1332-1336هـ/1914-1918م
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى سنة 1914، كانت تركيا لا تزال على الحياد، وكان قد صدر قانون {ضريبة الحرب} ويسري على بيروت وسائر الولايات، وبموجبه يستوفى من جميع موظفي الدولة ثلاثة بالمائة من رواتبهم ومخصصاتهم، ثم صدر قانون النفوس الجديد في 14 آب 1914، وقد نص على ذكر دين المسلم ودين ومذهب غير المسلم في السجل وورق الهوية {يبدو حتى الآن لم نتخلص من هذه البدعة التركية خلال الحرب}، وأخذت الدوائر المختصة تراقب المراسلات والبرقيات الصادرة والواردة. وفي نفس الوقت أخذ بعض شبان بيروت وملحقاتها يرسلون أهاليهم إلى داخل سوريا، خشية المفاجآت التي قد تأتي من أساطيل الحلفاء ضد سواحل بيروت.
وانقسمت صحف بيروت، فيما يتعلّق بأخبار الحرب، إلى ثلاث فئات: الفئة الأولى اتبعت سياسة الحكومة فسميت {الصحف الحكومية} وكانت تنشر أخبار انتصارات ألمانيا، والفئة الثانية كانت تشيد بفرنسا وإنكلترة، والفئة الثالثة التزمت الحكمة والاعتدال في أسلوبها. وكانت جريدة {الرأي العام} من أهم الصحف الموالية لوالي بيروت.
والي بيروت يتلقى برقية (إعلان الجهاد المقدّس) :
وفي 14 تشرين الثاني 1914م، تلقى والي بيروت بكر سامي بك برقية من وزارة الداخلية معممة لجميع الولاة، تتضمن إعلان السلطان محمد رشاد، بصفته أمير المؤمنين، الجهاد المقدّس على أعداء الإسلام محاربي الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية.وعُيّن الفريق جمال باشا حاكماً عسكرياً إداريا على سوريا وفلسطين والحجاز وحتى الحدود المصرية.
وفي أول كانون الأول 1914، شوهدت أمام ساحل بيروت مدرعة روسية، ثم دخلت ميناء بيروت، فظنها البيروتيون أنها من طلائع الأساطيل القادمة لاحتلال بيروت والساحل، قامت حكومة بيروت بنقل السجلات والملفات الهامة إلى صوفر، لكن المدرعة ما لبثت وأن غادرت ميناء بيروت بسلام. وأصبح مألوفاً مشاهدة مثل هذه السفن في عرض البحر دون أن تقترب من ساحل بيروت.
التجنيد العسكري الإجباري :
لم يشوه ولاية عزمي بك، سوى حكم الإرهاب العسكري لجمال باشا بعد تكاثر عدد اللاجئين إلى بيروت من القرى المجاورة، إضافة إلى التجنيد العسكري الإجباري وكان حسني بك رئيس شعبة أخذ العسكر في بيروت. وحيث أن أهالي بيروت لم يألفوا الخدمة العسكرية كغيرهم من سكان الولايات الأخرى، لذلك لجأ عدد كبير منهم إلى جبل لبنان، وبعض المدن والقرى الساحلية هرباً من الخدمة العسكرية. وكلما مرت أيام الحرب ازدادت حاجة تركيا إلى المجندين، فكانت فرقة المطاردة تطارد الفتيان والشبان في كل مكان، وتفاجئهم في الليل والنهار، في منازلهم وفي المقاهي ودور السينما... مما أدى إلى فرار الكثيرين منهم، كما صدر أمر إنزال عقوبة الإعدام على كل فار من الخدمة، حتى وصل الأمر محاولة الكثيرين الفرار حتى بعد دخولهم الخدمة العسكرية.
وأضطر الكثيرون إلى ترك بيروت إلى مصر، فيقول بشارة خليل الخوري : {توكلت على الله وركبت آخر باخرة إيطالية تركت ميناء بيروت يوم 12 كانون الثاني سنة 1915، مع رفقاء عديدين وعائلات كريمة لبنانية وبيروتية هجرت البلاد بانتظار الفرج}.
