(إعداد وبحث فريق عمل يا بيروت)
ظَلّ لبنان، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولاية تابعة للدولة العثمانية، التى قسمها العثمانيون جبل لبنان إلى قسمين. أحدهما مسيحي، في الشمال، والثاني درزي، في الجنوب.
غير أنه وبسبب الصراع الدموي الذي شهده لبنان عام 1860، بين الموارنة والدروز، و الذي تحول إلى مذابح رهيبة، حملت الدول الأوروبية على التدخل، لدى الدولة العثمانية، لحماية المسيحيين، لتنتهي المسألة إلى وضع نظام جديد، وُقِّع عام 1861، في إستانبول. نال، بمقتضاه، جبل لبنان استقلالاً ذاتياً، تحت سيادة الدولة العثمانية. وقد عدِّل هذا النظام، عام 1864، واستمر العمل به حتى دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى.
فعطلت هذا النظام السياسي، وأقامت حكماً عسكرياً، يخضع مباشرة لإستانبول.
بيد أنه بأفول دولة الخلافة العثمانية، على أثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، واحتلال الجيوش الفرنسية لبنان، عام 1918، انتهى الوجود العثماني، ليحل محله الانتداب الفرنسي، الذي قرره مؤتمر سان ريمو، عام 1920. غير أنه لم يرتدِ الثوب القانوني الدولي، إلاّ بموجب قرار عصبة الأمم، عام 1923، الذي نصت مادته الأولى على أن تضع الدولة المنتدبة، بالاتفاق مع السلطات المحلية، خلال ثلاث سنوات، نظاماً أساسياً، يأخذ في الحسبان حقوق الأهالي ومصالحهم ورغباتهم، ويؤمّن تقدمهم.
ولا يخفى، أن الدستور اللبناني، الذي صيغ في 23 مايو 1926، كان من وضع السلطة الأجنبية الفرنسية. ولم يغيّر من هذا الواقع، تعديله، في تواريخ لاحقة؛ "فهو مجرد تعديل لبعض مواده، أريد به مسايرة الوضع الجديد للبلاد، دون المساس بكيان الدستور نفسه، الذي أريد الإبقاء عليه، وعدم التخلص منه كلية".
ولم يسلم لبنان من التدخلات الأجنبية، بعد إعلان استقلاله عن فرنسا، خاصة مع استمرار الطائفية والصراعات الدولية، التي تبدت في العديد من الأحداث، من أهمها أزمة 1958، إلى أن تفجرت الشرارة الأولى للحرب الأهلية الأخيرة، عام 1975، فاتحة الباب على مصراعَيه، أمام الصراعات، الداخلية والإقليمية والدولية، في لبنان، إذ أسهم المناخ السائد، آنذاك، على كافة هذه الأصعدة، في تأجيج حدّة هذا الصراع. ففي أعقاب حرب أكتوبر عام 1973، وبعد توقيع اتفاقات فك الاشتباك، بين الكيان الصهيوني وكلٍّ من مصر وسورية، كان هناك اتجاه للتوصل إلى تسوية سلمية، عبْر مؤتمر جنيف والأمم المتحدة.
إلاّ أن التوازن، الذي كان قائماً بين العرب والكيان الصهيوني، وقتئذٍ، وإن لم يكُن في مصلحة العرب بصورة تامة ـ لم يكُن مقبولاً من الكيان الصهيوني، خاصة في ظِل ثورة النفط، وازدياد عناصر القوة العربية، والتضامن النسبي بين الأقطار العربية، وازدياد دور المقاومة الفلسطينية على الأرض اللبنانية. وكان لبنان مرشحاً، آنئذٍ، بحكم توافر الخبرات الاقتصادية لدى أبنائه، لتأدية دور اقتصادي مهم في المنطقة.
ومن ثَمّ، كان على الكيان الصهيوني أن يلعب دوراً في تعديل ميزان القوى، تعديلاً، يقترب، بموجبه، من الحالة التي تراها ملائمة لأهدافها ومصالحها. وهكذا، كان لا بد لها، أن تتجه نحو إجهاض كافة عناصر القوة العربية. فبادر وزير الدفاع الصهيوني، آنئذٍ، إلى التصريح بأن الكيان الصهيوني، سيردّ على المقاومة، المنطلقة من الأراضي اللبنانية، من خلال عمل ينبع من داخل لبنان. وجاء ردها، بالفعل، من خلال الدور الذي لعبته في إشعال الحرب الأهلية اللبنانية، وساعدها عليه الأوضاع الداخلية اللبنانية.
وقد أدى إشعال هذه الحرب، إلى توجيه ضربة إلى أحد مراكز التحضر العربي المتميزة، والقادرة على التعامل مع معطيات العصر الحديث. كما أنه أدى إلى خلق مشكلة جديدة، على المستوى العربي، تتعلق بكيفية معالجة الوضع في لبنان، خاصة أن للبنان أهميته، بالنسبة إلى سورية، إحدى دول المواجَهة الرئيسية مع إسرائيل. ومن ثَمّ، فقد سعت إسرائيل، من خلال إشعال الحرب الأهلية اللبنانية، إلى خلخلة في عناصر القوة العربية، لإضعافها، بقدر الإمكان. وتابعت خطواتها، بعد ذلك، باحتلال جنوبي لبنان، والسيطرة على مياهه، وإنشاء ما يسمى "جيش لبنان الجنوبي"، الموالي لها.
الحرب الأهلية في لبنان (1975)
بداية نؤكد إن الأزمة اللبنانية هي أزمة سياسية، ذات جذور، اجتماعية واقتصادية وتاريخية عميقة، وإن أخذت وجهاً طائفياً؛ إذ اقتضت مصلحة الكيان السياسي في لبنان ذي النظام الطائفي، الانخراط الاقتصادي الكبير في العالم العربي، وفي الوقت نفسه، الانعزال السياسي الكبير عن قضاياه وصراعاته. واستطاعت الانعزالية اللبنانية، ولا سيما حزب الكتائب، أن تفرض هذه العزلة على لبنان، وأن تجعل مواقفه السياسية متسمة بالحياد السلبي، وأن تنأى به، إلى حدّ بعيد، عن الانتفاضات، التحررية والاجتماعية، التي شهدها العالم العربي، قبْل عام 1967. وعلى الرغم من وجود بعض الظواهر، الوطنية أو التحررية، في لبنان، إلا أنه أمكن الكيان اللبناني أن يمتصها، من دون حدوث تغييرات داخلية عميقة، داخل هذا الكيان. لكن دخول حركة المقاومة الفلسطينية لبنان، قلَب أوضاعه، وحمل كيانه على إعادة النظر في مواقفه وأوضاعه، وتحديد مواقف واضحة من قضايا المقاومة والتحرر، والخروج من عزلته.
