# خطبة وداع!
وكأنها خطبة وداع، ردد كثيراً كيف يموت الانسان ويكون راضياً، واستشهد بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وقف ناظراً الى بيروت وتأملها وقال هذه المدينة حافظوا عليها بمبادئها لا تغيروا فيها ولا تقاليدها، وهذا كان يوم الاحد.
ويوم الاغتيال ترك مفاتيحه في خزانة والدتي وفيما بعد اكتشفتها.
# عادة كان يأخذها معه؟
مفاتيح منزله، وكان يضعها في جيبه، يوم الاغتيال ترك المفاتيح في البيت.
# عامداً؟
اكيد والا لماذا يتركها في المنـزل، بعد الاغتيال فتحت والدتي خزانتها فوجدت المفاتيح في مكانها، وعكس الكثير من الاقوال الشيخ حسن خالد لم يحترق في سيارته وجثته لم يطلها أي اذى، الا تلك الشظية التي اخترقت رأسه وكانت قاتلة، وأخرجناه من السيارة وما زلت احتفظ بساعته وحواز سفره.
# لماذا كان جواز سفره في جيبه؟
كان يستعد للذهاب الى المملكة العربية السعودية، لتوكيد ما طلبه من العاهل المغربي لاقامة قمة عربية من أجل لبنان. وبالمناسبة لقد اغتيل المفتي خالد قبل عشرة ايام من انعقاد القمة العربية التي انعقدت في الدار البيضاء وكان رئيس المؤتمر والداعي اليه العاهل المغربي الحسن الثاني من اكثر المؤتمرين حزناً على الشهيد الكبير اذ قيل لنا انه صعق عندما بلغه اغتيال المفتي الرجل السمح الذي كان احد ابرز رموز الاعتدال في لبنان، والداعية القوي لاعاة اللحمة الى شعبه وأرضه. كما حزن الملوك والرؤساء العرب، ان معظمهم اذا لم نقل كلهم، عرفوا الراحل الكبير، والتقوه مرات عديدة، وعرفوا فيه الاعتدال وبعد النظر في الامور الوطنية وساعياً قوياً الى اعادة السلام والوحدة في لبنان.
وهذا ما كان يحكم علاقته بالجميع المبادىء التي ترسي دعائم لبنان وتقوّيه وهذه مهمته في الحياة لأنه لم يكن يطلب شيئاً لنفسه، وفي هذا الاطار كان يحاول دائماً المحافظة على علاقات جيدة مع الجميع الا ان علاقته بسوريا وبقياداتها دخلت في تجارب كثيرة ومتنوعة.
# هذه القمة التي حصلت وأدت الى اللجنة الثلاثية ثم اتفاق الطائف؟
نعم، ووصلت الرسالة بعد اغتياله بيوم واحد، ووافق ملك المغرب على استقبال قمة عربية لهذا الغرض، ويومها وقف الملك الحسن الثاني، كما اذكر، وقال لقد خسرنا رجل الحوار ورجل محبة وداعي سلام وايمان في احلك الظروف التي يعيشها لبنان وتعيشها الامة العربية لذلك ندعو اللبنانيين ان يحذوا حذوه وان يمشوا على مسيرته وان يمشوا على خطاه لأن لبنان لن يستقيم الا بهكذا رجال.
# عند اغتياله هل خرجت تظاهرات تشييع وهل حمّل المتظاهرون مسؤولية علنية لسوريا عنه؟
كان هناك غضب عارم ونحن نعلم ان اغتيال الشيخ حسن خالد في وقتها تم في ظل الوجود السوري، أي الوجود الامني السوري، الذي كان في ذروة سيطرته على الامور.
# كانت هناك حرب علنية في بيروت بين عون وبين سوريا؟
كان المفروض ان يحمل احدهما المسؤولية.
# لماذا لم يحمّل الشارع المسلم الذي كان يشيع المفتي الشهيد، ميشال عون مسؤولية الاغتيال؟
لأن التاريخ الذي كان يحكم علاقة الشيخ حسن خالد بالسوريين كان واضحاً، الشارع كله كان يعلم بأن السوري لا يتوافق مع مواقف الشيخ حسن، فلما حدث الاغتيال كان من الطبيعي جداً ان توجه اصابع الاتهام الى سوريا، وفعلاً يوم اغتيال الشيخ حسن خالد آلاف الاشخاص اعتقلوا، الذين مشوا وساروا في الجنازة، بعض الناس رفعوا اعلاماً لم توافق عليها سوريا مثل اعلام ((المرابطون)) والحركات السياسية التي كانت على الارض انما الكم الهائل من الناس الذي سار في الجنازة، ولكن يجب ان نتذكر ان الشيخ حسن خالد كان ضد الميليشيات السنية قبل غيرها، لأنه كان يعلم ان هذا السلاح هو سم قاتل يقتل صاحبه قبل ان يقتل غيره.