كما أن مقتضيات الحرب أدت إلى وضع يد الحكومة التركية على المؤسسات الأجنبية التابعة للدول الأوروبية المعادية لها، فحولتها إلى معاهد عثمانية. وأصبحت الكلية الطبية اليسوعية تدعى كلية طبية عثمانية، وأساتذتها من الأطباء الترك، وأعفت تلامذتها من خدمة العلم مدة الدراسة، فكان إقبال الطلاب عليها عظيماً لرغبتهم في تحصيل الطب والخلاص من الجندية في الوقت نفسه. كما شمل الاستيلاء على المعاهد الأجنبية، الكلية الخاصة في بيروت، بعد نفي صاحبها الشيخ أحمد عباس الأزهريindex إلى داخل سوريا، ذلك أن معظم طلاب الإصلاح الإداري هم من خريجي مدرسة الشيخ عباس.
وخلال هذه الفترة عاش البيروتيون مرحلة صعبة ودقيقة عندما أدانت السلطات القضائيّة زمرة من الشخصيات الذين تعاونوا مع الحلفاء للتخلص من السيادة العُثمانيّة على البلاد العربيّة على أمل أن تساعدهم إنكلترا على توحيدها تحت راية الشريف حسين بن علي الذي أعلن الثورة على الدولة العُثمانيّة في ذلك الحين.
قام حوالي مائة شخص من وجهاء بيروت والنافذين فيها من أهل الحل والعقد في البلاد وكان فيهم المسلمون والنصارى، اجتمعوا وأسسوا ما سُمّي يومئذ بالجمعيّة الإصلاحيّة، ثم انتخبوا من بينهم 25 عضواً برئاسة الشيخ أحمد عباس الأزهري، صاحب الكلية العُثمانيّة ببيروت التي أصبحت الكلية الإسلاميّة ثم كلية الشيخ عباس فيما بعد، وكان الانتخاب سرياً وعدد الناخبين 61 شخصاً كان منهم: أحمد مختار بيهم، أيوب ثابت، سليم علي سلام، كامل الصلح، جان تويني، بترو طراد، جان نقّاش، رزق الله أرقش، سليم البواب، حسن الناطور، جميل الحسامي، جرجي رزق، ألبير بسول، حبيب فرعون، عبد الحميد الغندور، ألبير يوسف سرسق، عبد الباسط فتح الله، فؤاد حنتس، جبران بسترس، ويوسف الهاني، وإتخذوا لهم نادياً بباب إدريس في بيروت.
وكانت أهداف هذه الجمعية ذات وجهين، سري وعلني، أما العلني الذي يطالب به جميع الأعضاء من النصارى والمسلمين هو منح المناطق العربيّة في المملكة العُثمانيّة حكماً ذاتياً، وانتقال جميع المصالح الإقليميّة في ولاية بيروت إلى أيدي هيئات تمثّل الأهالي، والاعتراف باللغة العربيّة كلغة رسميّة واستعمالها في البرلمان العثماني على قدم المساواة مع اللغة التركيّة وعدم تجنيد العرب للخدمة وقت السلم خارج بلادهم.
كانت هذه المطالب محل أخذ وعطاء بين الجمعية الإصلاحيّة وبين السلطات العُثمانيّة المسؤولة، غير أن هذه السلطات طاش سهم صواب عندما علمت بأن الأعضاء النصارى في هذه الجمعيّة كانوا يشكلون في داخلها جمعيّة أخرى خاصة بهم دون أن يكون لزملائهم المسلمين علم بها من قريب أو بعيد، كان صلة الوصل بين هذه الجمعية النصرانيّة الصرف وباقي الجمعيات العربيّة الأخرى نخلة بك التويني، ترجمان القنصليّة الفرنسيّة الفخري في بيروت.