أما التناقضات الاجتماعية في لبنان ، فهي عديدة، ومن أبرزها ذلك التخلف ، الذي كان سائداً في جنوبي لبنان . فبينما تتمركز المصالح الاقتصادية في العاصمة، تتردّى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الجنوب. وبينما تشهد العاصمة نمواً وازدهاراً، في كافة المجالات، يعاني الجنوب وأهله الحرمان. وكما يظهر الضد حُسْن ضده، كذلك، الضد يظهر سوءه الضد، إذ برز تخلّف الجنوب اللبناني في مقابل المستعمرات الإسرائيلية.
شهد لبنان، قبَيل حربه الأهلية، تحوّلاً اجتماعياً كبيراً. تجلى في نمو قوى طفيلية ورأسمالية، عديدة، وتدهور أوضاع الطبقة الوسطى، واضطرابات طلابية وعمالية، عنيفة، واستشراء الغلاء، وظهور قوى اجتماعية وتقدمية، جديدة، رأت في التغيير الاجتماعي علاجاً لأوضاع لبنان ومشاكله. لكن هذه التغييرات، لم تكن واضحة لبعض القوى اليمينية في لبنان، التي رأت في الوجود الفلسطيني في لبنان، أساساً للحرب الأهلية اللبنانية. فشن حزب الكتائب حملة ضارية على حركة المقاومة الفلسطينية، وأمعن في تدريب أعضائه، عسكرياً، وكثّف تسلحه، ثم بادر إلى التصادم المسلح مع قوات المقاومة، في عين الرمانة، إيذاناً ببدء الحرب الأهلية، التي استهدفت استنزاف قدرات المقاومة، عسكرياً وسياسياً، وامتصاص طاقات العمل الفدائي، في أعمال جانبية أو ثانوية، تبعده عن هدفه الرئيسي ضد إسرائيل، فيتوقف إطلاق النار في الجبهة الملتهبة الوحيدة، ويفتح الطريق أمام التسوية النهائية مع العدوّ.
بداية الحرب الأهلية اللبنانية
تفجرت الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينيات، إثر اغتيال النائب معروف سعد، عام 1975، فيما عرف بأحداث صيدا. وعقب حادث عين الرمانة، الذي عكس التصادم الماروني ـ الفلسطيني. بيد أن مناخاً متفجراً سبق، الحرب وأسهم في إشعالها.
أولاً ـ مؤشرات الحرب الأهلية اللبنانية
تباينت الآراء واختلفت في بداية الصراع. فهناك مَن رأى أن وفاة جمال عبدالناصر، في 28 سبتمبر 1970، فتحت الأبواب لاحتمالات القضاء على الوجود الفلسطيني، وضرب التيار الوطني، على أرض لبنان، بعد مذابح الأردن. وثمة مَن قال بأن اغتيال الملك فيصل، في 25 مارس 1975، هو إشارة البدء بالقضاء على هذا التيار. وبين هذا الرأي وذاك، آراء متعددة، لعل أقربها إلى الصواب، أن أحداث عام 1973 هي البداية، خاصة أن لها جذوراً، تمتد في الماضي، وفروعاً تطاول العام التالي، 1974، حتى وقوع الانفجار مباشرة. ولعل أبرز الأحداث، التي رجّحت اختيار نقطة البداية في هذا العام، هي:
محاولة الجيش اللبناني، في مايو 1973، القضاء على المقاومة الفلسطينية، على أرض لبنان، أو على الأقل، كسر شوكتها. وإزاء فشل الجيش في محاولته، تكوّنت الميليشيات الحزبية، لتضطلع بما عجز الجيش عن القيام به، أو مساعدته، على أقلّ تقدير.
قرار مؤتمر القمة العربية السادسة الرقم 46، في الجزائر، في 28 نوفمبر 1973، أن منظمة التحرير الفلسطينية، هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، واعتراض الأردن على ذلك، وبداية أزمة سياسية حادّة، أثبتت استحالة إقناع الأردن برأي الأغلبية.
تغيّر الدبلوماسية الأمريكية، في إطار إستراتيجية السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
بداية سلسلة اعتداءات إسرائيلية، ذات طبيعة خاصة، على الفلسطينيين، في لبنان.
اندلاع حرب إعلامية عربية، تركزت، بوجه خاص، في جرائد لبنان. وقد ارتبطت بظاهرة انتشار الخلافات بين الدول العربية، التي بلغت حدّ التهديد باستخدام القوة بين الجيوش العربية، التي يجمعها اتفاق الدفاع المشترك.
حلف ماروني، في مواجَهة المقاومة الفلسطينية
منذ اللحظة الأولى للوجود الفلسطيني المسلح، ظهر تناقضه مع مصالح الفئة الحاكمة في لبنان، التي رأت في تناميه خطراً على كل مقومات وجودها. وأسفرت الدعوة إلى إطلاق حرية العمل الفدائي في لبنان، عام 1968، التي كانت تقف خلفها "الحركة الوطنية اللبنانية"، والجماهير العربية المتعاطفة معها، عن نشوء حلف ثلاثي ماروني، من كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده، استهدف:
الوقوف بالمرصاد للفدائيين الفلسطينيين، باعتبار أن ذلك يشكل خطراً، داخلياً وخارجياً، بالنسبة إلى الكيان الصهيوني !!.
الوقوف في وجه التيار الشهابي اللبناني، على أبواب الانتخابات النيابية، في ذلك العام، تحضيراً للانتخابات الرئاسية عام 1970.
