أما وقد حطت الأزمة رحالها واصبح للبلد حكومة لا نعرف كيف سيكون اداءها .. وامام الصولات والجولات التي سيطرت على الساحة السياسية خلال الفترة الماضية ومدعومة بهجمات عسكرية واشكالات امنية فأن الأمر الملح الذي يفرض نفسه ألان على قوى 14 اذار هو المسارعة الى لقاء موسع يعيد لملمة القوى وتضميد الجراح التي أثخنتها من جراء التسويات التي دخلت بها.
لم يكن قيام هذه الحكومة متوقعا ولا ممكنا كما يريد حزب الله ويتمنى ميشال عون لولا الدور الفدائي و المميز الذي قام به الشيخ سعد الحريري مقتحما المجهول ومتحملا ضغط القاعدة الشعبية من اجل تسهيل انطلاقة العهد والإيمان بضرورة العودة بالحياة السياسية الى طبيعتها ومجراها السليم.
الشيخ سعد الحريري لعب دورا ذكرنا بوالده الشهيد رحمة الله عليه وذكرنا بأدوار القيادات الوطنية الصادقة التي غابت عن لبنان لسنوات متعددة.. قيادات تحسن ترتيب الأولويات وترفع الوطن ومصلحته الى الدرجة الأولى مهما كان الثمن على المستويين الشخصي والسياسي
ومن هنا نستطيع ان نسجل أن النتيجة الاولى والسريعة لهذه العملية الفدائية هي أن تيار المستقبل لديه من الإمكانات والرؤية البعيدة مما يمكنه من تحقيق العجائب وانجاز المهمات الصعبة طالما ان البيئة السياسية يحكمها العمل الديمقراطي والسياسي والاصول القانونية وهذا ما يضعنا في حال توجس وريبة من عودة الطرف الاخر الى استخدام السلاح لتحقيق اهدافه القادمة كوسيلة وحيدة يجيد استخدامها , مما يستوجب علينا جميعا في قوى الرابع عشر من اذار وبجميع الفصائل والتيارات الى التحرك السريع وعلى كافة المستويات لمحاصرة هذا السلاح واستنباط اساليب واطر تحكم تحركه وتكبل نشاطه بالقوانين والاجراءات الرسمية.
وفي حال استمرار الفلتان الحزب اللاهي الامني والعسكري سيكون له انعكاسات خطيرة على مستوى الانتخابات النيابية القادمة وفي ظل مؤشرات الوضع الاقليمي التي لا تنبىء بالخير ابدا وهي اصبحت مستعدة لتقبل الظروف الناشئة عن غزوة الاحزاب لبيروت ونتائجها السياسية والامنية اضافة الى تسويات يرعاها البلاي بوي الفرنسي ساركوزي مع فرقاء متلونين عربيا ولاهثين وراء الصفقات الاقتصادية اوروبيا اضافة الى حيرة اميركية بانتظار الانتخابات الرئاسية.
ان الدور الذي قام به الشيخ سعد الحريري لتسهيل قيام الحكومة يوجب على قوى 14 اذار ان تعترف به وتقدره وتقتدي به لاحقا لأنه من الظلم الكبير أن يضحي طرف واحد لأجل الاخرين في كل وقت وعلى الدوام.. ان هذه القوى مطالبة اليوم ان تعمل على ابتكار اطار حماية وامان لتيار المستقبل وجهود رئيسه وتضحيات قاعدته, وفيما عدا ذلك فعبثا يضحي المضحون ... وتلفا يبني البناؤون .
هوا بيروت
يحيا العدل
"ان لم تستحي افعل ما شئت"، حديث نبوي شريف ينطبق على يتامى المخابرات السورية المتباكين اليوم على "العدالة المهدورة" لكأنهم متحدرين من زمن موصوف بعدالته وانصافه، لكأن يتامى المخابرات السورية أرباب العدالة العضومية يتوهمون ان التاريخ لحظة عابرة ...
نستطيع أن نمحيها من الاذهان ومن الوجدان لمجرد أن نتنكر لها الا أن تاريخهم على جباههم لم ولن يمحى وها هم أمهات المعتقلين في السجون السورية ينتظرون عدالة الاشقاء التي أطلقت سراح شاكر العبسي وأرسلته الى لبنان ليغدر بضباط وجنود الجيش اللبناني ولم تجد بعد ما يبرر اطلاق الاسرى اللبنانيين من سجونها واعادتهم الى بلادهم.