# لعل هذه احدى نقاط اللقاء مع ميشال عون، الذي كان ضد الميليشيات؟
لذلك كان يدعو الى عودة المؤسسات وعودة الجيش وعودة الشرعية، كان هو المغرد الوحيد خارج سربه من الطيور الهائمة والهائجة في مصالحها الشخصية.. فاعتقل الكثير من الاشخاص الذين هتفوا بحماس وهددوا وتوعدوا واتهموا .
# هل تعتقد ان احداً منهم ما زال موجوداً في السجون السورية؟
لا اشك.. اعتقد ان هناك من هو معتقل في السجون السورية.
# هل اتصل احد من المسؤولين الامنيين السوريين بكم بعد استشهاد المفتي حسن خالد؟
لم يتصل احد.
# وبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري جاء نائب الرئيس عبد الحليم خدام ليؤدي واجب العزاء.. ولم يأت احد رسمياً..
الى دار الفتوى جاء الكثير من الشخصيات السورية مثل غازي كنعان وغيره، اما الى منـزلنا فلم يأت احد.
# كيف فسرتم هذا الامر، هل رفضتم استقبال احد من المسؤولين السوريين كما رفضت اسرة الرئيس الحريري استقبال احد من المسؤولين السوريين؟
في الوقت الذي اغتيل فيه الشيخ حسن خالد كانت بيروت لا تتحمل أي حركة او أي ضغط، وكنا على دراية بأن لا نحمِّل بيروت اكثر، لأننا واجهنا يوم الجنازة اعتقال الكثيرين، واي موقف خطأ كان يمكن ان يسبب لاهالينا وعائلاتنا الكثير من المآسي التي كنا نريد ان نتجنبها.
# خسرتم الشهيد المفتي وسكتم؟
سكتنا لاننا علمنا بأن أي مطالبة بأي شيء لن تجدي نفعاً وانك كمن ينفخ في الهواء.
# ولكن حصل بعد ذلك اتصالات بينك وبين مسؤولين سوريين، هل جربت ان تفتح حواراً حول هذا الموضوع معهم؟
الذي جعل الموضوع السوري يظهر الى السطح انني دخلت الانتخابات عام 1992 وأخذت شعار ((قدرك الشهادة وقدرنا متابعة المسيرة))، هذا الشعار ازعج الكثيرين.
# اعتبر استفزازاً للسوريين؟
ووصلتني رسائل عديدة، ومنها كيف تعتقد انك ستكون نائباً وأنت تستفز سوريا، فقلت لهم انا صادق بهذا الشعار ولا اعني به شيئاً، لا شك بأن قدر الشيخ حسن خالد الشهادة، ولا شك بأنني سأتابع المسيرة مهما كلف الثمن، مع توصية كبيرة لوالدي بأن لا ادخل عالم السياسة، لأنه كان ينـزعج كثيراً من العمل السياسي حيث انه وجد فيه الكثير من الممالأة والكذب والرياء، فكان يحذرني من هذا، ويقول لي اذا كنت قادراً على ان تعمل في السياسة من الباب المختلف تماماً، فأنا معك، ولكن ستتعب كثيراً، وهذه وصيته لي وانا ما زلت محافظاً عليها، لذلك عندما دخلت المعترك السياسي عام 1992 وأسقطت جرت اتصالات عديدة معي وأرسل لي بعض الذين يرسلون عادة، انه لماذا لا تحسن علاقتك مع الاخوة السوريين، وكانوا ينفون عنهم تهمة اغتيال والدي، ويذكرون لي بأنني اثبت وجودي في بيروت وأنني من القيادات، فحسِّن العلاقة لانهم يستطيعون ان يؤمنوا لي الانفتاح على الاخرين، وكان ردي دائماً انه لا مانع من التواصل مع الناس ولكن ضمن اطار مفاهيمنا وتقاليدنا.. وفعلاً حصلت لقاءات عديدة مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام.
# هل حاول ان ينفي امامك مسألة اغتيال والدك الشهيد؟
عدة مرات نفى قطعاً علاقة سوريا باغتيال الشهيد حسن خالد، وطمأنني.. ولكن كنت اشعر بأن هناك نوعاً من الامتعاض من كلمة بيروت، فعندما كنا نقول له ((نحن البيارتة)) كان يرد لا يوجد شيء اسمه بيروت.