وقد رأى فؤاد لحود، رئيس لجنة الدفاع في مجلس النواب اللبناني، في منتصف السبعينيات، أن هدفَي الحلف، حققا له انتصارات واسعة في الانتخابات النيابية. يضاف إلى ذلك، أن الحلف، لاقى تأييداً من الدول العربية، اليمينية، إذ وجدت فيه مناصراً ضد اليسار. ودفع الحلف انتصاراته في الانتخابات، والدعم العربي اليميني، إلى التصلب في مطالبته بالحدّ من انطلاق العمل الفدائي من لبنان.
وساعد الكيان الصهيوني على دعم هذا التيار، بغارتها على مطار بيروت، في 28 ديسمبر 1968، حين هبطت المطار فِرقة، بطائرات عمودية، ودمرت 13 طائرة ركاب ونقل كانت جاثمة على أرض المطار، تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية، رداً على عملية الفدائيين الفلسطينيين، في مطار أثينا، في 26 ديسمبر 1968.
وفي 18 فبراير 1969، أعلنت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قيام الكفاح المسلح . وبعد أيام، افتعلت السلطة اللبنانية تصادماً مع المقاومة، بهدف تقييد الوجود العسكري الفلسطيني، في جنوبي لبنان. إلا أن غضبة الشارع اللبناني، التي تمثلت في مظاهرات، اصطدمت بقوات الأمن، أدت إلى استقالة رئيس الوزراء، ورفض مختلف القيادات السياسية قبول تشكيل الوزارة، مما جعل الأزمة الوزارية تستمر 215 يوماً.
وخلال ذلك، استمرت المناوشات التي تحولت، مع شهر أكتوبر، إلى اصطدامات مسلحة، في الجنوب، وعلى طول الحدود مع سورية، وفي المخيمات. ولكن انحياز فئة كبيرة من الشعب اللبناني إلى جانب العمل الفدائي، إضافة إلى الأزمة الوزارية، كل ذلك جعل حُكم شارل حلو في مواجَهة أزمة متصاعدة. فالجيش لم يستطع حسْم القتال، ومنْع التجول لم يوقف التصادمات.
وتحت ضغوط الأزمة، والضغط العربي، الرسمي والشعبي، طلب لبنان وساطة مصر.
وفي 31 نوفمبر 1969، توصل المفاوضون إلى اتفاق سري، عرف باتفاق القاهرة، حق، بموجبه، العمل والإقامة والتنقل للفلسطينيين، المقيمين بلبنان، وقت توقيع الاتفاق.
وبمقتضاه، تُنشأ لجان محلية، من الفلسطينيين في المخيمات، لرعاية مصالح اللاجئين، وذلك بالتعاون مع السلطات المحلية، وضمن نطاق السيادة اللبنانية. مع وجود نقاط للكفاح المسلح داخل المخيمات، تتعاون مع اللجان المحلية على تأمين حُسْن العلاقة بالسلطة.
وتتولّى هذه النقاط تنظيم وجود الأسلحة وتحديدها، في المخيمات. والمهم أن الاتفاق انتهى إلى تأكيد الطرفين، أن الكفاح المسلح الفلسطيني، هو في مصلحة لبنان، كما هو في مصلحة الثورة الفلسطينية والعرب جميعهم.
تكوين الميليشيات اللبنانية
ما كان للجيش اللبناني أن ينجح في مواجَهة الخطر الإسرائيلي، حتى لو توافر له السلاح.
فأنّى له النجاح، وهو جيش بلا وحدة تجمعه! انبثق من معادلة طائفية، فكان انعكاساً لها.
ولو استخدم في القضاء على المقاومة الفلسطينية، فسيكون عرضة للانقسام. وقد أوضح التقرير، المعروف بالتقرير 532، مدى عجز الجيش اللبناني عن النهوض بالمهام المطلوبة منه. وأن إعادة تسليحه وتدريبه، تستغرق سنوات، وهي قد تذهب سدًى، إن لم يلتزم بتنفيذ الأوامر، نظراً إلى التركيب الطائفي لرُتبه وتوزيعاته. ومن ثم، فليس هناك مفرّ من الاعتماد على الميليشيات الخاصة، على أن يكون الجيش عاملاً مساعداً لها.
التركيب الطائفي للجيش اللبناني ودوره في الحرب الأهلية
مثل التركيب الطائفي للجيش اللبناني أهم العوائق، التي حالت دون إرساء دعائم جيش قوي موحَّد؛ إذ إن النسب الطائفية، التي كان يجب أن يؤخذ بها، في السبعينيات، لم تراعَ. ففي عام 1975، كان 85 % من رُتب قادة الوحدات للمسيحيين، بينما تُرك للمسلمين 15 بالمائة. ولم يقف أثر الطائفية عند حدود توزيع الرتب، بل امتد إلى دور الجيش نفسه، الذي اتسم، منذ أزمة 1958، بالطائفية. ومصداق هذا الواقع، أن الجيش اللبناني، استخدم في قصف بيروت، عام 1973، بينما لم يكُن له دور فاعل في مواجَهة الهجوم الإسرائيلي على لبنان.
وإضافة إلى التركيب الطائفي، اتّسم الجيش اللبناني بالضعف، الناجم عن انخراطه في السياسة، إلاّ أنه على الرغم من ذلك، مثّل جهازاً مستقلاً، على عكس الحال في كثير من دول العالم. فطبقاً لقوانين 1955، استقل قائد الجيش استقلالاً تاماً عن السلطة التنفيذية. وفي غياب قانون التجنيد الإجباري، تحكمت السلطة السياسية في المؤسسة العسكرية اللبنانية، وهو ما تبدّى من خلال عمليات التطهير والتبديل في القيادات العسكرية، حسب التغيرات في الهيكل السياسي.
ولعل ما ضاعف من تدنِّي فاعلية الجيش اللبناني، تفشّي الفساد بين القيادات العسكرية، من خلال تلقّي العمولات والرشاوى، وهو ما اتضح من خلال عقد صفقة صواريخ الكروتال وطائرات الميراج، البالغة قِيمتها200 مليون ليرة لبنانية، إلا أنها ألغيت، واستُبدل بالطائرات والصواريخ مدافع 20 مم، المصممة قبل الحرب العالمية الثانية، ضد طائرات، كانت سرعتها لا تتجاوز نصف سرعة الصوت، لتستعمل في لبنان، ضد أحدث طائرات. وقد عنى هذا الواقع، أن النظام السياسي، قبَيل الحرب الأهلية اللبنانية، لم يكن يرغب في تقوية الجيش اللبناني. حتى إن بيار الجميل، رئيس حزب الكتائب، آنذاك، أعلن في البرلمان اللبناني، ضرورة تحويل جزء كبير من ميزانية الجيش، إلى الخدمات العامة، بدلاً من النفقات العسكرية.