هذه العدالة عدالتهم التي يفتقدونها اليوم هي التي اقتادت آلاف الشباب المسيحي الى السجون بتهم واهية وهي العدالة التي اقفلت محطة تلفزيونية رائدة لاسباب سياسية، عدالتهم هذه هي التي أطاحت بنيابة غابرييل المر، عدالتهم وما أدراكم ما عدالتهم هي العدالة التي كانت تستحضر الملفات كلما كانت تسعى القوى الحرة الى التحرك لتواجهها بتهم معدة سلفاً، عدالتهم التي حلت حزب القوات اللبنانية قبل صدور أي حكم قضائي، عدالتهم التي أتحفت العالم بقوانين انتخابية لمرة واحدة وجعلت من بشري وعكار دائرة واحدة لمنع أهل بشري من ايصال نوابهم فيما جمعت دوائر أخرى مع بعضها البعض كي يسهل سحق ارادة الاحرار أمام المحادل الانتخابية والمحادل معروفة وسائقوا المحادل معروفون.
نعم ها هم رواد زمن العدالة العضومية يعطون دروسا في العدالة لاحد أربابها وهو الاستاذ ابراهيم نجار لكن لا عجب فبالامس القريب شاءت عدالتهم ان تتباهى برفع اعلامها داخل منازل النواب بعد سرقتها، عدالتهم عدالة الرعاع في شواع بيروت عدالة الآر بي جي عدالة احراق المؤسسات الاعلامية وقطع الطرق واقفال الوسط التجاري... وبئس العدالة.
لهم لابناء الوصاية لارباب العدالة العضومية نقول: لقد انتهي زمن الوصاية الذي جعل منكم ما كنتم عليه فظننتم أن هذه هي أحجامكم الطبيعية ولهذا تعجزون عن تقبل الواقع أنكم أصغر بكثير مما أوهموكم وأنكم ستعودون لاحجامكم الفعلية ولهذا تخرجون عن طوركم وتفقدون أعصابكم وتتطاولون على المرجعيات وعلى كرامات الناس.
لكم نقول: شرف لنا أننا كنا نزلاء السجون أبان الاحتلال ولم نكن غطاء له، شرف لنا أننا حوكمنا في زمن عدالته ولم نكن حاكمين باسمه وبأننا ظلمنا ولم نكن الظالمين أو الساكتين عن الظلم بأحسن الاحوال، لكم نقول نحن هنا وما عليكم سوى اعادة الحسابات فمن انتصر على وصاية عنجر لن يسقط أمام بقاياها ولن يتراجع أمام زعيق أتباعها، فعلاً صدق من قال :"اذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا".
وللاحرار في بلادي لمن عانوا ظلم عدالة "الخط" و"أهل الخط" عدالة غازي كنعان ورستم غزالة وعدنان عضوم نقول: هنيئاً لكم هنيئاً للعدالة ...يحيا العدل...يحيا العدل...
ادغار بو ملهب
المصارحة شرط للمصالحة
الآن وقد ولدت حكومة "وحدة وطنية"، وان لم يكن هذا الوصف دقيقاً، حان الوقت للتوجه سريعاً الى معالجة صادقة للعلاقات اللبنانية – السورية وتأكيد استقامتها بما يضمن استدامتها وينقلها، اذا امكن، من علاقة "مميزة" الى علاقة "ممتازة".
فالعلاقة "المميزة" انطوت على معنى الاستثناء في العلاقات مع غيرها من الدول العربية، في حين ان السعي الى علاقة ممتازة يحمل في ثنايا احتمال تحولها نموذجاً لعلاقات العرب بعضهم مع بعض ويمكن الاقتداء بها، علما ان ما رافق العلاقات السورية – اللبنانية من "تميز"، بات مدعاة نفور، لكونها من نوع العلاقة المفروض اجتنابها.