ولما فتشت السلطات العُثمانيّة مركز القنصليّة الفرنسيّة في بيروت بإرشاد فيليب زلزل عثرت في باطن جدار إحدى الغرف على عريضة بالمطالب السريّة التي تتلخص بإلحاق مدينة بيروت بالجبل ووضع لبنان تحت الحماية الفرنسيّة وهي موجهة إلى مسيو كوجيه، قنصل فرنسا في بيروت، وقد وقّع هذه العريضة كل من : ميشال تويني، بترو طراد، أيوب ثابت، رزق الله أرقش، خليل زينيّة، ويوسف الهاني، وقبيل اكتشاف هذه العريضة بوقت قصير تمكن جميع هؤلاء الموقعين على العريضة من مغادرة لبنان ما عدا يوسف الهاني، الذي إعتقل في داره ببيروت في نهاية حفلة ساهرة كان يقيمها هو وزوجته حنينة دوماني بحضور جمال باشا نفسه، أثناء هذه الحفلة حضر أحد الضباط إلى بيت الهاني وأسرّ في أُذن جمال باشا أن الأوراق التي اكتشفت في القنصليّة الفرنسيّة يوجد إسم يوسف الهاني من الموقعين عليها، وعند نهاية الحفلة إعتقل صاحب المنزل باعتباره متآمراً على الباب العالي، شكّل جمال باشا في كل من عاليه بجبل لبنان ودمشق محكمة عسكرية أُطلق عليها يومئذ الديوان العُرفي، وعُين له الميرالاي تحسين باشا رئيساً وإلى جانبه هيئة تحقيق مؤلفة من ضابط يدعى صلاح الدين أفندي، وعدد من القضاة على رأسهم القاضي شكري بك،وتولى محيى الدين علم الدين، البيروتي، في هذا الديوان وظيفة كاتب ضبط.
ولكي يقطع جمال باشا دابر المحاولات المبذولة لتخليص الهاني، فإنه أمر بتقديم موعد تنفيذ الحكم به عن سائر المحكومين، وقد أُعدم الهاني بالفعل فجر يوم 5 نيسان سنة 1916م، بينما أُعدم الآخرون في 6 أيار من تلك السنة، وتبعاً للمحاكمات التي أجراها الديوان العُرفي، فإنه تمّ تنفيذ أحكام الإعدام بالمحكومين على مرحلتين بشكل إفرادي في تواريخ مختلفة، ففي 15 آب سنة 1915م قبل شروق شمس ذاك اليوم الكئيب شهدت ساحة البرج في بيروت إحدى عشرة جثة أسلمت أرواحها إلى بارئها صبراً تحت أعواد إحدى عشرة مشنقة بإشراف القومندان البيروتي أبو عفيف المصري، وفيما يلي أسماء أفراد هذه القافلة الأولى :
v عبد الكريم الخليل، من الشياح قرب بيروت.
v محمد المحمصاني، من بيروت.
v محمود المحمصاني، من بيروت.
v عبد القادر الخرسا، أصله من دمشق ومقيم في بيروت.
v نور الدين القاضي، من بيروت.
v سليم أحمد عبد الهادي، من قرية عرّابة قرب جنين بفلسطين.
v محمود نجا العجم، من بيروت.
v الشيخ محمد مسلّم عابدين، مأمور أوقاف اللاذقيّة من دمشق.
v نايف تللو، من دمشق.
v صالح حيدر، من أهالي بعلبك.
v علي الأرمنازي، من حماه.
وفي السادس من شهر أيار سنة 1916م تمّ إعدام القافلة الثانية من المحكومين في ساحة المرجة بمدينة دمشق :
v شفيق بك مؤيد العظم، من دمشق.
v الشيخ عبد الحميد الزهراوي، من حمص.
v الأمير عمر الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري من دمشق.
v شكري بك العسلي، من دمشق.
v عبد الوهاب الإنكليزي، من دمشق.
v رفيق رزق سلّوم، من حمص.
v رشدي الشمعة، من دمشق.
وفي نفس التاريخ أي يوم السادس من شهر أيار سنة 1916م أُعدم في بيروت في ساحة البرج المحكومون التالية أسماؤهم :
v باترو باولي، من التابعية اليونانيّة، مقيم في بيروت.
v جرجي الحداد، من لبنان.
v سعيد فاضل عقل، من الدامور بلبنان.
v عمر حمد، من بيروت.
v عبد الغني العريسي، من بيروت.
v الشيخ أحمد طبارة، إمام جامع النوفرة في بيروت.
v محمد الشنطي اليافي، من يافا بفلسطين.
v توفيق البساط، من صيدا.
v سيف الدين الخطيب، من دمشق.
v علي بن عمر النشاشيبي، من القدس.
v محمود جلال البخاري، من دمشق.
v سليم الجزائري، من دمشق.