وهكذا، يمكِن القول، إن الجيش اللبناني، قد أصبح، قبْل الحرب الأهلية وأثناءها، شراذم بين مختلف الانتماءات الطائفية. وكشف تقرير لمساعد رئيس الأركان، استحالة استخدام الجيش، كوحدة متماسكة، أثناء الحرب، لأنه سيصبح "جيشاً لفريق أو لطائفة، وليس جيشاً لدولة".
المراحل التى مرت بها الحرب الأهلية اللبنانية
مرت الحرب الأهلية بمرحلتين. بدأت بمرحلة حرب المدن، وانتهت بحرب الجبال، وإنْ استمرت حرب المدن، خلال المرحلة الثانية.
بدأت الحرب في مدينة بيروت، عام 1975، بعمليات خطف عشوائية. ثم ارتبط الخطف برصاص القناصين، الذين انتشروا على سطوح الأبنية العالية، التي تتحكم في مداخل الطرق. ثم رُفِعت المتاريس، من أكياس الرمل والأسلاك الشائكة، في كل مكان. فالخطف العشوائي هو أفضل السبُل لإثارة الخوف، فيصبح كل فرد، مهْما كانت سلبيته، أو بُعده عن المشاركة في الأحداث، عرضة للخطف. ثم إن انتشاره يخلق الشك بين الناس، فلا يثق أحد بأحد، إلا في دائرة العائلة، التي تتسع لتشمل الحي، ثم الطائفة. وهكذا، يرتبط أمن المواطن بالعائلة والحي والطائفة. ويُحكَم إغلاق الدائرة بالمتاريس والقنص. والقناص لم يكُن مجرد قاتل محترف، وإنما جزء من إستراتيجية حرب المدن، بتحويل الأحياء إلى جبهات قتال. وما أن يتحقق ذلك، حتى تجري عملية تطهير الحي من الرافضين للحرب، كأسلوب للتعبير عن الخلاف في الرأي أو في المصلحة، سواء كانوا من الطائفة نفسها، أو من طائفة أخرى. فالتطهير يشمل كل رافض لمنهج القتل. وإثر تطهير المنطقة، يوضع لها نظام حُكم، بقوة السلاح، لغة الحرب الوحيدة.
وكشف الواقع، أن "الكتائب" كانت، في بداية الحرب الأهلية، أكثر الأطراف دقة، في التنظيم والتنفيذ، بحُكم تنظيمها الفاشي، وحجم السلاح، وعدد المدرَّبين عليه. ولم تكُن "الحركة الوطنية اللبنانية" في حاجة إلى هذا الأسلوب؛ فهي، بحُكم طبيعتها، بعيدة عن الانغلاق. ووضح ذلك في بيروت الغربية، التي كانت تحت سيطرتها، حيث لم يتعرض التجمع المسيحي الأرثوذكسي، في حي السريان، أو في منطقة المزرعة، للخطر، باستثناء بعض الحوادث الفردية، التي أمكن السيطرة عليها. بينما لم تتورع "الجبهة اللبنانية" (الجميل ـ شمعون ـ فرنجية) عن القضاء على الموارنة المعارضين لها، أو تهجيرهم من بيوتهم، إنْ كانوا ينتمون إلى عائلات عريقة.
ومع التقسيم الجغرافي، بدأت حرب "الأحياء". وخلالها، أسفر معظَم اللبنانيين عن طائفيتهم وتعصّبهم البغيض. وعمت الجرائم بلداً، كان أبناؤه يدّعون أنهم أكثر أبناء المنطقة حضارة وتقدماً. فإذا بالقتل الجماعي على الهوية، يصبح أسلوباً للحرب. فِرق من المسلحين تدخل مواقع العمل، وطبقاً لبيانات تحقيق الشخصية، تجمع الخصوم في الحجرات، وتطلق عليهم النيران، وسط توسّل زملائهم، الذين أنقذهم انتماؤهم إلى مذهب القاتل نفسه. فضلاً عن اغتصاب الفتيات، وتقطيع الجثث وجمعها والرقص حولها. إضافة إلى أن قائد السيارة، مثلاً، استبدل الرصاص بالزمارة، لإفساح الطريق لسيارته. زد على ذلك حواجز المسلحين في الطرقات، وتجريدهم المارين من ملابسهم، ليصبحوا عراة، ومن خلال "عملية الختان"، يمكن تمييز هوية الشخص.
أمّا يوم السبت، 6 ديسمبر 1975، فكان، حقاً، "السبت الأسود". ذلك أنه على أثر العثور على جثث أربعة قتلى، في منطقة الفنار، قيل إنهم من مرافقي بيار الجميل، زعيم "الكتائب"، سارعت ميليشيا الحزب بإطلاق مقاتليها في اتجاه ساحة الشهداء وباب إدريس، قلب بيروت، حيث اختطفوا العشرات، وقتلوا معظمهم، من الفور، وقطّعوا الآخرين على أبواب مقارّ الحزب. وعمد مقاتلو "الكتائب"، عند حاجز المرفأ، إلى إطلاق النار على عماله، وألقوا جثثهم في البحر. وبلغ عدد ضحايا "السبت الأسود" 110 قتلى، ونحو 300 مخطوف، علاوة على الجثث التي أُلقيت في البحر. وكان بين الضحايا نحو 30 عاملاً مصرياً. وظهر، بعد ذلك، أن "الكتائب"، كانت قد اختطفت عدداً من المصريين، وسخرتهم لخدمتها، تحت التعذيب، ولم يستطع أحد التدخل لإنقاذهم.
واتّسمت حرب "الأحياء" بالقصف العشوائي، إذ شهدت مدن لبنان تبادل قصف بأسلحة، لم يسبق أن استخدمت في أي حرب أهلية، داخل المدن، مثل الصواريخ ومدفعية الهاون والمدفعية الثقيلة.