من هذا المنظور يتعيّن على كل من سوريا ولبنان اعادة النظر في طبيعة العلاقة المستقبلية بينهما، لإزالة إرث الشكوك والتوترات وما افرزته من عطب مسيء لكل منهما، واهم من ذلك لشعبيهما، ولذا، فترميم العلاقة يعتبر من الاولويات المباشرة لعهد الرئيس ميشال سليمان، والتي تستوجب ان يكون اكثر حضورا واشد وضوحا وحسماً كي يغطي فجوة كون مرجعية الحكومة الجديدة ليست هي ذاتها، بل في حكومة "الظل" المكونة من زعماء الطوائف الرئيسيين، اي "الاقطاب" المبتعدين عن "الحكم" كي يمارسوا التحكم الفعلي في القرارات المصيرية التي لا تزال غير مهيأة بما فيه الكفاية لـ"وحدة وطنية".
من هنا، على رئيس الجمهورية الا يكتفي بتفسيرات لاتفاق الطائف او الدوحة، مع الاقرار بشرعية دورهما، الا ان تأكيد دوره الحاسم في هذه اللحظة يفرض ان يتعامل بشكل شفاف مع الحكومة ومع المتحكمين، بمعنى ان الازدواجية بين الحكم والتحكم يجب الا تؤول الى عرقلة هندسة الاستراتيجية المصيرية في المرحلة الراهنة، لكون تسارع التطورات في المنطقة العربية يفرض حسم الاولويات وتوفير المناخ الذي يمحض لبنان مناعة تجيز له تجاوز جميع العوامل التي همّشته وقسمت عملياً طاقته للالتحام والانطلاق.
• • •
ونظراً الى ما يتوافر للبنان من فرص جديدة لتوضيح اولوياته واستعادة ادواره وتحديد اهدافه الوطنية والقومية، نجد ان عليه الاستفادة من الاحتضان الذي يتمتع به عربيا ودوليا. يستتبع هذا التطور الذي ملأ فراغي الرئاسة والحكومة ان نبدأ بجعل العلاقة اللبنانية – السورية احدى الاولويات، فنخرجها من حالة الشكوك المتبادلة الى الاستقواء الواحد بالآخر.
• • •
هذا ممكن وضروري ومطلوب وصعب، لكنه ممكن. ولكي يصبح ممكناً علينا جميعاً، لبنانيون وسوريون وعرباً، أن ننطلق من اقتناع مؤكد بأن مصيرنا واحد وان الواقع الراهن لحال الامة العربية مغاير لهذا الاقتناع. لذا فاعادة ترميم العلاقة اللبنانية – السورية، في حال نجاحها تعيد واقعية الاستشعار بوحدة المصير علماً ان "الواقعية" الحالية المتمثلة بالتفكيك والفلتانات في النظام العربي القائم هي التي مهدت للتفتيت داخل الاوطان وجعلت الكثير منه مستباحاً وحوّلت المراهنات الجاهلة ارتهانات خانقة.
لسنا هنا في صدد اجترار العديد من اسباب الشطط الفاقع في العلاقة السورية – اللبنانية، على الاقل في ربع القرن الماضي. هذا يعني ان علينا جميعاً أن نعي العوامل التي اذا استطعنا تفعيلها تصبح مسيرة الاستقامة متواصلة بدون تقطع، وتصبح النتائج المرجوة اقرب الى ان تكون مضمونة وإن رافقها بعض الصعوبات والعراقيل.
• • •
ما هي هذه العوامل في ضوء المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مع الرئيسين السوري بشار الاسد واللبناني ميشال سليمان في حضور امير قطر، وقد كانت هناك موافقة على ضرورة اقامة علاقات ديبلوماسية مباشرة بين سوريا ولبنان.
اولاً - صحيح انه من موقعي الفكري اشعر بألم عميق ان يكون بين الدول العربية علاقات "ديبلوماسية". لكن واقع الامة العربية يعبّر عن ذاته في نظام عربي يفترض به تنسيق دول سيدة مستقلة نتيجة ظروف متباينة في اوقات استقلالها والطبيعة المختلفة لظروف النضالات الوطنية في مختلف الاقطار العربية. من هنا كان استثناء سوريا ولبنان من قيام علاقة ديبلوماسية شاذا عن النمط السائد مما اوجد انطباعاً، خصوصا في السنوات الاخيرة، ان التردد في انشاء مثل هذه العلاقة يعود الى نقص في صدقية اعتراف بسيادة لبنان، وما رشح هذا الاقتناع عند بعض الفئات اللبنانية هو تصرفات اجهزة المخابرات السورية في لبنان. وحتى لو كانت هناك مبالغات في التخوفات من اهداف سوريا في هذا الشأن، الا ان بت هذه القضية يزيل المخاوف الصحيحة، او المبالغ فيها، وبالتالي التطابق في طبيعة العلاقات بين الدول العربية بما فيها سوريا ولبنان.