# لم يكن يحب البيارتة؟
كان يعتقد ان كل انسان يسكن بيروت هو بيروتي، فأجبته ان البيروتي لا اعني انه الانسان السني المتعصب، وانما الذي يعتبر ان بيروت عاصمة له ويؤمن بقضية العيش المشترك والتواصل مع الآخرين، هذا ما اعنيه، وليس المتعصب الذي يفكر بشكل خارج عن الاطار العقلاني، البيروتي هو الانسان المثقف المتعلم المنفتح ولاحظت حساسيتهم بهذا الموضوع.
# هل قابلت الرئيس بشار الاسد؟
قابلت الرئيس بشار الاسد قبل استلامه منصب رئاسة الجمهورية.
# ألم يتم التطرق الى موضوع استشهاد الشيخ حسن خالد؟
على العكس هو الذي بدأه، واعتبر ان الشهيد حسن خالد كان من الشخصيات اللبنانية العربية المميزة التي لم يخسرها لبنان وحسب وانما خسرتها سوريا وخسرها لبنان في الوقت الذي كان بحاجة الى هذا النوع من الشخصيات التي كانت تساعد، في هذا الوقت كان الوضع حساساً جداً وكان المطلوب اعادة الشخصيات التي خسرها لبنان واليوم مطلوبة اكثر.
# هل جرت مقارنة يوماً ما في الحوار بينك وبين عبد الحليم خدام، بين اغتيال الشهيد كمال جنبلاط وكيف تعامل السوريون مع وليد جنبلاط وماذا قالوا له، وبين اغتيال الشيخ حسن خالد وماذا قال لك السوريون؟
عبد الحليم خدام قال لي: انه ليس لسوريا علاقة باغتيال الشهيد حسن خالد، لكن خدام كان منـزعجاً من بعض التحركات التي يقوم بها وليد جنبلاط وكان يتهم فيها السوريين باغتيال والده الشهيد كمال جنبلاط وكان هذا يزعج خدام كثيراً حتى انه في وقت من الاوقات قال لي خدام، انه ارسل لجنبلاط الذي كان يتهم السوريين باغتيال والده.. نعم قتلنا والدك وماذا تريد بعد، اسكت احسن لك..
# كأن خدام كان يقول لك بالا تمشي على طريق وليد جنبلاط؟
ربما بطريقة غير مباشرة.. وحقيقة انا لم افتح هذا الموضوع معه بتاتاً.
# بالاجمال كيف تصف علاقة المفتي الشهيد بالسوريين؟
كانت علاقته بالرئيس الاسد ونائب الرئيس السوري خدام قبل الاجتياح الاسرائيلي للبنان جيدة جداً وكانت علاقة جميع القوى السياسية الاخرى معهم سيئة، فعند حصول الاجتياح تم القضاء على الفلسطينيين، وتم سحب سلاح المرابطون وتم تزويد حركة امل والحزب الاشتراكي بالسلاح وابتدأوا بالهجوم على البيوت الآمنة في بيروت بدون أي منطق او سبب ومن هنا ساءت العلاقة بين المفتي خالد من جهة وبين السوريين والميليشيات من جهة اخرى، كان المفتي خالد يدافع عن الحق، حق المواطن وكرامته، حق المخطوفين والافراج عن المحتجزين، حق الطلب بفتح كل الملفات بلا تمييز والضرب بيد من حديد على يد كل غاصب وجانٍ، حق يرفع الظلم عن المواطنين الذين ما يزال بعض الممارسات الشاذة ترهق كواهلهم، فتهجر البعض وتكره البعض على بيع املاكه، حق رفع المظاهر المسلحة غير الشرعية التي تمتهن كرامة المواطن والوطن وتتحدى القوانين والاعراف.
# أنت كإبن الشهيد وكسياسي وانسان لمن تحمّل مسؤولية اغتيال الشهيد حسن خالد؟
الذين كانوا يريدون اللاعقل، اللامنطق، اللاحوار الذين كانوا يريدون وطناً ممزقاً ليس فيه مؤسسات ولا قوانين بل زعامات تتبع الغريزة وليس العقل، هم المسؤولون عن هذا الاغتيال، نحن باعتقادنا كعائلة بأن كل شخص هو بريء حتى يثبت العكس، لكن عند الاغتيال كان المسؤول المباشر عن امن بيروت هم الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة امل والمخابرات السورية ونحملهم كامل المسؤولية بعدم تأمين الحماية له، وعند استشهاده لاحظنا بأن كثيراً من الشباب المناصرين له تم اعتقالهم بدون أي تهمة، او سبب، وتم ارسال نصائح لنا بعدم الخوض في السياسة لأنهم كانوا يريدون ان ينسوا خطه، خط الحقيقة والمواجهة والمنطق والوحدة والاعتدال والمساواة والعدالة بين الناس، أليس هذا مستغرباً!