وفي المرحلة الثانية، طغى على الحرب طابع حرب الجبال، وإنْ لم تتوقف، خلالها، حرب المدن. وإبّان هذه المرحلة، أباد الموارنة مخيم "ضبيَّه" الفلسطيني، ذا الأغلبية المسيحية .
الاجتياح الاسرائيلي الاول لجنوب لبنان
في ظل هذا الوضع، وفي نهاية السبعينيات، حدثت عملية تل أبيب، على أيدي الفدائيين الفلسطينيين، الذين يظن أنهم جاءوا، بحراً، من جنوبي لبنان. وكانت حصيلة تلك العملية مقتل حوالي ثلاثين إسرائيلياً، وجرح عشرات آخرين. وقتل، كذلك، تسعة فدائيين، ووقع اثنان آخران في الأَسْر.
استهدف الفلسطينيون بهذه العملية "ضرب مسيرة السلام، التي تهدِّد، شيئاً فشيئاً، بإبعادهم بشكل كامل عن شبكة المصالح"، التي حاول بعض الفرقاء إنشاءها في الشرق الأوسط، خاصة بعد زيارة الرئيس محمد أنور السادات إلى إسرائيل في 19 نوفمبر 1977. كانوا يعتقدون أنهم يعيدون، بذلك، القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث. وتوقع الفلسطينيون الرد الإسرائيلي، لكنهم لم يقدروا أنه سيكون بهذا القدر من العنف والضخامة، كما اعترف أحد مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية.
ردّ الجيش الإسرائيلي بعملية الاجتياح الأولى لجنوبي لبنان. و"كان قد هيّأ لها منذ وقت طويل، بانتظار الفرصة الملائمة، التي كانت العملية الفدائية على طريق تل أبيب، مجرد حجة لها".
لقد كان المقصود أن تمهد إسرائيل لإرسال قوات تابعة للأمم المتحدة إلى جنوبي لبنان، بناء على طلب الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الإسرائيليون يرون، أنه من أجل منع المقاتلين الفلسطينيين من التسرب في الجنوب، يجب أن ينتشر رجال "القبعات الزرقاء" على طول نهر الليطاني، وذلك يقتضي، أولاً، أن يقوم جنود إسرائيل باحتلال المنطقة.
وقد أدى الجيش الإسرائيلي الدور الموكول إليه، على حساب مئات القتلى المدنيين، ونزوح حوالي ربع مليون من المدنيين، اللبنانيين والفلسطينيين، شمالاً، هرباً من الحرب، التي دمرت عشرات القرى.
التحالف الإسرائيلي ـ الكتائبي
مع بداية الحرب الأهلية، لجأ أحد ضباط الجيش اللبناني (الرائد سعد حداد) إلى إسرائيل، وأنشأ شريطاً أمنياً على الحدود الجنوبية للبنان، وهو ما أسهم في بروز الدور الإسرائيلي في الحرب الأهلية اللبنانية. وحرصت إسرائيل على دعم حداد، ومدّه بالسلاح. وحينما اجتاحت الجنوب اللبناني، عام 1978، وبسطت سيطرتها على قطاع واسع منه، جعلت من حداد قائداً لهذا القطاع، المقدر عدد سكانه بنحو 100 ألف نسمة، والمقدرة مساحته بحوالي 600 كم2، من أصل 2085 كم2، هي إجمالي مساحة الجنوب اللبناني. وعندما تبدلت التحالفات السورية في لبنان، تهيأت لإسرائيل فرصة لتعزيز دورها في الحرب اللبنانية، فتعاونت مع التحالف الكتائبي، في شمالي لبنان، ومَدّته بالأسلحة، وعملت، في بعض الأحيان، على حمايته في مواجَهة الهجمات، التي تعرّض لها من قِبل القوات السورية، العاملة في نطاق قوات الردع العربية.
ومع إعلان سعد حداد لدولته، "لبنان الحر"، في 14 أبريل 1979، تحت الحماية الإسرائيلية المباشرة، أصبح الدور الإسرائيلي في الأزمة اللبنانية أشد فاعلية. وفي إطار هذا السياق، واصلت إسرائيل سياسة إفراغ الجنوب اللبناني من سكانه، ومهاجمة المقاومة الفلسطينية، وإضعاف موقف سورية. فساد جنوبي لبنان التوتر وعدم الاستقرار، نظراً إلى احتلال إسرائيل شريطاً من القرى والبلدات اللبنانية، المحاذية لحدودها الشمالية، منذ عام 1978، وهو ما يعرف بالشريط الحدودي. وتضم قرى هذا الشريط وبلداته العديد من الطوائف، إلا أن الغالبية فيها من الشيعة. وعمدت إسرائيل إلى إنشاء بوابات عبور، تربط الشريط الحدودي بالمناطق اللبنانية الأخرى، في الجنوب والبقاع، ووكلت مهمة الأمن الداخلي في الشريط، إلى جيش لبنان الجنوبي، الموالي لها، والذي يقوده أنطوان لَحْد، خلفاً لسعد حداد.
وتحتفظ إسرائيل بهذا الشريط لأسباب أمنية، ومطامع إقليمية في أراضي لبنان ومياهه، فضلاً عن استخدامه، كورقة، للضغط على دمشق، وللتجاذب والمساومة مع واشنطن. ويُعَدّ جنوبي لبنان الجبهة العربية الوحيدة، التي لا تزال تقاتل إسرائيل. وتحرص الدولة العبرية على أن تحصر القتال في منطقة الشريط الحدودي.
أهمية لبنان الإستراتيجية، كبُعد إسرائيلي
تُعَدّ الأهمية الإستراتجية للبنان أهم أبعاد موقف إسرائيل من الأزمة اللبنانية، وذلك لأسباب، إستراتيجية واقتصادية، تفرض عليها اهتماماً كبيراً بالجنوب اللبناني. إذ تقع هذه المنطقة على مسافة قريبة جداً من مراكز الكثافة السكانية، والإنتاج الصناعي فيها. يضاف إلى ذلك أنها صالحة، من الناحية الطبوغرافية، لتكون قاعدة تمركز الفدائيين وانطلاقهم. لذلك، تحرص إسرائيل على إخلائها من أي عنصر مسلح معادٍ، لتكون حزام أمن، أو أرضاً مهجورة، يمكِن، في ظروف ملائمة، على المستويين، الدولي والإقليمي، اجتياحها والسيطرة عليها.
