ولد عمر الأنسي في بيروت في عام 1901، تحديدا في منطقة تلة الخياط، والده الدكتور عبد الرحمن الأنسي، وجده الشاعر عمر الأنسي، أكبر شعراء النهضة في القرن التاسع عشر، وصاحب (ديوان المورد العذب). بدأ في مطلع شبابه دراسة الطب، إلا أن حبه الرسم، دفعه إلى ترك مهنة والده، والانكباب كلياً على الرسم.
في عام 1920، ارتاد محترف الفنان خليل الصليبي وتتلمذ عليه. وفي عام 1922 سافر إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ومكث خمس سنوات عند إبن عمه محمد باشا الأنسي رئيس الديوان الملكي، ومدير الثقافة والمعارف، دّرس خلالها الأمير طلال اللغة الإنكليزية، وقد تأثر كثيرا بطبيعة الأردن وفلسطين ورسمهما.
تمثال إبن بيروت عمر الأنسي في حديقة تلة الخياط
زار بلاد الشام، وجال في ربوعها، وأقام فيها، فكان لطبيعة أبنائها ومعالمها الأثرية والتاريخية وأسواقها وجوامعها ومناخها، وقساوة باديتها الأثر الكبير على رسومه، فخلدها وأتقنها.
عام 1928، سافر إلى باريس، وأقام فيها ثلاث سنوات، ارتاد خلالها الأكاديميات الفنية (جامعة سان جوليان)، واشهر المحترفات، وهناك، تعرف على النحات يوسف الحويك الذي تبناه وأقام له معرضاً في العاصمة الفرنسية، باع خلاله جميع لوحاته. وتخليداً لإعجاب الحويك بفنه، أنجز تمثالاً نصفياً له، هو موجود حالياً في منزل منصور الأنسي.
في باريس، رسم عمر الطبيعة، وركز على رسم العاريات، كذلك الأمر لدى زيارته روما ومتاحفها ولدى عودته إلى لبنان، انكب كلياً على الرسم وشارك في معارض في لبنان وفي الخارج ونال أوسمة عدة منها وسام الأرز الوطني (1956) في عهد رئيس الجمهورية كميل شمعون.
أكسبت العلاقة الحميمة مع الطبيعة.. ولا سيما طبيعة الريف اللبناني، عمر الأنسي شفافية، وغزارة كبيرة في الإنتاج، وقد لقب بشاعر النور نظراً للضوء الذي تعكسه لوحاته، والنابع من عمق ذاته، ومن حبه للإنسان، ومن توقه الدائم إلى الحلم، حيث العالم المثالي والإنسان الأفضل.
إلى جانب الرسم، كان عمر الأنسي شاعراً وفيلسوفاً، وله مؤلفات تطرق فيها إلى نظرته في أمور الحياة السياسية والاجتماعية والدينية ولا سيما مفهوم العروبة، والمسيحية، وفكرة التقمص.
بعيداً عن الحياة الاجتماعية، وعن ضوضاء المدينة، كرس ذاته طيلة حياته للرسم وسرعان ما تحول مرسمه في بيروت في تلة الخياط، إلى ملتقى المثقفين والفنانين، وعلى الرغم من انه تزوج مرتين من امرأتين فرنسيتين، إلا أن كلتيهما، أدركتا مدى هوسه بالرسم، فتركتا له مساحة واسعة في حياته يمارس فيها حرية التعامل مع الرسم كما يحلو له. فأحب لوحاته، واعتبرها أولاده تعوضه عن نعمة الأبوة التي حرم منها.
أحب المرأة، ورسمها، فكان العري بالنسبة إليه، رمزاً لجمالية فنية، وليس مصدراً لإيقاظ الغرائز. لذلك، غالبا ما كان يرسم المرأة العارية، بعيدا عن الإباحية، ومستترة الوجه. وقد تميزت ريشته في هذا المجال، كما في رسم الطبيعة بالشفافية وبالألوان النورانية التي تضفي هالة سامية على المنظر الطبيعي أو على المرأة العادية.
قال عنه صديقه يوسف الحويك: (عمر الأنسي فنان وفيلسوف، وله الأسبقية في رفع مستوى الفن التشكيلي المشرقي).
أما تلميذه الفنان الراحل رفيق شرف فقال عنه: (لوحة الأنسي أكثر حرية من لوحة مصطفى فروخ، ولا تعترف إلا بدستورها الإنساني والوطني).
فنان لامس التصوف، وصل الأرض بالسماء في لوحاته من خلال لعبة النور واللون التي أتقنها، وكان رائدا فيها، وتعامل معها كما يتعامل مع الروح ومع الجسد.
أحب بيروت إلى حد العشق والذوبان فيها، فرسم بيوتها، وسراياتها، وساحاتها، وأسواقها، وبحرها الساكن حينا والهائج حينا آخر. ومنها، انطلق، متسلحاً بهذا الهوس، يرسم الجبل الشامخ، وسهل البقاع الخصيب، وصخور كسروان، وعيون السيمان، وغابات الأرز، والفلاحين، وبائعي الحليب، ومشاهد أخرى من عمق التراث الذي خلده عمر الأنسي، بعدما استلهم منه تقنيته في الرسم، وروحانية نابعة من أصالة حضارية تعود إلى آلاف السنوات.
طالعتنا الصحف في كانون الثاني (يناير) من عام 1997، بخبر مفاده أن لوحة نادرة للفنان اللبناني الرائد عمر الأنسي، بيعت في مزاد بريطاني بمبلغ ثمانية آلاف وخمسمائة جنيه، وقد اشتراها شخص لبناني، بقيت هويته مجهولة. أما اللوحة فهي زيتية تصور بيروت في فترة الأربعينيات من القرن الماضي.
افتتحت حديقة (عمر الأنسي) في شارع الكبوشيّه، بين الحائط الشرقي لمبنى السراي الحكومي ونافورة الماء الموجودة ضمن الرصيف العام للشارع نفسه. وقد توسطها تمثال نصفي لهذا الفنان الرائد صاحب مدرسة مميزة في الانطباعية أثرت في الأجيال المتعاقبة، ولا تزال بصمتها حاضرة في تقنية الريشة واللون إلى اليوم.
بدأت حكاية الحديقة منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي، عندما بدأت العاصمة بيروت تطل على العالم بوجه إعماري جديد، وشوارع حملت معالم حديثة بعدما نفضت عنها غبار الحرب كليا، وأبنية فائقة الحداثة تنظيما وتخطيطاً. إلا أنها لم تفرد زاوية مخصصة لمبدعيها الذين طواهم النسيان، وكأن الإعمار ينحصر فقط في الحجر. أما النتيجة، فهي بلا شك جهل عند الشباب كلي ومطبق لهؤلاء المبدعين، واعتبارهم الوسط التجاري منطقة حية للتسلية والمتعة.