدم له جوازي السفر فأدخلهما العسكري ليستلهما زكى حيث أوصلهما إلى إحدى الغرف قائلاً :
هذه " الكابين " لكما .
وانصرف زكى ليعود بعد قليل حاملاً مشروباً وتسالي وسجائر، وجلس يتحدث معهما موجهاً اهتمامه إلى خليل .
تحدثوا عن البحر وحالة خليل المرضية ، مما جعل خليل يستريح نفسياً حين قال له زكى :
Ø " سوف نعالجك في " مستشفى هداسا " على يد أمهر الأطباء في العالم لتعود شباباً من جديد " .
بعد فترة نهض زكى مودعاً وهو يقول :
Ø لا تخرجا من " الكابين " إطلاقا فهناك على الباخرة طالبان من الضفة الغربية استقلا المركب من إيطاليا .
فما كان من خليل أن شرع في النوم كأنه في بيته، ليبدأ بعد دقائق عملية شخير مزعجة لم يستطع طارق أن يتحملها فخرج من " الكابين " في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وظل يتمشى ويراقب البحر حتى جاء عمال النظافة في الصباح فساعدهم، قبل أن يوقظ خليل في تمام الساعة السابعة حين بدأ الشاطئ الفلسطيني من بعيد . خرج خليل من " الكابين " وتطلع حوله في البحر فوجد زورقين حربيين إسرائيليين يرافقان الباخرة آتى بدأت تدخل في ميناء حيفا .
وبعد أن نزل جميع الركاب ، نزل الثلاثة من الباخرة حيث كانت هناك سيارة في انتظارهم . طلب زكى من سائقها واسمه ديفيد أن ينطلق بهم إلى تل أبيب . وبعد دقائق من انطلاق السيارة قال زكى وهو يشير بيده :
Ø هنا حصلت عملية الأوتوبيس التي قادتها ال...دلال المغربي .
يا للمفارقة ! الأبطال مروا من هنا بدمائهم وها هم الخونة يمرون . ورغم إن الملاحظة أثارت في الاثنين حب الاستطلاع إلا أنهما مسحا وجهيهما بشكل عفوي يشويه الارتباك ، وكأن الأرض قد بصقت عليهما .
اتجهت السيارة ناحية " الكانتري كلوب " حيث نزل كل منهم في " كابين " خاص وأوصاهما زكى أن لا يفتحا الباب لأي إنسان سوى السائق ديفيد أو ضابط الموساد الآخر سامي . ثم انصرف ليعود في الرابعة والنصف بعد الظهر يراقبه ضابطان من الموساد فجلسوا جميعاً في حجرة الضابط خليل الذي طلب منه زكى أن يحدثهم عن نفسه وعائلته منذ البداية ومنذ كنت طفلاً . فبدأ يحكى لهم وهو يتأتىء ’ فضحك طارق مما أثار خليل فصرخ زكى شفى وجه طارق :
Ø " اذهب إلى حجرتك ودعنا نعمل " .
فنهض طارق وغادرهم ليواصل الضابط خليل سرد حكايته منذ البداية .