إضافة إلى مقتضيات الأمن، هناك أسباب ذات طبيعة اقتصادية، تتعلق بفرص التوسع الزراعي، واستغلال المياه. ولعل مشكلة المياه، تظل أهم عقبة تواجه مشاريع التنمية الزراعية في إسرائيل. ولا تزال مسألة التغلب عليها، من طريق تحلية مياه البحر، باهظة النفقات. بينما جنوبي لبنان، يحتوي على مصادر وفيرة للمياه، تنبهت لها الحركة الصهيونية، منذ الحرب العالمية الأولى، فتضمنت المذكرة، التي قدمتها المنظمة الصهيونية العالمية إلى مؤتمر فرساي، أن حدود فلسطين، يجب أن تشمل جنوبي لبنان حتى صور، وأن جبل الشيخ ولبنان، هما مصدر المياه الحقيقي لفلسطين، وأنه لا يمكِن فصلهما عنها، من دون إصابة الحياة الاقتصادية فيها بأضرار فادحة. ومع مطلع الستينيات، كانت مطامع إسرائيل في مياه تلك المنطقة، قد أصبحت حقيقة واضحة، تمثلت في مشروعات محددة. وكان رد فعلها عنيفاً، إزاء كل المحاولات العربية لاستغلال مياه تلك المنطقة، بخاصة مياه نهر الليطاني.
غير أن سياسة إسرائيل تجاه لبنان، خلال الأعوام الأخيرة، كان تأثرها بالعامل الإستراتيجي الأمني، أكثر منه بأي عامل آخر. كما أنها كانت أحد مداخل الأزمة اللبنانية، وأحد عوامل تحريكها.
الموقف الفلسطيني من الحرب الأهلية اللبنانية
تميز الموقف الفلسطيني عن غيره من مواقف أطراف الحرب الأهلية اللبنانية، خاصة الموقف السوري، بأنه موقفُ طرف متفاعل، داخلياً، في الأزمة اللبنانية، أي أنه طرف يؤثّر فيها ويتأثر بها، سواء بسبب وجود الفلسطينيين في لبنان، أو بسبب تمركز المقاومة الفلسطينية المسلحة، بشكل مكثف، في الأراضي اللبنانية. وهو ما أسفر عن خلاف حول الوضع القانوني للمنظمات الفلسطينية في لبنان، أي حول حقوقها وواجباتها، وكذلك حول حقوق الدولة اللبنانية وواجباتها حيال تلك المنظمات.
وكما دعم الوجود الفلسطيني المسلح موقف منظمة التحرير الفلسطينية، فإنه، كذلك، منح القوى اللبنانية المسيحية، أقوى حججها لتبرير بدئها المعركة ضد هذا الوجود، بكل قواها، السياسية والعسكرية، تحت شعار وضع حدّ "للتهديد الفلسطيني لسيادة لبنان". وكان الرد الفلسطيني على هذا الطرح الطائفي للأزمة، هو اللجوء، أولاً، إلى القوة الذاتية للمقاومة الفلسطينية، والتلاحم مع القوى اللبنانية، الملتفّة حولها، أي اليسار اللبناني، الذي تشكل الجماهير قاعدته الشعبية. أمّا الوسط اللبناني المعتدل،فالتزم موقف الحياد، الطائفي والطبقي، انتظاراً لحسم المعركة، أو تهدئتها، تدريجاً، تمهيداً لإعادة طرح مسألة التوازن الطائفي، مستقبلاً، وضمن إطار حركة إصلاح دستوري، كانت القوى الوطنية، في جميع الطوائف، تدعو إليها، قبل اندلاع القتال. ولكن تصاعد القتال لم يمكّن الأطراف من إيجاد قاعدة الاستقرار اللازمة، لمعالجة الأزمة سياسياً.
أمام هذا الوضع، رأت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، تواجِه وضعاً شبيهاً بالوضع، الذي تعرضت له في الأردن، عام 1970. فشدة القتال، واقترابه من مَواقع المخيمات الفلسطينية، وارتفاع درجة التعبئة السياسية، لدى جميع الفئات في لبنان، كل ذلك، جعل منظمة التحرير الفلسطينية أمام بديلين، لا يقلّ أحدهما خطراً عن الآخر:
البديل الأول: الدخول في المعركة، كطرف رئيسي، إلى جانب القوى التقدمية، بهدف حسم القتال، في مصلحة هذه القوى، مع تحمّل ما ينطوي عليه هذا البديل من أخطار تدخّل الجيش اللبناني، أو تدخّل قوى أجنبية، من بينها إسرائيل، لتدويل الأزمة، وتوجيه ضربة مشتركة إلى الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية في لبنان.
والبديل الثاني: الخروج من المعركة، والاكتفاء بموقف المشاهد، والمدافع عن النفس، عند الضرورة فقط، مع تحمّل ما ينطوي عليه هذا البديل من أخطار فقدان المساندة الجماهيرية، للمقاومة الفلسطينية.
راوحت منظمة التحرير الفلسطينية بين البديلين. فعندما كانت تتعرض لهجمات، كانت تلجأ إلى البديل الأول. وفي الحالات الأخرى، كانت حريصة على دقة تحركاتها، السياسية والعسكرية، موازِنة بين الحفاظ على التزاماتها الثورية، والحفاظ على قواتها الضاربة، ومركزها السياسي.
نهاية الحرب الأهلية اللبنانية
التحضير لمؤتمر الطائف
بدأ التحضير الجدي لإنهاء الأزمة اللبنانية، على قاعدة الوفاق، في مؤتمر القمة العربية، غير العادي، الذى عقد، لهذه الغاية، في الدار البيضاء، بين 23 و26 مايو 1989. وكان انعقاد المؤتمر إشارة واضحة إلى أن قرار الحل قد اتُّخذ، وأن الأزمة اللبنانية، في سبيلها إلى الحل، إذ وضعت نتائج المؤتمر ومقرراته الأسُس الرئيسية، شبه النهائية، للحل المطلوب.