ولكن لا بد في هذا الموضوع من التأكيد ان التطابق المشار اليه والذي يميز النظام العربي القائم، ليس هو المعبّر الحقيقي عن مشاعر شعوب الأمة العربية وتطلعاتها ومصالحها.
وهذا ما يفسّر ازدواجية المشاعر التي تنتابني وكثيرون مثلي في لبنان وسوريا، فمن جهة شعور بصواب قرار تبادل العلاقات الديبلوماسية، ومن جهة اخرى تأسف، لأن هذه ضرورية وهي المدخل للطمأنة ولاستقامة العلاقة بين سوريا ولبنان.
والسؤال: لماذا هذه الازدواجية في مشاعر العديد منا في هذه اللحظة؟ الاجابة صعبة ولكن يمكن تلخيصها بالآتي: بين الشعوب العربية ثمة تداخل تلقائي متواصل ترفده عناصر عديدة كالتي تجعلنا على رغم هوياتنا القانونية – اللبنانية المصرية – السورية نرفض التخلي مطلقاً عن الهوية القومية الجامعة بين اوطان العرب. لذلك وجدنا دوماً انه كان هناك نقص في فهم هذه الازدواجية، ممن يعانيها وممن اعتبروا ان الحنين الى عروبة الهوية صار خارج الواقع السائد، وبالتالي تحوّل منافياً لواقعية قائمة، وليس هنا مجال مناقشة هذه الاشكالية. كل ما يمكن ان يقال في مناسبة احتمال قيام علاقات ديبلوماسية بين سوريا ولبنان، هو اذا كان قيامها يساهم في ازالة شكوك عالقة سببها تدخلات سافرة في السنوات الاخيرة، فهذا يجب الا يعني ان التداخل التلقائي والطبيعي بين شعبي سوريا ولبنان قد يتوقف. والواقع ان توقف "التدخل" قد يسهل التداخل ويعمقه ويثريه ويجعله اكثر دفئاً وتناغماً.
كما اعتقد في هذا الصدد ان السؤال الساخر الذي طرحته مندوبة "الاوريان" على الرئيس الاسد عما اذا كان سيعين رستم غزالي سفيراً سورياً في لبنان، وقد انفجر ضحكاً، لعله يفسّر الى حد ما استيعابه، وان رمزياً، ان اداة التدخل هي التي حالت دون دينامية التداخل. من هذا المنظور، قد ينطوي انفجار الضحك عند الرئيس الاسد على نقد ذاتي باللاوعي. وهذا يعني ان الوعي لما يجب ان تكون عليه العلاقة صار مستحباً.
وهذا بدوره يجب ان يؤكد ضرورة المصارحة في الحوار المنتظر بين سوريا ولبنان وبين الاطراف اللبنانيين عندما يدعو الرئيس ميشال سليمان اليه عند عودته، لكون الرئيس كان مرشحاً "توافقياً"، اي رئيس المصالحة بين اللبنانيين انفسهم وبين سوريا ولبنان.
لذا عليه كرئيس للبنان ان يصارح كي يحقق ما انتخب من أجله، وهو ان يصالح، هذه رسالته في الحوار المرتقب، كي ينجز ما استشهد به في مؤتمره الصحافي في باريس، قول البابا يوحنا بولس الثاني: لبنان الرسالة.
كلوفيس مقصود
لماذا الضغط على السُنّة في لبنان؟
تَميَّزتَ الايام الماضية في لبنان بأمرين: تعقُّد مسألة تشكيل الحكومة التي جرى الاتّفاقُ عليها في الدوحة. وازدياد وامتداد مساحات الاشتباكات المسلَّحة بعد بيروت والبقاع إلى طرابلس بشمال لبنان.