v أمين لطفي الحافظ، من دمشق
وإلى جانب القوافل التي أُعدمت بشكل جماعي، هناك أفراد آخرون حكم عليهم الديوان العُرفي بتهم مماثلة وتمّ إعدامهم في مدن مختلف، وفي تواريخ متفرقة وهم :
v الخوري يوسف الحايك، من بلدة سن الفيل قرب بيروت، أُعدم في دمشق يوم 22 آذار سنة 1915م.
v نخلة باشا المطران، من أهالي بعلبك إغتاله حارسه الشركسي أحمد بك الرزّي قرب أُورفه بالأناضول في 17 تشرين الأول سنة 1915م وأُلقيت جثته في بركة ماء قرب المكان الذي اغتيل فيه.
v الشقيقان فيليب وفريد الخازن من جونية بلبنان أُعدما ببيروت يوم الثاني من شهر أيار سنة 1916م.
v عبد الله الظاهر، من عكّار، أُعدم ببيروت يوم الأول من آذار سنة 1916م.
v يوسف الهاني، من بيروت، أُعدم ببيروت في نيسان سنة 1916م.
v محمد الملحم، شيخ عشيرة الحسنة، أُعدم بدمشق في أوائل سنة 1917م.
v فجر المحمود، من عشيرة الموالي، أُعدم بدمشق أوائل سنة 1917م.
v شاهر بن رحيل العلي، من عشيرة التركي، أُعدم بدمشق على أثر إعلان الثورة العربيّة.
v الشيخ أحمد عارف، مفتي غزة، وولده، من مدينة غزة أُعدما في القدس الشريف سنة 1917م.
v الشقيقان أنطوان وتوفيق زريق، من طرابلس، أُعدما بدمشق سنة 1916م.
v يوسف سعيد بيضون، من بيروت، أُعدم بعاليه بلبنان يوم العاشر من شهر آذار سنة 1916م.
v راهب فرنسي، كان عند مطران الروم الكاثوليك بطرابلس، أُعدم بدمشق.
وجاء في آخر هذه المضبطة :
(... فأقصى ما يبتغيه مسيحيوا سوريا هو أن تحتل فرنسا القطر السوري. ولهذه الأسباب يعرض الموقعون أسماءهم من أعضاء اللجنة التنفيذيّة بالنيابة عن مسيحيي بيروت بحسب مراتبهم الإقتراحات التالية، التي يعتقدون أنها الوحيدة الكفيلة بإصلاح الحالة السياسيّة الحاضرة بسوريا :
1. إحتلال فرنسا لسوريا.
2. إستقلال ولاية بيروت إستقلالاً تاماً تحت وصاية فرنسا وحمايتها.
3. إدماج ولاية بيروت بلبنان الذين يكون تحت سيادة فرنسا الفعليّة.
وكان إكتشاف هذه الوثيقة الخطيرة بمثابة رأس الخيط الذي سحبت به السلطات العُثمانيّة كافة المتصلين بالمراجع الفرنسيّة، فاعتقلت من كان تحت طائلتها، وحولته إلى ديوان عاليه لينتهي إلى الإعدام في ساحة البرج.
وأما الذين كانوا بعيدين عن متناول هذه السلطات فإنهم اكتفوا بتحمل العقوبات الغيابيّة حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها عادوا إلى بلدهم ليتبوأوا في ظل الإنتداب الفرنسي أعلى المراكز الحكوميّة وأسماها جزاء ما قدمت أيديهم من خدمات سالفة للحلفاء وأغراضهم السياسيّة والعسكريّة.
والجدير بالذكر أن الوحيد الذي وقع بفخ الإعتقال وحكم بديوان عاليه كان الوجيه يُوسُف الهاني الذي ورد إسمه بين الموقعين على مضبطة القنصليّة الفرنسيّة، بينما كان بقية رفاقه الآخرين قد أفلتوا من قبضة أحمد جمال باشا في الوقت المناسب قبل أن يفشي فيليب زلزل سره الدفين ... القاتل !
قُبض على يُوسُف الهاني بعد إنتهاء حفل كان يقيمه بداره ليلة دخول القنصليّة الفرنسيّة وإكتشاف الوثائق الخطيرة، وكان أحمد جمال باشا يحضر هذا الحفل فأبلغ بالأمر، وبعد إنتهاء الحفل إعتقل.