بعد استعراض أخطار الوضع اللبناني، أكد قادة العرب أن الأزمة اللبنانية، يجب حلّها في الإطار العربي، تأكيداً لعروبة لبنان، وللمسؤولية العربية حياله. وقرروا تأليف لجنة عليا من ملك المغرب، الحسن الثاني، وخادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبد العزيز، ورئيس الجمهورية الجزائرية، الشاذلي بن جديد، كانت صلاحياتها مطلقة، وحددت مهمتها في برنامج عمل دقيق وأهداف واضحة.
*مشروع وثيقة الوفاق الوطني، وبيان اللجنة الثلاثية
اللجنة الثلاثية، المكوَّنة من خادم الحرمَين الشريفَين، الملك فهد بن عبد العزيز، عاهل المملكة العربية السعودية، والملك الحسن الثاني، عاهل المغرب، والرئيس الجزائري، الشاذلي بن جديد ـ أعلنت، في 31 يوليه 1989، وصول مهمتها إلى طريق مسدود، في شأن حل الأزمة اللبنانية. وكانت قد كُلفت، في 26 مايو 1989، في ختام قمة الدار البيضاء الطارئة، بالعمل على إيجاد مخرج للأزمة اللبنانية، في غضون ستة أشهر.
فأجرت حوارات مع الأطراف المعنية بالأزمة، من خلال عدة جولات، شملت بغداد ودمشق وبيروت، إضافة إلى الرباط وجُدة.
وتضمن مشروع وثيقة الوفاق الوطني النقاط التالية:
أعلى الصفحة
1. على الصعيد السياسي
أ.مشروع إصلاح سياسي، يؤمّن مشاركة حقيقية، بين المسلمين والمسيحيين، بما يضمن التوازن بين السلطتَين، التنفيذية والتشريعية، في البلاد. واقتُرح، كمرحلة أولى، عقد اجتماع للبرلمانيين، خارج لبنان، من أجْل التشاور، والاتفاق على إعادة الحياة إلى كل المؤسسات الدستورية اللبنانية، وإجراء الإصلاحات السياسية المطلوبة.
ب.بسط سلطة الدولة اللبنانية على كل التراب اللبناني، بقواتها الذاتية، وفقاً لقرار القمة العربية، غيرالعادية، المنعقدة في الدار البيضاء.
ج. تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بالعمل بالوسائل كافة، على تنفيذ القرار الرقم 425، وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي، المتعلقة بإزالة الاحتلال، مع التمسك باتفاقية الهدنة، الموقعة عام 1949.
د. تأكيد علاقات لبنان بسورية، التي تستمد قوّتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الإستراتيجية المشتركة. وضرورة التنسيق والتعاون بين البلدَين، بموجب اتفاقات في شتى المجالات. وكذلك، تأكيد ألاّ يكون لبنان مصدر تهديد لأمن سورية، وألاّ تمثل سورية، في المقابل تهديداً لأمن لبنان، بأي شكل من الأشكال .
أعلى الصفحة
2. على الصعيد الأمني
وضعت خطة أمنية شاملة، لكل لبنان، تتسم خطوطها العريضة بما يلي:
أ. الإعلان عن حَلّ جميع الميليشيات، اللبنانية وغير اللبنانية، وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية، خلال مدة زمنية محددة.
ب. تعزيز قوى الأمن الداخلي، من خلال:
(1) فتح باب التطوع أمام جميع اللبنانيين، من دون استثناء، والبدء بتدريبهم، مركزياً، ثم توزيعهم على الوحدات، مع إلحاقهم بدورة تدريبية دورية، ومنظمة.
(2) تعزيز جهاز الأمن، بما يتلاءم وضبط عمليات، دخول وخروج الأشخاص، عبْر الحدود، براً وبحراً وجواً.
(3) تعزيز القوات المسلحة.
(4) حَلّ مشكلة المهجَّرين اللبنانيين، والسماح لكل مهجَّر لبناني، منذ عام 1975، بالعودة إلى المكان الذي هجِّر منه .
وفي ما يتعلق بموضوع العلاقات بين سورية ولبنان، حثت اللجنة على ضرورة توقيع اتفاق أمني بين حكومتَيهما، برعايتها، يحدَّد، بموجبه، عدد القوات السورية، ومراكزها، ومدة وجودها في البقاع. فظهر الخلاف في وجهتَي النظر، بين اللجنة الثلاثية وسورية، خاصة في شأن مسألتَي بسط السيادة اللبنانية على كل التراب الوطني، ومستقبل العلاقات السورية ـ اللبنانية. إذ ارتأت دمشق أن بسط السيادة اللبنانية، هي مسألة يجب ألاّ تُحسم مسبقاً، وفق فترة زمنية محددة، وإنما يجب أن تترك إلى ما بعد تمكُّن حكومة الوفاق الوطني في لبنان. وفيما يخص مستقبل العلاقات السورية ـ اللبنانية، رأت الشام أن اقتراح اللجنة، لا ينسجم مع نظرتها إلى ما يجب أن تكون عليه هذه العلاقات، من النواحي، الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها. كما واجَه عمل اللجنة عدة عراقيل أخرى، دفعتها إلى إعلان بيانها، المشار إليه آنفاً. من بينها:
أ. تأخر فتح المعابر، بين المنطقة الشرقية للعاصمة بيروت، والمناطق المجاورة لها .
ب. استمرار الحصار البحري، المضروب على ميناء جونيه.
ج. تأكيد العديد من أعضاء مجلس النواب اللبناني، ضرورة رفع الحصار، قبْل الدعوة إلى اجتماع النواب، داخل لبنان أو خارجه.
وتزامن ذلك مع عودة مسألة الرهائن إلى مسرح الأحداث، بقوة، بعد اختطاف الشيخ عبد الكريم عبيد، أحد قادة الشيعة في لبنان، وما تبعه من مقتل أحد الرهائن الأمريكيين، هو الكولونيل هيجنز، على يد خاطفيه، الأمر الذي فتح ملف العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية، من جديد. إذ طالب الرئيس الإيراني، علي أكبر هاشمي رافسنجاني، الإدارة الأمريكية، بالإفراج عن الأرصدة المالية الإيرانية، المجمدة في المصارف الأمريكية منذ عشر سنوات، والمقدرة بنحو 21 بليون دولار، في مقابل المساعدة على إطلاق الرهائن. إلاّ أن الإدارة الأمريكية، أصرّت على ضرورة إنقاذ الرهائن، بلا شروط مسبقة، ومن دون أي تنازلات، لأن مثل هذه التنازلات من شأنه أن يدفع عناصر أخرى، مستقبلاً، إلى اختطاف رهائن أمريكيين آخرين، ومقايضتهم بمزيد من التنازلات .