في الأمر الأول، برز الجنرال عون وتياره الوطني الحُرّ باعتباره المُنازع الأول لرئيس الجمهورية الجديد، ولرئيس الحكومة في الوقتِ نفسِه. فهو يُطالبُ بخمس وزارات بينها وزارة سيادية له، غير الوزارة السيادية التي أخذتْها المعارضة التي ينتمي إليها (وزارة الخارجية التي يريدها الرئيس نبيه بري). ولأنّ الباقي من الوزارات السيادية بعد الخارجية ثلاث، وهي المالية والدفاع والداخلية، ورئيس الجمهورية والحكومة متفقان على أن يأخذ رئيس الجمهورية وزارتين هما الداخلية والدفاع، بسبب الظروف الاستثنائية التي يمرُّ بها لبنان؛ فلا تبقى للطائفة السنية غير وزارة المالية، والتي لا يمكن انتزاعُها منها. وهكذا فإنّ عوناً إنما يريد في الحقيقة مصارعة رئيس الجمهورية الجديد وتعطيله منذ البداية، باعتباره هو وليس الرئيس، «الممثّل الشرعي الوحيد» للمسيحيين اللبنانيين! وقد قلّب الرئيس السنيورة الأمر على كافة وجوهه، وقبل بإعطاء المالية للمعارضة وأخْذ الخارجية للسنة. كما حاول إرضاء الجنرال عون بزيادة عدد وزارات الخدمات التي عرضها عليه. لكنه في كل مرةٍ كان يعود خائباً، ويعود الجنرال عون للغمز من قناة الجميع. وقد اضطر ذلك الرئيس السنيورة قبل أربعة أيام، للتصريح لصحيفةٍ نمساوية؛ بأنّ الجنرال عون يريد أن يكونَ زعيم المسيحيين الأَوحد، كما أنّ حزب الله متمسِّكٌ به لأنّ ذلك يوسّع دائرة تمثيله. وردَّ عون بتهديد السنيورة بالتفحيم (أي الصَعْق بالمسّ الكهربائي عند التعرض لخطوط التوتر العالي!)، كما ردَّ حزبُ الله باتهام السنيورة بالكذب والتزوير (هكذا!).
بيد أنّ الأمر الثاني هو الأبرز، أي امتداد الاشتباكات إلى طرابلس، وعودة خطوط التماسّ القديمة بين جبل مُحْسن (الذي تسكنه أقليةٌ عَلَويةٌ تصرفت دائماً بأوامر من النظام السوري على مدى الثلاثين عاماً الماضية)، وباب التبّانة وحيّ البقّار، وهما حيّان سنّيان، كانا أيضاً بيئة اشتباك خلال الحرب الأهلية. والمعروف أنّ السوريين غزوا طرابلس مرتين في الثمانينات: مرَّة لإخراج ياسر عرفات منها، ومرةً أُخرى لإزالة سيطرة «حركة التوحيد» عنها. وفي كلتا المرتين كان هجوم «الأحزاب التقدمية» على المدينة يأتي من جبل مُحْسن أو جبل بعل مُحْسن! وخلال الأيام الثلاثة التي سبقت اشتباكات طرابُلُس كان بارزاً إقبال نواف الموسوي (القيادي في حزب الله)، والجنرال عون وإيلي سكاف(النائب عن مدينة زحلة) على الهجوم على السلفية والتشدُّد، واتّهام السلفيين وتيار المستقبل بأنهم يجمعون السلاح، ويريدون الاعتداء على الآخَرين من الشيعة والمسيحيين. وقد تعمّد نواف الموسوي أن يتهم السعودية بذلك كلِّه، وأن يهدّد سفيرها بالقتل هذه المرة!
ما معنى هذا كلّه؟ ولماذا عاد التوتُّر الأمني بعد هدوءٍ نسْبيٍ استمرَّ أُسبوعين؟ من جانب حزب الله يبدو التوتر والاستنفار شديداً وشديداً جداً. وأوساطُهُ تقول تارةً إنَّ العدوَّ الصهيوني يخطّط لمهاجمته، بينما تقول تارةً أُخرى إنّ المؤامرة من جانب «عملاء الداخل» عليه ما تزال مستمرة، رغم اجتياحه لبيروت من أجل إحباطِها! ولا شكّ أنه في الحالتين؛ فإنّ الحزب يفضّل أن لا تقومَ الآن حكومة هو مضطرٌ للمشاركة فيها، خشية أن يُطلبَ منه شيء إقليمي فلا يكونُ الأمرُ سهلاً إن كانت هناك حكومةٌ قائمةٌ وهو حاضرٌ فيها، ومُلْزَمٌ بالإصْغاء إلى آراء الآخرين وتحفُّظاتهم. وهو ليس مضطراً للتصريح بالرفض، ما دام حليفه الجنرال عون متكفلاً بأن لا يُمكِّنَ رئيسي الجمهورية والحكومة من إرضائه مهما بَذَلا من تنازُلاتٍ وقدَّما من عروض.