# هل من كلمة توجهها الى روح الوالد؟
بعد 16 عاماً من الاغتيال نقول للمفتي خالد وينك اليوم؟ نفتقد فيك الحكمة، نفتقد فيك انصاف المظلوم وانعاش الفقير نفتقد فيك المؤسسات والقوانين وليست الغرائز والمزاجات اللاعقلانية، ايها الشهيد الكبير كنت الشاهد الكبير على الجرح النازف، وصاحب المواقف الوطنية اليقظة، واغتيالك زحف بنا الى الهلاك والعار كل العار ان يبقى الوطن رهينة اهل الشر والحقد وان تبقى اعيننا معصوبة بالعمى عن الحقيقة، والبحث عن الذات، ان الذين اغتالوا شخصه لم يدركوا ان مثل هذا التراث الروحي والوطني هو حي في نفوسنا ولن يستطيع احد ان يغتاله ابداً، ونحن نشيد بهذا التراث، لا لنوفي فقيدنا العزيز بعض حقه علينا فحسب، بل لنذكِّر مواطنينا بأن وعيهم روح هذا التراث، والتزامهم بمبادئه يمكن ان يوجهاهم نحو بداية جديدة للبنان جديد.
اريد وضع حلقات العنف التي ابتدأت بإخفاء السيد موسى الصدر، إمام المحرومين وأحد رواد الحوار الاسلامي – المسيحي.
وتبعه كمال جنبلاط المتطلع الى جمهورية لبنانية تقدمية اشتراكية، والمناضل لتحرير الشعب العربي وسائر شعوب العالم الثالث.
ولحق بهما بشير الجميل، بعدما التزم جمهورية لبنانية موحدة ودولة عصرية لا سيادة فيها الا للشعب، ولا حكم الا للقانون.
وأدركهم رشيد كرامي المتفاني في سبيل الجمهورية الديموقراطية الوطنية التي يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وتوج باغتيال حسن خالد وهو يبشر بجمهورية لبنان الواحد التي تسودها القيم العلوية الاسلامية المسيحية، قيم التراحب والتحاب، ويتكامل مواطنوها المسلمون والمسيحيون في ظل الحرية والعدل والمساواة التامة في الحقوق والواجبات.
فهل تكون المصادفة وحدها هي التي جعلت قادة لبنان ذوي المشاريع الاحيائية، هم الذين يستهدفهم الاغتيال؟ وهل يكون من المصادفة ان الذين يحيق بهم الخطر، اشد الخطر هم القادة الذين يلتزمون العقل، ويستنكرون العنف، ويعتمدون التحاور ويستهجنون التقاتل منهجاً لتسوية الازمة اللبنانية.
المفتي الشهيد واللقاء الصحافي الاخير مع ((الشراع))
كانت ((الشراع)) آخر من التقى المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد في دار الفتوى قبل انتقاله من مكتبه الى منـزله في الرملة البيضاء حيث تعرض في الشارع الرئيسي قبالة جامع عائشة بكار لجريمة اغتيال ادت الى استشهاده.
في اللقاء الاخير وهو آخر حوار صحافي اجري مع المفتي الشهيد ونشرته ((الشراع)) في العدد 374 بتاريخ 22 ايار/مايو 1989، كان الشهيد بادي القلق على مصير لبنان، الا انه كان يعلق آماله على القمة العربية التي كانت على وشك الانعقاد لبحث سبل وقف الحرب في لبنان وإعادة الامن والاستقرار والسلم الى لبنان، ومتفائلاً في الوقت نفسه بإرادة اللبنانيين في المنطقتين لتجاوز الحالة الشاذة.
وبالفعل، انعقدت القمة العربية ولكن بعد استشهاد المفتي خالد وتقرر بناء لنتائجها تهيئة المناخات الدولية والعربية واللبنانية التي أمنت ولادة ((وثيقة الوفاق الوطني)) في مدينة الطائف السعودية بجهود اللجنة العربية الثلاثية العليا التي ضمت السعودية والمغرب والجزائر.
[عودة لصفحة الملف الأسود ] [ الصفحة السابقة ]