3. على صعيد العلاقات اللبنانية ـ السورية
اهتم اتفاق الطائف بتحديد نوعية العلاقات السورية ـ اللبنانية، في إطار وجود مصالح بين البلدَين، نعتها مشروع الوثيقة، بأنها مصالح إستراتيجية مشتركة. بينما أصرّ الفريق الكتائبي، ومعه الموارنة، بصورة عامة، على عدم إستراتيجية تلك المصالح، وتقديرها مصالح مشتركة، بالأخوّة، لا بالإستراتيجية. أمام إصرار رئيس حزب الكتائب على موقفه، وافق المؤتمِرون على استبدال عبارة "المصالح الأخوية المشتركة"، بعبارة "المصالح الإستراتيجية المشتركة"، فكان التعديل الأول في نص مشروع العلاقات. أما التعديل الثاني، فهو الإصرار من قِبل المؤتمِرين على وضع الاتفاقات، المزمع عقدها بين لبنان وسورية، في إطار سيادة كلٍّ من البلدَين واستقلاله. وأصبح النص، بعد التعديل: "سوف تجسّده اتفاقات بينهما، في شتى المجالات، مما يحقق مصلحة البلدَين الشقيقَين، في إطار سيادة كلٍّ منهما واستقلاله"، بعد أن كان: "وسوف تجسّده اتفاقات بينهما، في شتى المجالات، مما يحقق مصلحة البلدَين الشقيقَين". فأكد المؤتمِرون، مجدداً، وضع العلاقات بين لبنان وسورية، في إطار الاستقلال والسيادة، معبّرين، بذلك، عن قلقهم الدائم وهاجسهم الأساسي، هاجس استعادة الاستقلال والسيادة.
رفض مؤتمر الطائف نظرية الحقوق المشروعة للدول الكبيرة في الدول الصغيرة، المجاورة لها، وأصرّ النواب المؤتمِرون على سيادة لبنان كاملة، غير منقوصة، خاصة أن للسيادة شرعية مستمدة من الشرعية الدولية، التي تعترف بسيادة الدول على أراضيها سيادة كاملة، تامة.
فضلاً عن أن الشرعية الدولية، هي السلاح الذي حمله مؤتمر الطائف، في وجْه الاحتلال الإسرائيلي لجنوبي لبنان، مصرّاً على اتفاق الهدنة، والحدود المعترف بها دولياً، وتنفيذ القرار الرقم 425، الصادر عن مجلس الأمن، وحقوق الشعب اللبناني في الدفاع عن أرضه، بكافة الوسائل المتاحة، وواجب الدولة في تحرير الأرض كاملة. وقد رفض مؤتمر الطائف الربط بين الانسحاب الإسرائيلي والانسحاب السوري، والتزامن بينهما، إذ رأى الوجود الإسرائيلي احتلالاً غير مشروع للأرض، يمكِن مواجهته باللجوء إلى الشرعية الدولية، أو بالحرب لتحرير الأرض. أمّا الوجود السوري، فيجب أن توضع له أصول وقواعد، تتفق عليها بيروت ودمشق، في الإطار العربي، الذي يجمعهما في ظِل انتماء قومي، ومن خلال المنظمة الإقليمية العربية، وهي جامعة الدول العربية.
وانطلاقاً من الانتماء القومي، ومن خلال الإطار العربي، عمل مؤتمر الطائف على معالجة العلاقات اللبنانية ـ السورية، والوجود العسكري السوري في لبنان. فنظّم الانسحاب السوري، وفقاً لخطة مرحلية محدَّدة. المرحلة الأولى، تقضي بانسحاب القوات السورية من جميع المناطق اللبنانية الموجودة فيها، انسحاباً عسكرياً وأمنياً تاماً، إلى منطقة البقاع، ومداخل البقاع الغربي، وإلى ضهر البيدر، على خط ممتد من عين دارة إلى المديرج، فحمانا. ويكون انسحابها في مصلحة القوات الشرعية اللبنانية، من جيش وقوى أمن، وتساعد هذه القوات على بسط سلطة الدولة اللبنانية على أراضيها كاملة. وتنتهي المرحلة الأولى بعد مرور سنتين على إقرار الإصلاحات الدستورية. تساعد القوات السورية، خلالهما، الدولة اللبنانية، على بسط سلطتها، بقواتها الذاتية، على المناطق اللبنانية كافة. وفي نهايتهما تنسحب، وتعيد تجميع قواتها في منطقة البقاع.
المرحلة الثانية، تبدأ بعد إعادة تجميع القوات السورية في المواقع الجديدة، ووفقاً لاتفاق بين الحكومتَين، اللبنانية والسورية، يحدد مدة بقاء الجيش السوري في البقاع ومداخل البقاع الغربي، وحجم قواته، وعلاقتها بسلطات الدولة اللبنانية، في أماكن وجودها.
وكان واضحاً، في المؤتمر، أن القوات السورية، الموجودة في البقاع، لأسباب دفاعية، في وجْه إسرائيل، سيكون وجودها عسكرياً محضاً، ولا علاقة لها بالوضع الأمني اللبناني، حتى في منطقة وجودها، لأن الشأن الأمني، يصبح، حصراً، من مهام قوات الشرعية اللبنانية الذاتية. وفي حال تعثّر الاتفاق بين بيروت ودمشق، يمكِن طلب مساعدة اللجنة الثلاثية العربية العليا على إنجازه.
وأما العلاقات اللبنانية ـ السورية، فرسمها مؤتمر الطائف على قاعدة الصداقة المميزة، والأخوّة والتعاون بين بلدَين شقيقَين، وفي إطار سيادة كلٍّ منهما واستقلاله، على أن تجسّد في اتفاقات تفصيلية، وفقاً للحاجة.