بعد عملية حزب الله في بيروت، واستمرار الاشتباكات بالبقاع الأَوسط، يبدو الهجومُ على السلفية والتشدُّد سخيفاً وممجوجاً. فحزب الله والتنظيمات التابعة له والمتحالفة معه هي التي بادرت وتُبادر للاشتباك في بيروت والبقاع. ومظاهر التسلُّح والتحدي ظاهرة حتى في الجهات الشيعية البحتة، بحجة الإحساس بالخطر. ولذا فبالإضافة إلى تبرير الاعتداءات، تارةً باسم المؤامرة، وتارةً باسم السلفية؛ هم يريدون أن تبقى الطائفة الشيعيةُ على استنفارها. وهم يعتقدون ومعهم الجنرال عون أنهم ببُعْبُع السلفية يخوّفون المسيحيين من الخَطَر السَلَفي الأُصولي، بعد أن بدأوا يخافون من سلاح حزب الله المنتشر في جوارهم وفي أَوساطهم. ومع ذلك فإنّ هجوم نواف الموسوي الصريح على السعودية، لا بد أن تكونَ له أسبابٌ إقليميةٌ تتصل بالموقف الإيراني الآن في مواجهة المجتمع الدولي، وإرادة التأثير على المملكة باعتبار أنّ السُنّة هم الوجهُ العربيُّ للبنان، والسعوديةُ ومصر تهتمّان لأمْرهم والطريف أنني قرأْتُ في الأيام الماضية تصريحات منسوبة لعبد الملك الحوثي، زعيم تمرد الحُوثيين باليمن، يوجّه فيها الاتّهام نفسَه للسعودية؛ لكنه هناك يتهمها بمساعدة الجيش اليمني ضد الثائرين! ثم إنه لم يبق بلبنان حاضنٌ لفكرة الدولة، والعيش المشترك، والانفتاح على الخارج، غير المدنيين السُنّة. فقد أَبعد حزب الله الطائفة الشيعية عن مجالات التأثير الإيجابية تلك، ووضعها تحت السلاح، ولا أحد يدري أو يستطيع السؤال: متى ينتهي هذا النفير العام؟ وأضاف إلى فضائله الكثيرة تدمير علائق الشيعة بالسنة، وهي وشائجُ عُمُرُها عشراتُ العقود من الصِلات الواعية والبناّءة. ويحول الجنرال عون المستظلُّ بحزب الله الآن، بل ومنذ سنتين، دون عودة المسيحية السياسية إلى الفعالية والمشاركة، كما سبق أنْ حال أواخر الثمانينات من القرن الماضي؛ والطريف أنّ ذلك يتمُّ بدعوى انتزاع حقوق المسيحيين كاملةً من مضطهِديهم، وقد صاروا الآن من السُنّة وبخاصةٍ السنيورة والسلفيون!
لكنْ لنلتفت إلى المشهد الآخَر، مشهد جبل محسن مع باب التبانة وطرابلس. فقد سكن الجبلُ هذا وسكت (فيه ألفا مسلَّح مدرَّب عندهم سلاحٌ ثقيل) منذ العام 1989/1990. لكنه بدأَ قصفاً مدفعياً على طرابلس ليلَ الأحد الماضي. ولا أعتقد أنّ لذلك علاقةً بضغوط حزب الله ومسلَّحيه على السُنّة في بيروت والبقاع. بل إنّ مسلَّحي جبل محسن هم شبه جنودٍ نظاميين بالأجهزة الأمنية السورية. فربما أراد الرئيس السوري تذكير السعوديين والمصريين بأنهم لا يستطيعون الاستمرار في تجاهُلِه بعد أن سهَّل الأمور في لبنان وفلسطين، وأبدى كامل الاستعداد لتلبية المطالب (المعقولة) من جانب العرب الكبار! وطرابلس ليست سنيةً فقط مثل بيروت؛ بل فيها أيضاً شيوخٌ وشبانٌ سلفيون. ولذا فإنّ التعرُّضَ لها من جانب مجموعاتٍ مواليةٍ لسورية، تبعثُ رسالةً أوضح وأكثر مباشرة إلى السعودية!
لكنْ، لماذا هذا التأكُّد أنّ السوريين يتصرفون في طرابلس، بمعزل عن تصرف حزب الله ببيروت والبقاع، حتّى عندما تكونُ كلتا الرسالتين موجَّهتان للسعودية؟ لا شكَّ أن العلاقات بين إيران وسورية فيها بعضُ الركود. بيد أنّ تغييراً ظاهراً ما حصل حتى الآن. أمّا العلاقاتُ بين حزب الله والنظام السوري فهي شبه مقطوعة منذ مقتل عماد مغنية. وأولوية إيران الآن استخدام حزب الله لصالح مطامحها بالنووي وبالمنطقة. بينما أَولوية سورية عدم تمكين حزب الله من أن يَخْلُفَها في لبنان، ودفْع العرب للتواصل معها. ولذلك يستميتُ الطرفان في اجتذاب الجنرال عون. فقد ضعُفت صِلاتُ عون بالحزب منذ انتخاب الرئيس الجديد، لانقطاع المصالح باستثناء بعض الدوائر الانتخابية في الانتخابات المقبلة إن كانت! ولذلك ظهر عون الأُسبوعَ الماضي في اجتماعٍ مسيحي، فيه كلُّ مسيحيي سورية. وقال كلاماً معناه إنّ المعارضة ليست فريقاً واحداً. فسارع السيد حسن نصر الله لدعوته للاجتماع به إلى جانب نبيه بري وسليمان فرنجية، حليف سورية القديم؛ حيث اتفقوا على تهدئة الخلافات فيما بينهم، وعلى السلوك إزاء رئيس الجمهورية الجديد، وربما على عدم المشاركة في الحكومة أو ترك الأمر لعون يتصرف كما يشاء. ولذا في اليوم التالي، وعلى أثر خروج النائب غسان تويني من عند الرئيس بري صرّح الرجل ربما بوحيٍ منه أنّ الأفضل للسنيورة الاعتذار!
ينشر حزبُ الله قواهُ المسلَّحة على خطوطٍ طويلةٍ وظاهرة، ما اعتاد عليها اللبنانيون منه منذ نشأته. وهو يضغطُ على السُنّة بوضوحٍ وصراحةٍ أمنياً وعسكرياً وسياسياً. وقد أُضيفت لذلك جبهة جديدة سورية المنشأ بطرابلس. وهناك من يُخوّفنا أن ينتشر الأمر إلى عكّار، حيث السنة أكثرية ساحقة (مع وجود أقلياتٍ مسيحيةٍ بارزة). وقد كان المعروف منذ بدأ حزبُ الله والسوريون التوتير بعد حرب تموز (يوليو) 2006، أنّ المسلمين لا يملكون سلاحاً ولا ميليشيات منظَّمة. ولذلك أمكن لهم أن يحتلُّوا بيروت في ساعاتٍ قليلة. لكنّ السنة ومنذ ثلاثة أسابيع في البقاع الأوسط، ومنذ أُسبوع في طرابلس، يواجهون النار بالنار، وما عادت الهويات سريةً ولا مُغَطّاة: ففي بيروت والبقاع الأوسط يُواجِهُ الشيعةُ السُنّة. وفي طرابلس يواجهُ العلويون السُنّة. ورئيس الحكومة السنّي عاجزٌ عن تشكيل الحكومة التي كان من المفروض أن يتحمس لها نصر الله وعون، اللذان طالبا بها بإلحاحٍ منذ أكثر من عامٍ ونصف. فهل الصراع الجاري طائفيٌّ ومذهبي؟ إنه كذلك في أذهان العامة من الطرفين؛ بينما يذكر المحللون أسباباً إقليميةً ومحليةً غير مذهبية أو طائفية، لكنها ضاغطةٌ بقوة.